للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رفيق العظم
وفاته وترجمته

في يوم عرفة (٩ ذي الحجة سنة ١٣٤٣ الموافق ٣٠ حزيران يونيو)
سنة ١٩٢٥ فجعت البلاد المصرية والسورية، بل الأمة العربية، برجل كان من
أعلى رجالها قدرًا، وأنبههم فيها ذكرًا، وأعظمهم لديها زخرًا، رجل الحسب
الشامخ، والأدب العالي، والفكر المنير، والوطنية الصادقة، العالم المؤرخ،
الكاتب الاجتماعي، العامل السياسي، صديقي الوفي (رفيق بك العظم) ابن
محمود بك خليل العظم من أسرة آل العظم السورية العريقة في المجد، ففقدت الأمة
بفقده زعيمًا كبيرًا، ونابغًا حكيمًا، وكاتبًا قديرًا، في زمن هي أحوج فيه إلى
الرجال المحنكين، والزعماء المخلصين منها إلى العافية للأبدان، والطمأنينة
للحيران، فرحمه الله تعالى.
***
نشأته الأولى
ولد الفقيد في دمشق سنة ١٢٨٢هـ، ونشأ كما كان ينشأ أمثاله من أبناء
الوجهاء المترفين في ذلك العهد، فلم يُعن والده بتعليمه في مدارس العلم العربية؛
لأنها خاصة برجال الدين، ولا في مدارس الحكومة العثمانية الإعدادية والعالية؛
لعدم شعوره بالحاجة إلى تخريجه فيها، أو عدم رغبته بجعله من عمالها وموظفيها،
الذين لا تكنهم دار ولا يقر لهم بين أهلهم قرار، أو لمحض الإهمال، على أنه
هو لم يتعلم تعلمًا منظمًا وإنما أخذ بعض المبادئ عن بعض شيوخ عصره، وكان
يعاشر العلماء والأدباء والمتصوفة، ويطالع الكتب ودواوين الشعر لأجل التسلية،
فكان بذلك شاعرًا ومؤلفًا في الأدب والتصوف، وجاء فقيدنا وارثًا له في ذكائه
ونشأته؛ ولكنه فاقه في الجد والعلم النافع والعمل، أخذ التعليم الابتدائي في كتاب
أهلي، ثم أخذ شيئًا من مبادئ اللغة العربية عن الأستاذ الفاضل الشيخ توفيق أفندي
الأيوبي الشهير، وكان كل ما حصله بعد ذلك بمطالعاته الشخصية، فهل كان يدور
في خلد أحد أن مؤلف كتاب أشهر مشاهير الإسلام وغيره من الكتب والرسائل
والمقالات الكثيرة في كبرى الجرائد والمجلات المصرية لم يقرأ كتابًا حافلاً من كتب
النحو والصرف ولا من كتب المعاني والبيان، ولم يتلقَّ علمًا ولا فنًّا قديمًا ولا
حديثًا عن أستاذ؟ فما هذا الذكاء النادر الذي وضعه في مصاف العلماء المصنفين،
والكتاب المجيدين؟ وما تلك الهمة العالية التي رفعته إلى مقام الزعماء السياسيين،
ورجال الانقلاب المدبرين؟
كان رفيق ذكي الفؤاد ميالاً بفطرته إلى العلم والجد ومعالي الأمور، عزوفًا
عن سفاسفها وصغائرها، نبت به هذه الفطرة الزكية عن صرف أوقات صباه في
اللهو واللعب مع أمثاله من أبناء الموسرين، وجذبته إلى معاشرة أهل العلم والأدب
والأفكار في الأمور العامة: كالأستاذ المرحوم الشيخ طاهر الجزائري والأستاذ
الشيخ سليم البخاري والأستاذ الشيخ توفيق الأيوبي من كهول مشيخة الشام،
والأستاذ الشيخ محمد علي مسلم ومحمد أفندي كرد علي من الأتراب، وحُبب إليه
البحث ومطالعة كتب الأدب والتاريخ، وكانت نزعته العلمية وكذا الاجتماعية
إسلامية، حتى إن علماء الأقطار البعيدة الذين وصلت إليهم كتبه ورسائله بعد ذلك
كانوا يظنون أنه من علماء الدين.
***
اشتغاله بالسياسة وهجرته إلى مصر
ثم إنه كان يعاشر أحرار رجال الحكومة العثمانية من الترك وغيرهم أيضًا،
وتعلم اللغة التركية باجتهاده حتى صار يقرأ كتبها وجرائدها، وإذ كان ميالاً بطبعه
إلى السياسة والأمور العامة استماله بعضهم إلى الاشتغال معهم في جمعياتهم السرية،
فدخل أولاً في جمعية الدستور التي أسسها في الشام أسعد بك مدير البوليس فيها،
ثم في جمعية الاتحاد والترقي.
ولما اشتد السلطان عبد الحميد في مطاردة السياسيين العثمانيين طلاب
الدستور، وطفق ينكل بمن يتعذر استمالته منهم بالوظائف أو الرتب والنياشين؛
أزمع الفقيد الهجرة إلى مصر، ويقول شقيقه الكبير عثمان بك: إن ذلك كان سنة
١٨٩٤م.
وبعد استقراره في مصر واتخاذها دار هجرة ومقامة، طفق ينشر المقالات
السياسية والاجتماعية في أشهر جرائدها اليومية: الأهرام، فالمقطم، فالمؤيد،
فاللواء، وفي أشهر مجلاتها: كالمقتطف، والهلال، والمنار، والموسوعات،
وكان يختلف إلى مجالس الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ولا سيما بعد تلاقينا
وتوادنا، وكان له بالشيخ على يوسف صاحب المؤيد صلة ود وثيقة، ثم كان من
أصدقاء الزعيمين السياسيين مصطفى كامل باشا ومحمد فريد بك منذ نشأتهما
السياسية الأولى، وظهورها في ميدان السياسة إلى آخر عمرهما حتى إنه رثى
محمد بك فريد حين علم بموته - طريد وطنيته - في أوربة بأبيات من الشعر
وجدهما شقيقه عثمان بك في أوراقه، وقد رثى قبله الأستاذ الشيخ طاهرًا، ولعل
هذين الرثائين آخر ما نظم، وليسا كل ما نظم، فقد كان - رحمه الله - ينظم
الشعر بما يجده من الداعية في نفسه لإرضاء نفسه، ولكنه لم يكن يحب أن ينشر
شيئًا من شعره في الجرائد ولا أن يظهره للناس، إما لأنه لم يكن يراه بالمنزلة
اللائقة بشهرته، أو لأنه لم يكن يحب أن يسمى شاعرًا، وإذ كان الشعر عنده أمرًا
ثانويًّا ذكرناه في ترجمته استطرادًا.
***
تلاقينا وتعاوننا على خدمة الأمة
في منتصف سنة ١٣١٥ (الموافق لخريف سنة ١٨٩٧م) هاجر كاتب هذه
الترجمة إلى مصر، وفي الربع الأخير منها أنشأ (المنار) فكان سببًا للتعارف
والتآلف بينه وبين الفقيد، فالتعاون على الإصلاح السياسي والاجتماعي فالاشتراك
في الأحزاب والجمعيات السرية والجهرية.
وكانت أول جمعية سياسية أسسناها بمصر (جمعية الشورى العثمانية) وقد
اشترك في تأليفها معنا رجال من سائر الشعوب العثمانية الكبرى وفي مقدمتهم الترك
والجركس والأرمن، وكان من أعضائها المؤسسين الضابط صائب بك الذي كان
حاجبًا لصاحب الدولة أحمد مختار باشا الغازي، ومندوبًا لجمعية الاتحاد والترقي
بمصر، ثم ترك خدمة المندوب العثماني السامي؛ إيثارًا للسياسة التي تغضب
السلطان عليها، ومنهم الدكتور عبد الله جودت بك المشهور أحد مؤسسي جمعية
الاتحاد والترقي أول مرة، وكان هو (السكرتير التركي) لها، وكان الفقيد أمين
صندوقها وابن خاله حقي بك (سكرتيرها العربي) وكاتب هذه السطور رئيس
مجلس إدارتها.
كان تأسيس هذه الجمعية موافقًا لرأي صاحب الدولة أحمد مختار باشا الغازي
المندوب العثماني السامي بمصر، وأنا الذي استشرته في ذلك وطلبت منه أن
يمنحها رعايته، ويأذن لنجله محمود باشا بأن يكون الرئيس العام أو رئيس شرف
لها فيمدها بمساعدته، فقال: إن الإصلاح لا يأتي من الأعلى ومن رجال الدولة،
إنما يأتي من وسط الأمة ومن الطبقات الدنيا فيها، وأخبرني أن السلطان علم
بوجود الجمعية وهو أنه يرسل البرقيات إليه تترى في السؤال عنها وعن مؤسسيها،
ويسميها جمعية إفسادية، وأنه تجاهل في جوابه أولاً، ثم كتب إليه بأن لا إفساد
ولا ضرر منها، فإنها مؤلفة من بعض أهل العلم وأبناء الأسر الوجيهة المخلصة
للدولة.
ثم علمنا من شأن اهتمام السلطان بها ما هو فوق ذلك، فقد روى لنا حقي بك
عن خاله المرحوم صادق باشا المؤيد عن السلطان نفسه أن نبأ هذه الجمعية أقض
مضجعه؛ فبقي ثلاث ليالٍ لا تذوق عيناه النوم إلا غرارًا، ولم يقر له قرار حتى
عرف مؤسسيها من بعض جواسيسه بمصر (وهو رجل اسمه كامل بك) دخل
الجمعية بعد تأسيسها، وأظهر من الإخلاص لها والعناية بخدمتها ما كان محل
إعجاب جميع الأعضاء.
ولا غرو، فقد كان عمل الجمعية عظيمًا: تأسس لها فروع في الأقطار
المختلفة، وكانت تطبع المنشورات بالعربية وبالتركية وترسلها إلى فروعها في
البرد الأجنبية؛ فيوزعونها في الولايات التي يقيمون فيها وفيما جاورها، بل كان
يرسل بعض هذه المنشورات في البواخر الروسية مع بعض المسافرين
والمستخدمين فيها إلى ثغور البحر الأسود؛ فيأخذها هنالك منهم من يتولون إرسالها
إلى جميع بلاد الأناضول.
ثم أصدرت الجمعية (في فبراير سنة ٩٠٧) جريدة باسمها (الشورى
العثمانية) استغنينا بها عن المنشورات، وكان الفقيد يحرر القسم العربي منها،
وحقي بك يحرر القسم التركي إما إنشاء وإما ترجمة لما يكتبه الفقيد أو غيره منها
بالعربية، وقلما كنا نساعدهما على ذلك، وكان ينشر فيها بعض المقالات باللغة
الفرنسية أيضًا.
وبلغ من عناية جمعية الاتحاد والترقي بالجمعية فوق ما كان من التعاون
والمراسلة بينهما من أوربة ومن المركز العام في سلانيك أن أحمد رضا بك الشهير
جاء من باريس إلى مصر لأجل السعي لتوحيد الجمعيتين، وقد قصد الفقيد أولاً
وكلمه في ذلك، فجاء به إليّ، فلما كلمني قلت له: إن جمعيتكم تركية وجمعيتنا
عثمانية عامة، فنحن لا نتفق معكم إلا في مقاومة الاستبداد والظلم والسعي لجعل
الحكم بالشورى النيابية، قال: ونحن جمعيتنا عثمانية لا يميز قانونها التركي على
غيره، قلت: هي عثمانية بالقانون تركية بالفعل، فليس في زعمائها أحد من غير
الترك، فقانونها كقوانين السلطان عبد الحميد ولو كان السلطان عبد الحميد ينفذ
قوانين الدولة على علاتها لما أبحت لنفسي ولا لغيري أن يسعى لتغيير شكل
الحكومة أو يقاوم نفوذه فيها.. . ثم اتفقنا على أن تعمل الجمعيتان بالتعاون مع بقاء
كل جمعية على حالها.
ثم إن جمعية الاتحاد والترقي عادت بعد إعلان الدستور، فكتبت إلى جمعيتنا
من المركز العام تدعوها إلى الحلول فيها والاتحاد بها، فاشترطنا في ذلك شروطًا لم
تقبلها، ولكن الفقيد وحقي بك دخلا في جمعيتهم عند زيارتهما للآستانة بعد الدستور،
وتفرق سائر الأعضاء الذين لم يجمعهم في مصر إلا الاضطهاد، فلم يبق لجمعية
الشورى عمل.
أطلت بعض الإطالة في ذكر هذه الجمعية؛ لأن عمل الفقيد فيها كان عظيمًا،
وقد أنفق من ماله في سبيلها ما لم ينفقه غيره، ولولا اغتراره بجمعية الاتحاد
والترقي لرضي بما ارتأيته من إبقاء فروع الجمعية وتكثيرها في البلاد العربية؛
لتكون قوة للعرب أمام تعصب الاتحاديين للترك، ولكنه قال لي بعد عودته من
الآستانة: إني عدت إلى جمعيتي الأصلية، وأن بقاء جمعيتنا تفريق غير جائز،
على أنه عاد من الآستانة غير راضٍ عن سير الاتحاديين رضاء تامًّا، ثم صار
يشاهد آنًا بعد آن من تعصبهم على العرب وهضمهم لحقوقهم ما حاول إن يتلافاه
بطرق الإقناع، فألف في ذلك رسالة طويلة يئس من فائدتها قبل أن يتمها، فلم
ينشرها وسيأتي الكلام عليها عند ذكر مؤلفاته وآثاره.
وكان آخر الجمعيات السرية التي اشتركنا في تأسيسها جمعية عربية أسست
للتأليف بين أمراء جزيرة العرب وللتعاون والاتفاق بين الجمعيات السياسية التي
أنشئت في الولايات العربية وفي الآستانة؛ لمقاومة تعصب الاتحاديين وضغطهم
على العرب، ولحفظ حقوق العرب في الدولة والعمل لمستقبلهم.
كان تأسيس هذه الجمعية ضروريًّا؛ لأن آفة العرب المفسدة لجميع مواهبهم
الفطرية هي التفرق والاختلاف، وكان الملجئ إليها انكسار الدولة العثمانية في
حرب البلقان، والخوف على البلاد العربية أن تتخطفها الدول المستعمرة، فرأى
المؤسسون أن قوة العرب في جزيرتهم، وأنها لا يمكن الانتفاع بها، إلا بتأسيس
اتحاد حلفي يجمع بين أمرائها، وكان قد سبق لهذا تمهيد من بعض المؤسسين، ثم
وضع له النظام الذي يرجى تنفيذه، وأما الجمعيات العربية فكانت مختلفة المقاصد،
وليس بينها من التعارف والاستعداد للاتحاد عند الحاجة ما يؤمن معه سوء المغبة،
ويرجى به حسن العاقبة، فوضعت الجمعية نظامًا لذلك، ولم يقنع المترجم
بضرورة هذه الجمعية إلا بعد أن رأى من انكسار الدولة في حرب البلقان ما أقنعه
بأنه ليس لها من القوة الذاتية ما يضمن بقاءها، وأنها عرضة للزوال فجأةً إذا
صدمتها صدمة أخرى.
***
الأحزاب الجهرية
وأما التي اشتركنا فيها فهي حزب اللامركزية، وكان الفقيد رئيسًا له،
وحزب الاتحاد السوري وأمرهما معروف للجمهور، فلا حاجة إلى شرح خدمة
المترجم لوطنه فيهما، وإنما أقول: إن حزب اللامركزية كان يراد به خدمة الدولة
والبلاد العربية معًا، وكان سبب تأسيسه ما ذكر آنفًا من سبب تأليف الجمعية
العربية، وهو ما أنذرت الحرب البلقانية العثمانية من توقع زوال الدولة، وقد كنا
نعتقد أن الدولة لا يمكن أن تعيش طويلاً إذا أصرت على شكل حكومتها المركزي
وتحكيم الترك في جميع شعوب الدولة، وكان المترجم - رحمه الله تعالى -
حريصًا على بقاء الدولة، وكان على هدى وبصيرة في ذلك، وكنا متفقين معًا على
هذا الرأي، وعلى أن العرب يحتاجون إلى زمن طويل؛ لترقية أنفسهم وجمع
كلمتهم واستغنائهم عن الدولة إن زالت أو بقيت، وكنا نرى أن الخروج على الدولة
ضار وخطره على العرب أشد من خطره على الترك، ولا أقول: إن كل أعضاء
الحزب كانوا على رأينا، وإنما كانوا متفقين على أن شكل الحكم اللامركزي خير
لبلادنا ولغيرها، وكان لبعضهم أهواء أخرى وشذوذ في الفكر وفي العمل، ولكن
الحزب نفسه لم ينحرف عن قانونه المستقيم.
وأما حزب الاتحاد السوري فأمره أظهر، لأن العهد به أقرب، وكان الفقيد
من المؤسسين له، ولكنه تركه منذ سنين واعتزل السياسة وغيرها من الأعمال،
لأن صحته ساءت، واشتد عليه مرض الربو، وضاعفه تصلب الشرايين فضعف
القلب، حتى أودى ذلك كله بحياته فجأة.
هذا وإننا لم نختلف في كل هذه المدة في مقصد من المقاصد، ولا في مهمات
الوسائل أيضًا، إلا ما كان في أيام حرب المدنية الكبرى، فقد اختلفنا في مسائل
مهمة لا يحسن في هذه الترجمة ذكرها، ونحمد الله تعالى أن كان اختلافنا محصورًا
في مناقشات جرت بيننا، لم تتجاوزنا إلى غيرنا.
***
آثاره القلمية
(١) إن أجل تآليفه وأعظم آثاره العلمية هو تاريخ (أشهر مشاهير الإسلام)
الذي طار به صيته في الأقطار، وإنما أتم منه أربعة أجزاء، طبعت مرارًا
ونفدت نسخها.
(٢) وكتاب (السوانح الفكرية في المباحث العلمية) وهو كتاب
اجتماعي أدبي جعله أربعة أقسام: (القسم الأول المدنية ودواعيها، وأسباب تقدمها
أو تلاشيها) ، وفيه ٣ أبحاث (القسم الثاني التربية والأخلاق) وفيه ٤ أبحاث،
(القسم الثالث الأدبيات) وفيها ٤ أبحاث (القسم الرابع مباحث علمية مختلفة)
وفيه ٥ أبحاث، خامسها (التفرنج) وقد أطال في ذمه، ووصف ضرره
وشره.
وهذا الكتاب مبيض بخطه في زهاء مائة صفحة من القطع الوسط، وإنما
صده عن طبعه -كما نظن- أنه أثنى في فاتحته على السلطان عبد الحميد، فأطراه
إطراء لم يلبث أن ظهر له أنه مخطئ فيه، بعد أن انخدع كغيره بما كانت تنشره
جميع الجرائد العربية والتركية من مدائحه المنثورة والمنظومة.
ويحسن بي أن أذكر عبارته في ذلك؛ لما فيها من الدلالة اللفظية والمعنوية،
على حال فقيدنا العزيز الفكرية والأدبية، قال:
(وإنني لما رأيت أبناء وطني قد تفتحت منهم الأذهان، وتنبهت بعد الرقدة
والفكر، وسرى سر الحمية في أمثالي من شبان هذا العصر، فأخذوا يتتبعون
أشتات العلوم والمعارف، ويتفيئون تحت ظلها الوارف، بوجود من لا تكلُّ عن
الثناء عليه ألسنة رعيته، وقد اتحدت القلوب تحت راية عدله وشوكته، السلطان
ابن السلطان، السلطان الغازي عبد الحميد، المحفوف من الله بالعز والتأييد، فقد
أحببت إتحافهم بكتاب يروق في عين كل لبيب، ويحتاج إليه كل أديب أريب،
وشحت بفرائد الفوائد طروسه، وأبرزت في دست الكمال عروسه، ليكون بهجة
للناظرين، ولذة للسامعين) .
وإنني لم أر له - رحمه الله - أسجاعًا كهذه في غير هذا الكتاب الذي كان من
أول ما كتب، وأول ما ألف على ما أعلم، بيد أنه لم يلتزم السجع إلا في خطبته
فقط، وهو لا يخلو من لحن فيما هو من ضروريات علم النحو، وهاك أسماء بقية
آثاره القلمية التامة:
(٣) (كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية) وكفاه تقريظًا له أن
الأستاذ الإمام قرر تدريسه في مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية.
(٤) رسالة تنبيه الأفهام، إلى مطالب الحياة الاجتماعية في الإسلام.
(٥) (كيفية انتشار الأديان) .
(٦) (الجامعة الإسلامية وأوربة) .
وله خطب علمية ألفاها في بعض المحافل العلمية والمدارس العالية، نشر
بعضها في المنار وبعضها في مجلة دار العلوم، وهذه يسهل جمعها وطبعها كمقالاته
في المجلات، وأما مقالاته في الجرائد فهي كثيرة، وجمعها متعذر أو متعسر.
وأما الكتب التي شرع فيها ولم يتمها فهي اثنان:
(أحدهما) كتاب في (تاريخ السياسة الإسلامية) رسم له ثلاثة أقسام:
عصر الترقي الإسلامي، وعصر الوقوف، وعصر الانحطاط، وبدأ القسم الأول
بخلاصة السيرة النبوية، والخلافة والوزارة، والقضاء والولاية، وإمارة الجيش،
وكتابة الجيش والديوان والعطاء، والكتابة العامة والسفارة إلخ.
وكتب منه بعض الأبواب ثم وقف قلمه دون إتمامه وإتمام أشهر مشاهير
الإسلام وغيرهما، ولو أتمه على المنهج الذي وضعه له لكان أجل من تاريخ أشهر
مشاهير الإسلام، بل من أهم الكتب التي يحتاج إليها المسلمون على الإطلاق.
(ثانيهما) الرسالة التي سبقت الإشارة إليها في الخلاف بين الترك والعرب.
وقد كتبت منها ٦٧ صفحة كبيرة، انتهى فيها إلى البحث فيما سماه (أرجوفة
الخلافة العربية) فبدأ به ولم يتمه، وهذه الرسالة حجة بينة على شدة إخلاصه
للدولة العثمانية وكراهته الشديدة للرابطة الجنسية وتنفيره عنها، وكان رجال
جمعيته الاتحادية يتهمونه مع ذلك بعداوتها، ويتمنون لو تصل إليه أيديهم؛ ليقتلوه
شر قتله، وهو لشدة إخلاصه في خدمته للدولة بحزب اللامركزية العثمانية الذي
كان رئيسًا له صدق الاتحاديين فيما ادعوه من الرغبة في الاتفاق مع العرب
وإعطائهم حقوقهم عقب مؤتمر أريس العربي، الذي عقد هنالك باسم حزب
اللامركزية، وانخدع كما انخدع رئيس ذلك المؤتمر أخونا الشهيد السعيد السيد عبد
الحميد الزهراوي - قدس الله روحه - الذي كان من اغتراره بخلابتهم أن دعاني
ودعا الفقيد إلى الذهاب إلى الآستانة؛ للاشتراك في توثيق روابط الإخاء والوحدة
بين العرب والترك، فأما الفقيد فقد انخدع، وزاد في اطمئنانه كتابة بعض أصدقائه
من رجال الترك الاتحاديين كجلال الدين بك عارف وأخيه نجم الدين بك، فأرسل
برقية إلى الآستانة، وعد فيها بإجابة الطلب والعزم على السفر، وذكر لي ذلك بعد
إرسالها فوقفت لإقناعه بالبقاء هنا، وقلت له: إنهم يريدون أن يجمعوا الزعماء
العاملين هنالك؛ لينتقموا منهم كلهم، ولئن أجبناهم ليحيطن بنا فلا ينجو منا أحد،
وإني لخائف على أخينا السيد عبد الحميد، ولكني أرجح أنهم لا يصيبونه بأذى
مادمنا في مصر؛ لأنهم يريدون أن يصيدونا به.
ثم كافأني الفقيد - أحسن الله إليه - على هذا إخلاصًا في المودة والنصح لا
بقصد المكافأة لما علم أنني سأعود من الهند إلى مصر عن طريق العراق (سنة
١٣٣٠-١٩١٢) ، فأرسل إليّ برقية بأن أعود في البحر؛ خوفًا علىّ من فتك أحمد
جمال باشا السفاك، إذ كان وقتئذ والي بغداد والقائد العام لجيش العراق، ولكن
الله سلم، على أن الفقيد لم ييأس من الدولة كل اليأس إلا في أثناء الحرب العامة
وما كان من جمال باشا فيها.
فهذه جملة سيرة فقيدنا السياسية، ولولا بعض آثاره العلمية لما كان له شيء
يؤثر عنه من وراء السياسة إلا أخلاقه العالية وآدابه السامية.
***
أخلاقه وآدابه
قد أوتي الفقيد حظًّا عظيمًا من الآداب الاجتماعية والفضائل النفسية والفواضل
العملية، كان نزيه اللسان طاهر القلب، منزهًا عن الحسد والحقد، وفيًّا لأصدقائه،
برًّا بأهله وصولاً لرحمه، متواضعًا في عزة نفس، ذا مروءة صادقة، ونفس
سخية، ويد مبسوطة، حسن الضيافة، كثير الصدقات والمساعدات للجمعيات
الخيرية، قليل التبجح والدعوى، ما عاشره أحد من قومه ولا من غيرهم من
الشعوب إلا وأحبه واحترمه، ومن آدابه التي يجب أن تذكر بالنص في هذه
الترجمة الوجيزة أنه تزوج ولم يرزق ولدًا، ولا كان مغتبطًا، ولم أسمع منه ولا
عنه منذ عقدت له عقد زواجه إلى أن توفاه الله تعالى كلمة تؤذن بحسرته على
الحرمان من الولد أو الميل إلى التزوج بامرأة أخرى مع زوجه أو بعد تطليقها،
فهذا من أعجب الوفاء، والصبر والقناعة آداب يقل نظيرها في هذا العصر وفي كل
عصر.
وكان معتدلاً في أمور معيشته، يقتصر على اللائق به من اللباس وجيد
الطعام، من غير اهتمام بالتطرز، ولا جنوح إلى التورن، ولا إنفاق في التنعم،
ولكنه كان شديد الولوع بدخان التبغ، وكثير الاختلاف إلى بعض المقاهي العامة
على قلة عنايته بالملاهي، وإنما كثر ذلك منه بعد أن ضعف جسمه، وصار يتعب
من الكتابة والمطالعة.
وجملة القول أننا قد فقدنا بفقد هذا الصديق الوفي المهذب، وأن الأمة
العربية قد فقدت بفقد الابن البار العامل رجلاً لا عزاء عنه إلا أنه قد انتهى إلى حال
من الضعف والأمراض، لا هناء له في الحياة معه، ولا رجاء في الانتفاع بشيء
من مواهبه وتجاربه، فرحمه الله تعالى، وعفا عنا وعنه، وأدخلنا وإياه برحمته
في عباده الصالحين.