للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مدنية القوانين
وسعي المتفرنجين
لنبذ بقية الشريعة وهدم الدين
(٣)

سبب حرب متفرنجة المسلمين للإسلام
إن خُوَّاص الأمم وقادتها هم أهل العلم الذين يتبعهم السواد الأعظم من العوام
في أمور دينهم ودنياهم كالتعليم والإرشاد، وشؤون الحكومة من سياسة، وإدارة
وقضاء، وحفظ للأمن، ودفاع عن الوطن، وكل ما تحتاج إليه الأمة في حفظ
مصالحها الدينية والدنيوية من علم، وعمل - فحكم الإسلام فيه أنه واجب شرعًا،
ولم يكن للدول الإسلامية التي أسسها خلفاء الإسلام في جزيرة العرب، والشام،
والعراق، ومصر وغيرها من آسية، وإفريقية، وأوربة (كالأندلس) - علم
يستمدون منه أحكام الإدارة والسياسة والقضاء والحرب إلا الفقه الإسلامي المبني
على قواعد كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسيرة الخلفاء
الراشدين وهدي السلف الصالحين، وكان كافيًا لذلك في عصورهم، ولا يزال كذلك،
ولن يزال إذا سلك المسلمون فيه طريق الاجتهاد الذي سار عليه سلفهم.
ثم ضعفت الحضارة الإسلامية بضعف دولها بضعف هداية الإسلام فيها، ثم
قويت حضارة أوربة، واعتزت دولها، وارتقت علومها وفنونها، ونظمها وقوانينها،
فمكَّنتها هذه القوى من السيادة على أكثر ممالك الإسلام، وكانت هذه السيادة
ضروبًا، لها أسماء ورسوم يمتاز بها بعضها عن بعض، وانتشر بعض علومها
وقوانينها في هذه الممالك تابعًا لتلك السيادة في بعض البلاد، ومتبوعًا أو ممهدًا لها
في بعض، وكثرت المدارس الأجنبية فيها من قِبَل دعاة النصرانية الأوربيين،
والأميريكيين لنشر تلك العلوم والقوانين مع الدعوة الدينية، وقلدتها بعض
الحكومات الإسلامية المستقلة بالاسم وبالفعل في مناهج التعليم ومواده، وتلا ذلك
اقتباس قوانينها، والتشبه بها في عاداتها وأزيائها وغير ذلك، فعظمت سيطرة
هؤلاء الأجانب على العقول والقلوب بتصرفهم في تربية النشء وتعليمه - تصرفًا
قصد به قطع جميع روابطه الملِّية والقومية، وجعله عالة عليهم في كل شيء.
إذا كان هؤلاء الإفرنج قد عجزوا عن تنصير المسلمين بمدارس جمعياتهم
الدينية - فإنهم لم يعجزوا عن إبطال ثقة الكثيرين منهم بدينهم، الذي هو مستمد
فضائلهم وآدابهم النفسية والاجتماعية؛ لتصبح الأمة المكوَّنة منهم لا فضيلة لها في
نفسها ولا آداب، وإبطال ثقتهم بشرعهم العادل الذي هو أساس حضارتهم ومجدهم،
والمكوّن لدولهم التي هي مناط شرفهم التاريخي؛ لتكون الأمة المكوَّنة منهم لا
مَجْدَ لها، ولا تشريع ولا تاريخ، وإبطال ثقتهم بلغتهم، الحافظة لشرعهم وآدابهم
وتاريخهم وحضارتهم، لعدم شعورهم بالحاجة إليها بفقد الشعور بالحاجة إلى ما
تحفظه من ذلك، وتوجه هِممهم إلى استبدال شرائع أساتذتهم وآدابهم وحضارتهم
ولغتهم بما كان لسلفهم من ذلك، أي ليخرجوا عن كونهم أمة ذات مقومات
ومشخصات مستقلة؛ فيفقدوا أعظم أركان الاستقلال القومي، ويكونا كاللقيط الذي
يجهل أهله ونسبه، ولا يستطيع أن يتصل بأسرة يلتحق بها؛ فيكون أبتر في الناس،
فهذا سبب التفرنج الذي نشكو بعض آثاره في الملة، ولو كان أمر التربية وتعليم
العلوم والفنون الدنيوية في يد زعماء الملة وعلمائها - لما ازدادت الأمة بها إلا قوةً
واتحادًا كما سبق لسلفها.
كان خلفاء المسلمين وأمراؤهم وعلماؤهم - في عصور حضارتهم - يرون
أنفسهم أَوْلى من كل البشر بكل علم وكل فن ينفع الناس في معايشهم أو عقولهم أو
أبدانهم، حتى أحيوا العلوم الميتة والفنون الدارسة، وكانت هذه العلوم والفنون تُقرأ
مع علوم الدين في مساجد المسلمين ومدارسهم، وما وجدوا شيئًا منها مخالفًا لشيءٍ
من نصوص الدين إلا وحكموا فيه بأحد أمرين إما كونه باطلاً، فلا يُؤبَه لمخالفته
الدين، وإما كون مخالفته صورية لا حقيقية لإمكان الجمع بين ما ثبت منه وبين
النص.
ثم صرنا إلى عصور ضعف فيها العلم بالدين وبلغة الدين وبسائر العلوم
والفنون التي كان المسلمون منفردين بها في العالم، وكان لذلك أسباب: أهمها
إيجاب تقليد المصنفين الميتين، وتحريم العلم الاستقلالي على الأحياء أجمعين،
بدعوى أنه من الاجتهاد المتعذر على المتأخرين، وإهمال التربية الملية التي
تصحح النية في طلب العلوم والفنون، وتوجهها إلى ما به ترتقي الأمة وتعتز.
ولكن الإفرنج - الذين اقتبسوا استقلال الفكر والعلم الاستدلالي من المسلمين،
فكانا سببَيْ ارتقائهم - قد ردوهما إلى المسلمين؛ ليستعينوا بهما على إقناعهم بكل
ما يريدون من السوء بهم، من حيث لا يشعرون بردهما إليهم، وبإمكان استفادتهم
منهما في دينهم ودنياهم، بعد أن حال دونها رجال الدين الإسلامي، بما أقفلوا في
وجوههم من باب الاستقلال بطلب علم الدين بالدليل، وقد تربوا على أن لا يقبلوا
شيئًا بدون دليل؛ فكثر مروقهم من الدين، ثم اقتنع كثير منهم بأن الدين عقبة في
طريق ترقِّيهم؛ فصاروا يحاربونه بالعلم والعمل!
رجال الدين ورجال الدنيا
بهذا دخل عوامّ المسلمين في باب التنازع بين عاملي زعماء الدين وزعماء
الدنيا، كل منهما يجذب العوام إليه، وإننا نرى أن زعماء الدنيا أقدر على جذبهم
إلى مدارسهم وإلى تقليدهم؛ فطلابها وطالباتها يزدادون سنة بعد سنة، ويبذلون
المال لها، وطلاب علوم الدين في نقصان، على كون تعليمها بالمجان، وقلما يُقبل
عليه إلا الفقراء، الذين يعتصمون به من الخدمة العسكرية أو بدلها المالي، وقد
أصبحت مناصب الحكومة وأعمالها، وهي تكاد تكون محصورة في خريجي
مدارس الدنيا، وهم يكيدون لما بقي لرجال الدين منها، وهو القضاء الشرعي
المحدود الذي هو موضوع بحثنا في هذه المقالات: إما بإبطاله، وجعْل جميع
الأحكام قانونية وضعية حتى الأحكام الشخصية، وإما بالتوسل إلى إلغاء القضاء
الشرعي بجعْل الأحكام الشخصية الشرعية قانونًا، وإبطال كونها دينًا.
يعمل هؤلاء المتفرنجون كثيرًا، ورجال الدين لا يعلمون شيئًا، للمتفرنجين
أحزاب وجمعيات كثيرة سياسية واجتماعية واشتراكية. وليس لرجال الدين حزب
ولا جمعية ذات نظام، المتفرنجون هم الأقلون، ولكنهم يزيدون ولا ينقصون،
والدينيون لا يزالون هم الأكثرين، ولكن كثرتهم إلى قلة، ورابطتهم إلى انحلال!
كان طلاب المدارس المدنية هم الجند العامل في انقلاب سياسي، فلما شاركهم
طلاب الأزهر بمصر في ذلك اتحدت الحكومة مع السلطة الأجنبية على كبح
جماحهم، والحجر عليهم وحدهم، ووافقتها مشيخة الأزهر على ذلك لضعف إرادة
رؤسائها، وحرصهم على ما بيد الحكومة من رزقهم، وهذا الحجر مبني على
القاعدة الإفرنجية، المؤسسة لإزالة السلطة والسيادة الإسلامية، وهي (فصل
السياسة من الدين) ، والذي يقتضي أن لا يشترك علماء الدين ولا طلابه في شيء
من أعمال السياسة ولا شؤون الحكومة.
ما كل متعلم في المدارس المدنية متفرنجًا، وما كل متفرنج ملحدًا، وما كل
ملحد خادمًا للإفرنج، أو مشايعًا لهم، بل جُل ما في البلاد الإسلامية من سعي
لاستقلالها، ومقاومة سلطة الأجانب فيها، فهؤلاء المتفرنجون هم جل القائمين به،
وقد بينا في المقالة الثانية من هذ المقالات أن لهؤلاء المتفرنجين مقاصد، ونيات
مختلفة في محاربتهم لهذه الشريعة التي يجهلونها، ويجهلون مكانها من تكوين أمتهم
وحياتها، وأن منهم مَن يعتقد أنه يخدم أمته ووطنه باستبدال القضاء عليها بالقضاء
بها، ونقول الآن: إن إثم هؤلاء وغيرهم ممن يظن بالشريعة ظنهم - وإن لم يكن له
مثل نيتهم - على عاتق الطائفة التي ليس لها رزق ولا مال، ولا احترام ولا جاه،
إلا من وقف حياتهم على الاشتغال بعلوم هذه الشريعة ووسائلها تعليمًا وتصنيفًا،
وإفتاءً وقضاءً، أعني طائفة علماء الدين، الذين صاروا حجة على الدين، وفتنة
للمؤمنين والكافرين {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الممتحنة: ٥) .
من الواجب على هذه الطائفة - بما أخذ الله عليها من الميثاق - أن تبين
للناس ما نزل إليهم تبيينًا يثبت لهم بالآيات البينات أن فيه سعادتهم في معاشهم
ومعادهم، وأنه كله حق وخير وعدل وصلاح، وأنه خالٍ من كل باطل وشر وظلم
وفساد، وأن أحكامه الدنيوية موافِقة لمصالح البشر في كل زمان ومكان، وأن
سلطته ليست شخصية، ولا مما يسمونه (الأتوقراطية) ، بل هي حكومة شورى
شعبية، وأكمل مثال لما يسمونه (الديمقراطية) ، وأن ولي الأمر فيها مسئول غير
مقدس، ومقيد بمشاورة أهل الحل والعقد، الممثلين لسلطة الشعب، وأن تسهل
سبيل فهمه وتعلُّمه لكل طبقات الأمة، بما يليق بها من المصنفات بالطرق المعروفة
في فن التعليم والتربية، بأن يوضع بعضها للأطفال، وبعضها للعوام لمَن فوقهم من
طلاب العلم، وبعضها للقضاة والمتقاضين.
وكان مما ينبغي للأخصائيين منهم بهذا النوع الأخير - أن يطَّلعوا على كتب
القوانين الوضعية بأنواعها، ويعرفوا ما فيها من حَسن وقبيح، وعدل وظلم؛
ليزدادوا بصيرة في محاسن شريعتهم وطرق خدمتها، وينظروا ما في كتبها الفقهية
المتداولة من تقصير أو تعقيد أو نقص سببه ما حدث للناس من المعاملات التي لم
تكن في عهد مصنفيها، فيتداركوا ذلك كله، ويثبتوا لكل ناظر - فيما يضعونه من
الكتب الحديثة - أن هذا الشريعة كاملة لا يمكن لأهلها الاستغناء بها عن سواها،
مع العمل بما ورد من أن (الحكمة ضالة المؤمن؛ فحيث وجدها فهو أحق بها) .
كما ينبغي للأخصائيين في علم العقائد أن يكون لهم إلمام كافٍ بالعلوم
العصرية والفلسفة الحديثة، وأصول الأديان المشهورة، وتواريخ الملل الكبيرة؛
ليعرفوا نسبتها إلى الإسلام، وما بينها وبينه من المشاركات والمباينات، وما في
ذلك من الشبهات، وللأخصائيين في علم الإرشاد العام والتربية أن يكون لهم إلمام
بسيرة الجمعيات الدينية عند الإفرنج، ومقلديهم من نصارى الشرق في مدارسهم
ومصنفاتهم، وسيرة قسوسهم ورهبانهم وراهباتهم؛ ليعلموا كيف يحوطون كل طبقة
من طبقات أهل ملتهم بما يليق بها من تلقين الدين، والترغيب فيه، والدفاع عنه،
وغير ذلك.
وكان مما يجب عليهم أن يكونوا خير قدوة للأمة، وحجة للملة، بعلومهم
وهَدْيهم، وإفتائهم وقضائهم، وأخلاقهم وآدابهم، وإحياء السنن، ومحاربة البدع،
والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتتبُّع شبهات الملاحدة والمبتدعة والرد
عليها، ووقاية العامة من شرها ... إلخ.
كل ذلك لم يكن، بل جُل حظهم من العلم أن طالب العلم - في مثل الأزهر
وملحقاته بمصر، والفاتح والسليمانية بالآستانة، وجامع الزيتونة بتونس،
والنجف بالعراق، وديوبند بالهند - يناطح كتبًا معينة بضع عشرة سنة أو أكثر:
مناقشة في مفرداتها وجملها، وأساليبها الركيكة في الأكثر؛ ليؤهل نفسه بذلك
لامتحانٍ يكون بفوزه فيه إمامًا أو خطيبًا في مسجد، أو مدرسًا في هذه المعاهد
الدينية، أو قاضيًا في المحاكم الشرعية، فيكون له بذلك رزق مضمون، ومقام
معلوم، وهو لا يستفيد من هذه الكتب - التي يقتلها مناقشةً وجدلاً في ألفاظها -
غيرة على الدين، ولا اهتمامًا بأمر المسلمين، ولا استعدادًا لنشْره في العوام، ولا
لرفْع شأنه في الخواص؛ وذلك بأنهم - كما قال الأستاذ الإمام -: (يتعلمون كتبًا
لا علمًا) ! .
نعم، إن بين هذه المدارس وأهلها تفاوتًا في العلم والعمل، والاستفادة من علم
الشرع؛ فعلماء (ديوبند) أبعد علماء المسلمين عن الدنيا ومناصب الحكومة،
ولعلماء النجف من الجاه فوق ما لغيرهم من أمثالهم، وعلماء الترك لا يزال لهم
مقام رفيع، وتأثير في الحكومة والأمة، وإنما علماء مصر هم أقل علماء الإسلام
حظًّا في الدنيا على رغبتهم فيها؛ إذ هم - فيما نعلم - أشدهم تقصيرًا!
احتاجت الحكومة المصرية إلى تعليم العربية في مدارسها، فأنشأت مدرسة
دار العلوم لتخريج أساتذة لها؛ إذ لم تجد في الأزهر غناءً، ثم لما ضجَّت الأمة من
فساد المحاكم الشرعية، واضطرت إلى إصلاحها لم تجد بُدًّا من إنشاء مدرسة
خاصة للقضاء الشرعي؛ لأن الأزهر قد عجز عن تخريج قضاة ترضاهم الحكومة
والأمة!
وكل مَن له من هذه الطائفة مزيَّة مما تجب لأهلها فإنما سببها استعداد خاص
فيه، وتوفيق اتفاقي أُتيح له، لا طريقة التعليم المطَّردة، كالأستاذ الإمام الذي
عرف قيمة علمه وعقله وفضله الغربُ والشرقُ، والإنس والجن، وجهله أكثر
علماء الأزهر، الذين قضى أفضل سِنِي عمره في الجهاد لإصلاح حالهم، وجعْلهم
أئمة لهذه الأمة، التي اعترفت له كلها بالإمامة، وساعده المنار في جهاده هذا،
فقاومه كبراء الشيوخ بكل ما أُوتوه من حول وقوة، ومن بقية المكانة الرسمية لدى
الأمراء والحكام، والوهمية أو الخيالية عند العوام!
لقد مات الأستاذ الإمام، فأنشأوا يعرفون من فضله - بالتدريج - أكثر مما
كانوا يعرفون، ويقرُّون بما كانوا يجحدون، وهم مع هذا لا يزالون لإصلاحه
يقاومون، فقد كان من طريقه الإصلاحي أن يذكر في التفسير بعض التأويل لما
يشتبه على أهل العصر من الآيات، التي يظنون أنها لا تتفق مع بعض العلوم أو
المكتشفات، مع تقريره لترجيح ما كان عليه السلف الصالح على كل ما خالفه،
وكان مما ذكر من دفع بعض الشبهات مسألة خلق البشر من نفس واحدة، فذكر أنه
ليس في القرآن نص قطعي أصولي على أن هذه النفس هي آدم، كما نعتقد نحن
وأهل الكتاب، وقد تصدى بعض علماء الأزهر - أيهم يقال عنه إنهم أعرف بحاجة
العصر من غيرهم - إلى تكفيرنا من عهد قريب؛ لأننا نشرنا رد هذه الشبهة في
المنار، وكتب في ذلك مقالات في بعض الجرائد، ومن العجيب أن يرشح صاحب
هذا التكفير بعض تلاميذه لأن يكون خليفة الأستاذ الإمام! ! ، وقد اطَّلعت في هذه
الأيام على كتاب طُبع بمصر لشيخ مغربي يوزَّع بغير ثمن، وموضوعه تجهيل
الأستاذ الإمام وصاحب المنار، وتكفيرهما بمقاومتهما للبدع، وترغيبهما في علوم
الكفار كالفلك وتقويم البلدان ... إلخ!
كل ذلك لم يكن، وكل هذا قد كان، فكان من جرَّائه أن بقيت حقائق الدين
مجهولة، ومحاسن الشريعة مدفونة، وطرق العلم بها حالكة الظلام، مشتبهة
الأعلام، والبدع في ازدياد، تمهد السبيل لفشوِّ الإلحاد؛ فإن هؤلاء المتفرنجين -
الذين نشكو من محاربتهم للشريعة كالإفرنج - لا يعرف أكثرهم من الإسلام إلا أنه
ما عليه جمهور المسلمين من الشعائر والعقائد، والأذكار والموالد، الممزوجة بالبدع
والخرافات، والتقاليد الباطلة والعادات؛ فإنهم يرون كبراء العلماء يتصدَّرون
تلك الاحتفالات، ويشاهدون طواف الألوف من النساء والرجال بالقبور المشيدة
المنسوبة إلى آل البيت والأولياء المجلَّلة بالكشمير، كطواف الحجاج ببيت الله
خاشعين داعين مستغيثين بصاحب القبر.
بل كثيرًا ما يقف هؤلاء المتفرنجون على وقائع اضطهاد بعض هؤلاء العلماء
الأعلام لكل عالمٍ أو طالبِ علمٍ ينكر هذه البدع، ويجاهر بالدعوة إلى اتباع السلف
كاضطهادهم للشيخ محمد الرمال الدمياطي، وإخراجه من دمياط، وللشيخ مصطفى
الشريف في طنطا، ونقله من المسجد الأحمدي إلى معهد أسيوط، وللشيخ محمد
عبد الظاهر في الإسكندرية، وقد حرضوا العامة عليه هذه الأيام، فضربوه ضربًا
مبرِّحًا، ولكنهم إذا لقوا مَن يعتقدون فسوقهم ومروقهم من الدين - من رجال
الحكومة أو كبار الأغنياء - يتملَّقون لهم بالتعظيم والمبالغة في الدعاء.
هذا شأنهم في اضطهاد مَن تحت رئاستهم، ولا يملكون أكثر منه، وقد تجرأ
أحد قضاتهم الشرعيين على الحكم برِدَّة الشيخ محمد أبي زيد - أحد تلاميذ مدرسة
دار الدعوة والإرشاد - والتفريق بينه وبين زوجه؛ إذ احتسب أحد علماء الأزهر
بإبلاغ ذلك القاضي أنه قد ارتد عن الإسلام؛ إذ قال: إن الدليل على رسالة آدم
غير قطعي، وهو معارَض بحديث الصحيحين وغيرهما الناطق بأن نوحًا أول
رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ولكن قاضي الاستئناف كان أعلم وأحكم من
هذا القاضي، فنقض حكمه.
وغاية دفاعهم عن الدين أن يطلبوا من الحكومة إبطال بعض الصحف عندما
تنشر شيئًا مخالفًا للدين، أو للمذاهب المشهورة فيه، وقد بلغنا أنهم طلبوا منها
أخيرًا أن تأمر بمنع مجلة (القضاء الشرعي) ، التي أنشأها بعض أساتذة هذه
المدرسة وطلابها النجباء؛ لأنه نُشر فيها بحث في إمضاء عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه - الطلاق الثلاث باللفظ الواحد، خلافًا لما جرى عليه العمل في
عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد خلافة أبي بكر رضي الله عنه،
وسنتين من خلافته.
ويعتقد هؤلاء المتفرنجون أنه لو كان لهؤلاء العلماء نفوذ في الحكومة لمنعوا
بقوتها حرية العلم والاعتقاد والعمل في كل ما يخالف معارفهم التقليدية في الدين،
بل لتحكَّموا في حرمان مَن شاؤوا من الدين، وعقابه حتى بالقتل! ، كما كان يفعل
غيرهم من النصارى؛ إذ كان رؤساؤهم في الدين مثلهم في معارفهم.
ما ذكرناه أولاً وآخرًا هو علة العلل لما فشا في المسلمين من الإلحاد في الدين،
والإعراض عن الشريعة، وتفضيل بعض المتفرنجين القوانينَ الوضعيةَ عليها في
مصر والآستانة وكل قطر دخل فيه التعليم الأوربي، وأصر فيه جمهور علماء
المسلمين على جعْل الشرع محصورًا فيما قال مصنفو كتب مخصوصة إنه المعتمد
أو المفتَى به في المذهب، وإن خالف ظواهر القرآن والأحاديث الصحيحة ومصلحة
الأمة والدولة.
ومن هذا الجمود التقليدي أن شيوخ الإسلام في الآستانة يحظرون الفتوى بما
في مجلة (الأحكام العدلية) ؛ لأن بعض موادها مخالف للمعتمد في مذهب الحنفية،
ولقد قلت لشيخ الإسلام موسى كاظم أفندي - بمناسبة حديث بيننا -: إنني مستعد
أن أستخرج لكم من الشريعة الغرَّاء كل ما تمس إليه حاجة العصر في غير الربا
القطعي إذا كنتم تنفذونه، قال: أنا أعلم أن هذا سهل وأتمناه، ولكن ماذا نفعل في
مشايخ الفتوى خانه؟ !
يعلم الله تعالى أننا نود لو يكون علماء الشرع فينا هم قادة هذه الأمة في دينها
ودنياها، إننا لم نلقِ ما ألقيناه - منذ إنشاء المنار - من التبعة عليهم في تقصيرهم
إلا لأجل حفز هممهم لتلافي ذلك التقصير، وأول ما يجب أن يعرفوه من حال
العصر وأهله في هذه السبيل - أن حرية العلم والرأي واستقلال الفكر مقدَّسان عند
جميع المتعلمين في غير المدارس الدينية، وكذا عند بعض المتعلمين فيها،
والأولون هم أولو الأمر والنهي في الحكومتين التركية والمصرية، فإذا لم يقدر
العلماء هذه الحرية والاستقلال قدرهما، ويرجعوا عن إصرارهم على التقليد الأصم
الأبكم الأعمى - فإن هؤلاء يغلبونهم على عامة الأمة، ويتركون ما بقي من صلة
الحكومة بالدين والشريعة، عملاً بقاعدة (فصل الدين عن السياسة) ، بالمعنى
الذي يفهمونه، ويدعو إليه بعضهم اليوم، لا بالمعنى المعروف عند علماء الشرع
في مثل قولهم: يصح كذا قضاءً لا ديانةً، أو ديانةً لا قضاءً.
ويُعلم من قول شيخ الإسلام - الذي ذكرناه آنفًا - أنه يوجد في علماء الترك
أفراد من المستقلين في علم الدين، العارفين بحال العصر، وما ينبغي من الإصلاح
فيه، ويوجد مثلهم في مصر وتونس والهند، ولكنهم مغلوبون على أمرهم، حتى
إن الذي يصل منهم إلى مقام المشيخة الإسلامية في الآستانة، وإلى مقام إفتاء الديار
المصرية في القاهرة - يبقى مغلوبًا على ما يريد من الإصلاح بجمود السواد
الأعظم من هؤلاء المقلِّدة.
فإذا تيسَّر أن يكون لهؤلاء المستقلين من العلماء حزب قوي منظم، وعرفوا
الطريق المستقيم لحفظ الدين والشريعة وسلكوه، فإنهم يجدون من هؤلاء المتفرنجين
أنصارًا، حتى يكون الشاذ منهم قليلاً وضعيفًا، لا تُخشَى عاقبة شذوذه، وسنذكر في
المقال الآتي ما ينبغي الأخْذ به في هذا الطريق، وبالله التوفيق.