لمَّا أُعْلِنَتِ الحرب بتلك الصورة المنكرة، وظهر أن الدول الكبرى موافقة لإيطالية عليها بادرنا إلى نشر مقالات (المسألة الشرقية) في المؤيد لننذر المسلمين والشرقيين عامة إلى الخطر الأوربي الذي أوشك أن يقضي على الشرق الأدنى كله، معتقدين أن هذا الإنذار قد يصد بإيقاظ المسلمين هذا التيار، ويحصر شر الحرب في طرابلس الغرب، ثم كانت إيطالية عونًا لنا بسوء تصرفها على تنفير أوربة منا، وعطف أكثر جرائدها علينا، بعد ما كان من فظائع الجيش الإيطالي بقتل النساء والشيوخ والأطفال من العرب؛ فلهذا كففنا عن التنديد بأوربة كلها. ثم إننا نشرنا في الجزء الماضي إنذار إيطالية الأول للدولة العلية وجواب الدولة عنه، وسننشر بعد ذلك ما ينبغي حفظه من تاريخ هذه الحرب وقد نشر بعض الذين كانوا موظفين في طرابلس قبل الحرب مقالةً في المؤيد بَيَّن فيها مقدماتِها وأسبابها، فرأيْنَا أن ننشرها في المنار وها هي هذه؛ قال: يعلم كل من له أقل عناية بتتبع سياسة إيطاليا في طرابلس الغرب أن هذه الحكومة ما زالت موجهة نظرها وأملها إلى هذه الولاية منذ خمسة وعشرين عامًا أو أكثر قصد الاستيلاء عليها بالسلم أو بالحرب لما لإيالة طرابلس من الأهمية الكبرى لاحتوائها على معادن شتَّى؛ ولأن سعتها تبلغ ثلاثة أضعاف سعة البلاد الإيطالية من أعلاها إلى أدناها. وكانت إيطاليا تحاذر أن تتعرض للاستيلاء على طرابلس الغرب بالقوة الحربية، مع ما تعلمه من انقطاع هذه الولاية عن عاصمة الملك العثماني، وبعدها عنها وعن سائر بلاد السلطنة وضعف القوة البحرية العثمانية؛ لأنها كانت ترى أن استيلائها على طرابلس لم يكن يوافق مصلحة إنكلترا وفرنسا لأسباب لا حاجة الآن إلى شرحها. ولهذا طرقت للوصول إلى هذا الأمل مسالك أخرى فنصبت لذلك من مدارسها فخًّا أولاً؛ إذ أسست في طرابلس الغرب مدارسَ إيطالية كثيرة واختصت للإنفاق عليها الألوف من أموال خزينتها قاصدةً بذلك أن تشيعَ اللغةَ الإيطالية بين عربِ طرابلسَ، وتُؤَلِّفَ قلوبَ الأطفال والناشئة. ولقد أدرك وزيرُنا الغيورُ المرحوم أحمد راسم باشا يوم كان واليًا على طرابلس ما ترمي إليه إيطاليا من هذا العمل؛ فجعل يقاومه بالوسائل المشروعة وينبه الأهالي إلى ما عرفه من حقيقة أمر هذه المدارس وأنها لا توافق مصلحة المسلمين، وكان له من العلماء والمدرسين عضد وساعد على نشر هذه النصيحة بين الطرابلسيين العثمانيين إلى أن نجح في عمله واتفق الجمهور على اتقاء هذا الفخ السياسي فلم يكن يوجد في صفوف هذه المدارس غير نفرٍ قليل من أطفال اليهود الفقراء. ومهما كانت الحال فإن إيطاليا جَنَتْ شيئًا من ثمارِ هذه المدارس؛ لأن الذين تخرجوا فيها من شبان اليهود صاروا يخابرون غرف التجارة في إيطاليا ويستجلبون بضائع الإيطاليين ومصنوعاتهم وينشرونها في طرابلس وينشرون معها اللغة الإيطالية حتى بلغ مقدار الذين يتكلمون بالإيطالية من الموسويين وبعض المسلمين ثلاثين في المائة من أهل مدينة طرابلس؛ مع أن الذين يتكلمون بالتركية لا يبلغون خمسة في المائة. على أن هذا كله لم يقنع أصحابنا الإيطاليين؛ بل زاد في أطماع حكومتهم، فقامت جرائدهم تنتقد خطبة السنيور (كريسبي) وحزبه قائلة إن ما أنفق على هذه المدارس كان أعظم من الثمرات التي جائت بها وإن المصلحة تقضي بإقفالها ما دامت كذلك، أما الحكومة فلم تلتفت إلى أقوال الصحافيين؛ بل أصرت على المثابرة في هذه الخطة وظلت تصرف مرتبات موظفي هذه المدارس ونفقاتها، ودامت الحال على ذلك إلى أن انعقد مؤتمر الجزيرة فتقرَّر فيه أن لا تعارض الحكومات الموقعة على صك المؤتمر شيئًا من المصالح الاقتصادية والسياسية التي للإيطاليين في طرابلس الغرب، ومن ذلك الحين أسست إيطاليا في طرابلس الغرب فرعًا لبنك (دي روما) فكان هذا البنك قطب رحى المصائب على هذه الولاية العثمانية والمصدر لكل دسيسة سياسية، زِدْ على ذلك أن الثلثين من رأس مال (بنك دي روما) هي لحضرة البابا والثلث الآخر للحكومة الإيطالية. تأسس هذا البنك فعلاً في طرابلس، ولم تلاحظ في تأسيسه حرمة البلاد وأحكام قوانينها، وبيان ذلك أن القانون يقضي بأن لا يؤسس مرفق من المرافق المالية الأجنبية في سلطنة آل عثمان إلا بإرادة سلطانية، وفضلاً عن ذلك فإن الخاصي والعامي يعلم أن هذا البنك إنما أُسِّسَ لاستملاك الأراضي، واستعمال الإيطاليين لها، ولإقراض الأهالي بالربا الفاحش، ولاحتكار التجارة في طرابلس، ولأخذ امتيازات لاستثمار المناجم وإنشاء المرافئ وما أشبه ذلك، ثم إظهار القلاقل والاختلافات بين الحكومة المحلية والقنصلية الإيطالية التي يعظمها الخيال الإيطالي بالطبع حتى تصل إلى الآستانة ورومة؛ فتكون منها مسائل يختلقون منها الوسائل للخطة التي وضعوها لأنفسهم. كان والي طرابلس الغرب وقائدها في حين تأسيس (بنك دي روما) ذلك الرجل الكبير المرحوم رجب باشا، فقاوم - رحمه الله - هذا المشروع غير المشروع بكل قوة لديه طالبًا من مؤسسيه أن يحصلوا على إرادة سلطانية بتأسيسه أولاً، وفي الوقت نفسه كان يكتب إلى الآستانة مبينًا النتائج السيئة التي تكون من نجاح الإيطاليين في تأسيس هذا البنك فلم يرض الإيطاليون بالخضوع لقانون البلاد وأوعزت الآستانة إلى المرحوم رجب باشا بأن لا يتشدد كثيرًا لئلا يكون سببًا في إحداث مشكلات سياسية. ولما يئس ذلك الرجل العثماني الحكيم من معاونة الآستانة له واهتمامها بأمر هذه الولاية البائسة توسَّل بوسائل حكيمة لمقاومة النتائج بعد عجزه عن مقاومة المقدمات، فصار يتمسَّك بنصوص القانون ما أمكنه في مسائل بيع الأراضي والعقارات، ويعرقل الحيل والدسائس التي تعمل لأجل نقلها من ملك العثماني إلى ملك الإيطالي تحت ستار الحيلة، فكلما أراد أحد أن يبيع قطعة أرض أو عقارًا واشْتَمَّ المرحوم رجب باشا منها رائحة الإيطاليين دعا صاحبها وبَيَّنَ له الأضرار العظمى التي تلحق وطنه من بيعها إلى إيطالي، فإذا لم يقنع البائع بحث له عن عثماني يشتري منه أو جار يضطر البائع إلى تفضيله بحكم الشُفْعَةِ، وإن لم يجد أَوْعَزَ إلى المجلس البلدي بأن يشتري ذلك ولو كانت قيمته فاحشة، وإذا أخفق سَعْيُهُ في ذلك وهذا أَمر دائرة (الطابو) بأن تنفذ أحكام القانون بعدم إفراغ تلك الأرض أو ذلك العقار باسم البنك؛ لأن البنك شخص معنوي، والبيع والشراء يشترط فيهما الإيجاب والقبول، كل ذلك كان يفعله المرحوم رجب باشا لئلا يتمكن (بنك دي روما) أو أحد من الإيطاليين من شراء الأراضي العثمانية واستعمارها. كانت العوائق المشروعة التي وقف بها والي طرابلس الأسبق في وجه (بنك دي روما) خير وسيلة ممكنة لعرقلة مساعيه بالرغم عن الشكاوى الطويلة العريضة من البنك والتهديدات المختلفة الأساليب التي كان قنصل إيطاليا وحكومة إيطاليا يجيئان بها في كل يوم. ولما أعلن الدستور العثماني، ثم عين حقي بك (حقي باشا) سفيرًا للدولة العلية في روما علم بنك دي روما وحكومة إيطاليا أن السكون على الوسائل التي كان يتخذها رجب باشا ربما عادت مؤيدة بالقانون في زمن الدستور، وفي ذلك من القضاء على الآمال الإيطالية ما فيه، فأكثر الإيطاليون من الشِّكَايَةِ واتخذوا حقي بك نصيرًا وآلةً لهم. ومما كتبه حقي بك في ذلك الحين إلى الباب العالي أن إيطاليا تبذل جهدَها لمساعدة الحكومة العثمانية، خصوصًا بعد الدستور، ومن الواجب على الباب العالي أن يتسامح مع بنك دي روما تثبيتًا لأواصر المودة بين الدولتين وإحكامًا لمباني الحب والصداقة، فأثَّر هذا القول من سفير الدولة في حكومته المركزية، وأوعز الباب العالي إلى الحكومة المحلية في طرابلس الغرب بأن تقبل فراغ الأراضي باسم المدير العام لبنك دي روما. وفي ذلك الحين كان المرحوم رجب باشا قد نقل من ولاية طرابلس الغرب وعيَّن وزيرًا للحربية العثمانية، وخلفه على طرابلس أمير اللواء محمد علي سامي باشا؛ وهو رجل جندي لا يعرف شيئًا من شئون الإدارة وأساليب السياسة، ثم جاء بعده فوزي باشا، وأعقبه حسني باشا، وهؤلاء الولاة الثلاثة لم يزد مجموع مدتهم في طرابلس على سنتين، وقد وجد البنك منهم في أثنائها تسهيلات كثيرة وتسامحًا كبيرًا وكانت الجرائد المحلية وفي مقدمتها (تعميم حريت التركية) و (الترقي) و (أبو قشة) و (المرصاد) العربية تبين للحكومة والرأي العام مقاصد إيطاليا وأعمالها وأغراض بنك دي روما، وتصرخ بأعلى صوتها منبهة أولياء الأمور إلى المصائب المنتظرة التي سيكون البنك المذكور مصدرها وسببها، فلم تجد هذه الجرائد الصادقة أذنًا صاغيةً من الحكومة ورجالها، ولكنها أثرت في الرأي العام وصحَّحَت اعتقاده بشأن البنك؛ فصار يعتقد أنه مرفق سياسي بعد أن كان يحسبه تجاريًّا بَحْتًا ولمَّا شعر مؤسسو البنك أن معاملاته ستقف بسبب الحملات الصحَافية قام فأسس في طرابلس مطبعة وجريدتين إيطاليتين؛ إحداهما جريدة (إيكودي تريبولي) والثانية (جريدة استيللا) وصارت هاتان الجريدتان تدافعان عن البنك ومصالحه وتبثَّان في أذهان الناس أنه تجاري لا سياسي فلم ينخدع الرأي العام بأضاليلهما. وفي ولاية حسني باشا قَدِمَ طرابلس رجل من أهل الأرجنتين في جنوب أمريكا اسمه المستر (كوزمان) فأصدر جريدة سمَّاها (بروجريسو) وصار يطعن فيها على الحكومة الإيطالية ويُبَيِّنُ مقاصدها في طرابلس الغرب، ويفضح نيَّة بنك دي روما السيئة، وظل على ذلك مدة شهر ارتفعت فيها شكوى البنك منه إلى عنان السماء؛ ولكن لم يكن للحكومة العثمانية وجه لسماع تلك الشكوى. واتفق أنه جاء إلى طرابلس أيضًا مصور أميريكي من أهل الولايات المتحدة، وبَيْنَا كان يصور (جامع أحمد باشا) مرَّ من أمامه صبيٌّ صغير حال بينه وبين الجامع فغضب المصور الأميركي وضرب الطفل. ولما تداخل البوليس حصل بينه وبين المصور سوء تفاهم فتطاول الأميريكي على البوليس، وضربه فقبض عليه البوليس باسم القانون وأخذه إلى قسم البوليس للتحقيق، ومن الغريب أن قنصل أمريكا عَدَّ هذه الحادثة إهانة للأميركي (!) وطلب من حسني باشا ترضيتَه؛ فأجابه حسني باشا إليها وطرد البوليس من خدمة الحكومة بمراسم علنية وبحضور كثير من الأجانب. فلما علم قنصل إيطاليا بطرد البوليس من خدمة الحكومة بصورة غير قانونية عاد فطلب نفي محرر جريدة (البروجريسو) بصورة غير قانونية أيضًا استنادًا على العمل السابق من الوالي في مسألة الأميركي والبوليس، أما حسني باشا فقد أجاب قنصل إيطاليا أيضًا إلى طلبه ونفى المستر كوزمان بصورة استبدادية استاء لها جميع العثمانيين من أهل طرابلس وضَحِكَ منها الكثيرون من الأجانب، وهي حادثة مؤسفة في الحقيقة لحدوثها في زمن إدارة دستورية. كانت حادثة إخراج الصحافي الأرجنتيني فوزًا كبيرًا للسياسة الإيطالية في طرابلس الغرب عقدت لها الصحف الإيطالية فصول الابتهاج والسرور، وامتلأ بها قنصل إيطاليا غرورًا وزهوًا وخُيَلاَءَ، فأصدر أمرًا تحريريًّا إلى الصحف والمطبعة الإيطالية التي في طرابلس بأن لا تلاحظ بعد الآن قانون المطبوعات العثماني، وما عليها إلا أن تراعي القانون الإيطالي فقط معلنًا بذلك لحكومته أنَّه فتح لها في طرابلس فتحًا جديدًا، ووالينا حسني باشا ظلَّ محافظًا على راحته ووظيفته ساكنًا عن كل إهانة واعتداء وخيانة تلحق بالوطن العزيز. فاتني أن أُطْلِعَ القارئ على أن (بنك دي روما) كان في خلال هذه المدة قد قَدَّمَ إلى المحاكم العثمانية قضايا على بعض أشخاص فرفضت المحاكم قبول هذه القضايا؛ لأن البنك لم تتوفر في تأسيسه الشروط القانونية، وكان سفيرنا في رومية حينئذٍ قد جيء به الآستانة صدرًا أعظم، ووجهت عليه رتبة الوزارة فصار (حقي باشا) فانتهز (الكفالير برششاني) مدير بنك دي روما هذه الفرصة السانحة وذهب إلى الآستانة شاكيًا لحقي باشا ما يلاقيه البنك من مشاكسات المحاكم الطرابلسية له. فأصدر حقي باشا أمرًا إلى نظارة العدلية ونظارة الخارجية بوجوب قبول القضايا من بنك دي روما في المحاكم العثمانية، ولا حاجة إلى الحصول على إرادة سلطانية بشأنه؛ لأن سفراء الدول اعترضوا على القانون العثماني الموضوع بشأن الشركات والمرافق المالية الأجنبية، ومنذ ذلك أخذت المحاكم تنظر في قضايا البنك مضطرة غير مختارة. وفي ولاية حسني باشا أيضًا جاءت طرابلس لجنة فرنسوية مؤلَّفة من أربعة أشخاص للبحث عن مَنَاجِمِ الفسفاط، ومعها أمر من نظارة الداخلية العثمانية بوجوب المحافظة على أعضائِها بقوة الجند أثناء بحثهم في المناجم، فلم يهضم بنك دي روما والإيطاليون هذا الأمر، وقامت جرائد إيطاليا تحتجُّ على حكومتها لتفريطها في المصالح الإيطالية، وإن قدوم الفرنسويين إلى طرابلس يمس شرف إيطاليا صاحبة السيادة على هذه الولاية وعلى معادنها بالطبع. ثم جاءت لجنة أمريكية إلى بني غازي للبحث عن الآثار القديمة؛ فقامت قيامة الصحف الإيطالية أيضًا، وأصرت على مطالبة حكومتها بمنع هذه الاعتداءات وإعلان سيادة إيطاليا على طرابلس وإجبار الحكومة العثمانية على إخراج اللجنتين المذكورتين. وكانت الجرائد المحلية تدافعَ عن حقوق العثمانيين وتُصَرِّح بأن الحكومة العثمانية حرةٌ في منحِ الامتيازات لمن أرادت فزادت هذه الكتابات في استياء الإيطاليين، وصارت صحفهم تتهدد حكومتنا بالاستيلاء على طرابلس الغرب، وبإرسال أساطيلها إليها واحتلالها، فصارت حضرة الكاتبة الإفرنسية الفاضلة (مادام كي دافليين) عقيلة طبيب الصحة في طرابلس تُفَنِّد مزاعم الصحف الإيطالية وتُصَرِّح بعجز إيطاليا عن احتلال طرابلس سيَّما في الدور الدستوري، فهاج الإيطاليون وهاجموا قنصليتهم مطالبين حكومة إيطاليا بعزل زوج مادام كي دافليين وإخراجهما من البلد، وتعرَّض لها بعضُهم بالأذى في الشوارع، أما هي فلم تكن تقابلهم إلا بالحزم والعزم ضاحكة من أفعالهم وآرائهم السخيفة، ومن الأسف أنه لما احتج سفير إيطالية على هذه السيدة الفاضلة لدى الباب العالي وعده الباب العالي بأن يستبدل بزوجها طبيبًا غيره عند أول فرصة. وفي بعض الأيام جمع حسني باشا بعض أعيان الولاية وكان صهره (رحمي بك) مبعوث سلانيك وأحد أعضاء جمعية الاتحاد والترقي حاضرًا فصار يَحُضُّهُمْ ويُحَرِّضُهُمْ على الاشتراك مع بنك دي روما ومع تاجرين مصريين كانا في طرابلس، وأن يطلبوا من الحكومة امتيازًا باستثمار مناجم الفسفاط بالاشتراك مع البنك المذكور فحصل ذلك بالفعل، وعقدت الشركة رسميًّا وتوجه بعض هؤلاء إلى الآستانة لأخذ الامتيازات فهاجت الجرائد العثمانية الكبرى لهذا المشروع وشرحت مضارَّه للرأي العام حتى اضطر الباب العالي إلى عدم منح الامتياز به ورجع أولئك الأشخاص بالخيبة والخسران. وجهت ولاية طرابلس الغرب وقيادتها بعد ذلك إلى المشير إبراهيم أدهم باشا، ولما وصل هذا إلى مقر وظيفته شعر بواجبه الوطني الكبير؛ إذ تحقق الأضرار الحاضرة والمستقبلة التي تنشأ عن ازدياد النفوذ الإيطالي في طرابلس الغرب، فأجاب نداء ضميره بمقاومة هذا النفوذ بالوسائل المشروعة وعدم التساهل بما لا يجيز القانون التساهل فيه، وسعى من جهة ثانية إلى زيادة القوة العسكرية والذخائر الحربية لسببين كبيرين: الأول ردع الإيطاليين وتقليص فكرة الاستيلاء من رؤوسهم، والسبب الثاني وجوب تحصين (جنت) وقضاء (غات) وهو الحد الفاصل بين الأملاك العثمانية وإيالة تونس، وقد وضع - حفظه الله - خرائط جغرافية وحربية متعددة للأماكن التي تصلح للدفاع أو لحشد الجنود. أما الحكومة المركزية (وزارة حقي باشا) فكانت مستغرقة في رقادها مستمرة على سخائها وتساهلها غير مبالية بما يعرضه عليها هذا الشهم الغيور. وأول ضربة صدرت من المشير إبراهيم أدهم باشا لبنك دي روما أنه منع البنك من إخراج الحجارة التي في أرض (قرقارش) وناحية (جنزور) الملاصقة للحصون العثمانية مستندًا في عمله على القانون الخاص القاضي بعدم استخراج المعادن الحجرية بدون رخصة من الحكومة، وكون هذه الأماكن لا يجوز إيجارها أو استئجارها لقربها من الحصون العسكرية وقانون الطوبجية يحظر مثل هذا العمل. ولما رأى الإيطاليون هذا الحزم من ذلك المشير العثماني الصادق هاجت عليه حفائظهم ورفعوا عقائرهم وتطاولت عليه صحفهم بالقذف والتحقير؛ مع أنه حاكم البلد وقائدها، وهو لا يقابلهم إلا بالتؤدة والسكون، وكانت الصحف الإيطالية تسميه عدو إيطاليا الأكبر. وحدث أن بنك دي روما عرض على المشير إبراهيم باشا استعداده لإنارة المدينة بالكهربائية بدون مقابل لا من الحكومة ولا من المجلس البلدي؛ وذلك للمودة القديمة بين الحكومة الإيطالية والحكومة العثمانية، فرفض الوالي هذا الطلب، فازداد غضب الإيطاليين على الوالي وكثرت شكاواهم منه. ثم ورد على قنصل إيطاليا تلغراف بأن المستر (كوزمان) صاحب جريدة (البروجريسو) عزم على العودة إلى طرابلس، ومن الواجب السعي لدى الحكومة المحلية في منعه من دخول المدينة، ولما راجع القنصل إبراهيم باشا في الأمر أجابه بأن الحكومة العثمانية اليوم حكومة دستورية، ولا يمكنها منع أحد من أمر لا يحظره القانون، وقد زال زمن الإدارة الكيفية، وما فعله حسني باشا مع كوزمان لم يكن عملاً قانونيًّا. فوصلت الوقاحةُ بالقنصلِ أن أَرْسَلَ من قبله أناسًا يمنعون كوزمان بالقوة من دخول المدينة. أما الوالي فلم يتعرض للقنصل؛ بل أرسل قوة من البوليس لكي يمنعوا كل اعتداء من أحد على آخر بدون سبب على الرصيف، على أن هذا لم يمنع جماعة القنصل من رشق البوليس بأقوالهم البذيئة، ولكن كوزمان نزل المدينة بدون أن يمسه سوء، وهنا لم يعد الإيطاليون يفقهون معنى للسكينة والقانون والحق؛ بل جعلوا يصخبون ويضجون ويملأون الصحف بالشكوى الكاذبة وقام سفير إيطالية في الآستانة يهدد الباب العالي إذا بقي كوزمان في طرابلس فأوعز الباب العالي إلى إبراهيم باشا بأن ينفي كوزمان حفظًا لمودة إيطاليا. ولما أيقن إبراهيم باشا بضعف الحكومة المركزية خاف أن يمس الشرف العثماني العار، فأرسل إلى كوزمان ليلاً واقترح عليه أن يسافر وأن يُشِيعَ بين الناس أنه يسافر من تلقاء نفسه لا بأمرٍ من الحكومة، ودفع له بعضَ نفقاتِ سفره، وفي صباح تلك الليلة سافرَ كوزمان مُعْلِنًا ما قاله إبراهيم باشا، فلم يشعر أحد بأسرار الحادثة، وكتب إبراهيم باشا إلى الباب العالي أن كوزمان الذي كتبتم لي بشأنه بحثت عنه عند وصول أمرِكم فوجدته قد سافر من طرابلس، وبهذا حفظ الوالي العثماني الشرف العثماني. وأعقب ذلك أن دفعت القحة سفير إيطاليا إلى مطالبة الباب العالي بعزل إبراهيم باشا؛ لأنه يعرقل مصالح الإيطاليين في طرابلس الغرب، وبينما كان حقي باشا الصدر الأعظم وخليل بك ناظر الداخلية على عزم تنفيذ إشارة سفير إيطاليا اتصل الخبر بالصحف العثمانية فاحتجت على الباب العالي، وأنذرته خطر هذا العمل الوبيل، وأن ذلك عمل استبدادي والقانون الأساسي لا يجيز عزلاً بدون محاكمة، فخشي البابُ العالي هياج الرأي العام كما كان يحسب حسابًا لتهديد السفير فأراد أن يوفق بين المتناقضين ولذلك أذن للإيطاليين بالبحث عن معادن طرابلس فأرسلوا لجنة قيل إن أكثرها من أركان الحرب وكبار الضباط الإيطاليين فصارت تطوف في جميع أنحاء الولاية حتى قضاء (سوكنة) في (فزان) . وبعد ثلاثة أشهر فقط ورد الأمر من الباب العالي بعزل إبراهيم باشا بلا سبب ولا محاكمة، فعلم الناس أن سفارة إيطاليا هي التي عزلته، وسافر هذا وهو يائس، والشعب في كدر، وبقي الدفتردار أحمد بسيم بك وكيلاً على الولاية. وبعد خمسة عشر يومًا وصلت أساطيل إيطاليا إلى مياه طرابلس الغرب وأعلنت الحرب. اهـ. المنار: هذا نموذج من سياسة وإدارة دولتنا وضعف رجالها وجهلهم، فالبلاد ما وصلت إلى هذا الخطر إلا بسوء تصرفهم، وما كانت الأمة لتعقل أو تفهم. * * * ترجمة التقرير الذي قدمه مبعوثا طرابلس الغرب لمجلس المبعوثين وطلبا فيه محاكمة حقي باشا أيها السادة إن طرابلس الغرب وبني غازي معرضتان اليوم لخطر عظيم، فقد حاول بترهما من جسم الوطن المُقَدَّس عدو لا يعرف عدلا ولا إنسانية. فالوطن العزيز المُقَدَّس يفقد بفقدهما رُبْعَ أملاكِهِ، وتفقد الأمة العثمانية المبجلة نحو مليوني نسمة من أبنائها، وتضيع الدولة سلطتها في القارة الأفريقية ويقطع مقام الخلافة المفدى روابطه المادية مع تسعين مليونًا من المسلمين في تلك القارة. إن العالم الذي يفتخر بمدنيته وحبه للإنسانية التزم جانب الطاعة والإذعان في مقابلة ادَّعاء إيطاليا الكاذب؛ إذِ الحقُّ هو القوة في هذا الزمان؛ فلهذا كانت قلوبُنا تَقْطُرُ دَمًا لِمَا آلَتْ إليه حالُ طرابلس الغرب وبنغازي البعيدتين والمعزولتين عن القوة العثمانية والملك العثماني الواسع وعاصمته، وكثيرًا ما حوَّلنا نظر الحكومة ونظركم إلى ذلك قائلين إنهما محتاجان إلى قوة بحرية عظيمة حفظًا للمواصلات والدفاع في أحوال كهذه، فما كان لهما حظ من ذلك. إن المحافظة على طرابلس الغرب ومنع الأعداء المجاورين من التسلط عليها يتوقفان على جعل القوة العثمانية مساوية لقوة الأعداء ونعني بهذا أن تكون البحرية العثمانية محاكية لبحريتهم في القوة، ولا يخفى أن الحكومة السابقة أَهْمَلَت الاعْتِنَاءَ بالقوة العثمانية البحرية، ولا يتسنى لها إبلاغُها درجة الكمال في أعوام قليلة؛ ولكنَّ الجميع يعترفون أنه كان في الإمكان إجراء تدابير سياسية لتخليص الوطن المنكود الحظ وتأخير أطماع الأعداء والاحتفاظ بشرف الأمة. إن المحافظة على حقوقنا في ولاية طرابلس وبنغازي لا تتوقف على قوة بحرية الدولة فقط؛ بل على سياسة خارجية أيضًا نعتمد عليها وعلى إصلاحات داخلية واقتصادية تلتئم مع ما يحيط بالمملكة وعلى تنظيم حربي يناسب الموقع والمكان. إن هذا المُلْكَ العثمانيَّ المقدس لا يظل أمرُه مستوثقًا بالقول ولا آمنًا بالمعاهدات الكاذبة كما هي حاله اليوم؛ وإنما هو في احتياج إلى عقد اتفاق بين الدول التي أخذت على نفسها تأييده وتمكينه بقواها الحربية والبحرية. إن ولاية طرابلس الغرب وبنغازي يجب بالنظر إلى موقعها الجغرافي والملي أن يكون فيها حكام يحسنون الإدارة والاقتصاد وأن تكون لها إدارة ملكية ومالية قائمة بذاتها وأن تكون لها قوة عسكرية محلية - أي من أبنائها - لتظل مستظلة بظل العَلَمِ العثماني إلى الأبد، نعم إنه لم يكن في الإمكان إبلاغ بحريتنا في سنوات قليلة درجة تنطبق على آمال الأمة؛ ولكن عجبًا؛ ألم يكن في الوسع إجراء الأمور التي أشرنا إليها؟ ! كلا إننا لم نجتهد ولا التفتنا إلى سياستنا الخارجية ولا إلى إدارتنا المالية ولا ترقية عسكرنا؛ بل تركنا طرابلس الغرب وبنغازي لسياسة الوفاق والاتفاق مع الدول ولنتائجها المشئومة التي تلبس كل يوم لبوسًا، وخدعنا نفوسنا بالتبجُّحِ بِمَقَاصِدِنَا السِلْمِيَّةِ ورغبتنا في مصافاة سائر دول العالم، فانتهجنا طريقًا معوجًّا في التشكيلات (الإدارة) الملكية هو في نظر كثيرين من أبناء وطننا في البلاد العثمانية جهل مطبق، ذلك أننا أظهرنا أن لا ثقة لنا ولا اعتماد على إخواننا الطرابلسيين الذين يظهرون اليوم حميتهم الملية العثمانية ببكائهم دمًا على الوطن المحبوب، عرضنا جسم الوطن للضعف حتى كادت روحه تبلغ التراقي بإيقادنا نار الحروب الداخلية ونار الاحتلال، وعدم التروي والتبصر، وإنفاق المال على ما يقضي به حسن التدبير، ثم إننا تركنا خزينة المالية تئن تحت حمل الملايين الثقيل، وتركنا طرابلس الغرب تئن من ألم الجوع والفقر فألقينا في نفوس أهلها جبنًا، وصيرنا قوتهم ضعفًا. وجملة القول أننا لم نعد شيئًا على الإطلاق لهذا اليوم العصيب، فلا عسكر ولا وسائط دفاع في يد الشعب، وما سبب ذلك كله إلا تراخ وإهمال بلغا حدًّا ما بعده حد. لندع الآن كل هذا جانبًا ونحاسب وزارة حقي باشا على تغاضيها، غفلة وتعطيل وإهمال لم نشهد لها مثيلاً حتى في عهد الإدارة السابقة، ومن نكد الطالع أنها وجدت في هذه الوزارة، ومن جملة ما يُذْكَرُ عن إهمالها وتخاذلها أنه بينما كان أعداؤنا يطمحون بأنظارهم إلى الاستيلاء على ولاية طرابلس الغرب وبنغازي لم تفكر هذه الوزارة في إلقاء الخوف فيهم وإرجاعهم عن أطماعهم بتوفير الأرزاق والمهمات والجنود في طرابلس توفيرًا كافيًا. نحن مبعوثي طرابلس نبكي دمًا لاضطرارنا إلى عد سيئات وزارة حقي باشا السياسية والإدارية التي ارتكبتها في طرابلس الغرب فقط وعرضها على أولي الحل والعقد ونحصر كلامنا في ما يلي: ١- كان عدد الجيش المرابط دائمًا في طرابلس الغرب حتى في العهد السابق يتراوح بين ١٥ و ٢٠ ألفًا، وأنشئت في ذلك الحين فرق من الأهالي (قول أوغلي (يتراوح عددها بين أربعين وخمسين ألفًا وكانوا يتمرنون على استعمال السلاح حتى صار في إمكانهم معاونة الجيش النظامي. أما وزارة حقي باشا فلم تكتف بإهمال هذه القوة الأهلية كل الإهمال بدلاً من أن تعنى بتنظيمها؛ بل سَيَّرَتْ عددًا من الجيش النظامي في هذه الولاية إلى اليمن ولم ترجعه ولا استبدلت به سواه، وكانت هذه القوة مؤلفة من ألايَيْن فأُنْزِلَتْ إلى ألاي واحد، وبناء على هذا هبط عدد جنود طرابلس من أربعين ألفًا إلى أقل من خمسة آلاف. ٢- أن الأهالي ما فتئوا منذ أعلن الدستور يطلبون متشوقين الانتظام في الجندية لدفع التعدي عن وطنهم، ولكننا نقول إنه بالرغم من مخاطبتنا الشفاهية والتحريرية في طلب ذلك ومن قبول مجلس المبعوثان والحكومة فتح اعتماد في ميزانية سنة ١٣٢٦ مالية لعسكر طرابلس وبنغازي - لقائم مقام وكاتب ألاي واحد وأربعة يوزباشية وثلاثة عشر ملازمًا أولاً وواحد وعشرين جاويشًا - لم يبدأ بإجراء ذلك إلا في هذه السنة أي منذ أربعة أشهر وذلك في طرابلس الغرب فقط، ونقول - والأسف ملء صدورنا -: إن هذا العمل لم ينفذ في شكل ملائم لحاجة البلاد، فقد أخذ ثلاثة آلاف وأربعمائة شخص فقط من الأفراد الداخلين في الأسنان العسكرية مع أن عددهم كان ستة عشر ألفًا، ولم تطلب الحكومة سواهم فكان إهمالها هذا سببًا في تثبيط همم الأهالي مع أنهم كانوا قبلاً يريدون أداءَ الخدمةِ العسكرية بشوقٍ عظيم، ثم إنها لم تهتم بأمر القرعة فقط؛ بل أهملت أمر الرديف أيضًا. ٣- كانت حكومة العهد السابق قد احتاطت للطوارئ في طرابلس فحفظت فيها أربعين ألف بندقية من طراز مارتيني وشنايدر لتسليح الفرق المؤلفة من الأهالي عند الحاجة إلى معونتها فنقلت هذه البنادق إلى الآستانة بحجة الاستعاضة عنها بسلاح جديد ولم ترسل أسلحة بدلاً منها. كانت المدافع وغيرها من الأسلحة ترسل إلى طرابلس الغرب في العهد السابق بكل تحفظ وضبط مع أن خصومنا كانوا يعترضون على إرسالها في ذلك الحين؛ ولكن هذا المحذور زالَ في عهد الدستور، ولم يبق هناك ما يعوق إرسال الأسلحة وتحصين ولايتنا؛ لأن مجلس المبعوثان كان مستعدًّا أن ينفق المالَ في سبيلِ الدفاع عن الوطن، مع هذا تركت الوزارة ولايتنا ولم تعمر استحكاماتها وهي مطمح أنظار الأعداء. ٤- يعلم الأولاد قبل الحكومات أن الإيطاليين طامعون بالاستيلاء على ولاية طرابلس الغرب إن عاجلاً وإن آجلاً، ولهذا كان واجبًا على الضباط الذين في طرابلس والموظفين أن يكونوا ملمين باللسان المحلي وواقفين على الأحوال العسكرية وطبيعة الأراضي ليستطيعوا قيادة العساكر الأهلية التي يجب ضمها إلى العساكر النظامية حين حدوث خطر كالخطر الذي نحن فيه الآن؛ ولكن الحكومة استقدمت جميع الضباط المحليين المخرجين من الكتب الحربي إلا قليلين منهم وضباطًا آخرين تعلموا اللسان المحلي وعرفوا طبيعة الأراضي لطول مدة استخدامهم هناك، فظلت محلاتهم خالية، ولم يرسل ضباط سواهم مع شدة الحاجة، ولم تشترط الحكومة على العدد القليل الذي أرسلته بدلاً منهم وجوب معرفة اللسان المحلي، وبناء على هذا حرم الأهالي الذين تسلحوا للدفاع عن بلادهم من أطماع الأعداء قوادًا يفهمونهم ويقودونهم إبَّان الحرب، ولقد بات هؤلاء المنكودو الحظ في يأس وألم عظيم. ٥- إن أهل طرابلس الغرب الذين قاموا في وجه العدو مدافعين عن ولايتهم التي فقدت أسباب الدفاع تقريبًا أمحلت بلادهم منذ أربعة أعوام، وابتلوا بغلاء وجدب شديدين هما فوق حد التصور، ولقد أوضحنا ذلك لحضراتكم منذ سنتين بمخاطباتنا الشفاهية وتقاريرنا الخطية، علمت وزارة حقي باشا ذلك كله منَّا؛ ولكنَّها لم تحرك ساكنًا؛ بل تركت أهل طرابلس في احتياج شديد وضيق خانق يتضورون جوعًا. ولما رجعنا إلى بلادنا في عطلة مجلس المبعوثان رأينا مئتي ألف نفس من أهلها قد هاجروا إلى تونس والبلاد الأخرى من شدة الفاقة وسوء الحال، والتجأ أربعة آلاف نفس من الشيوخ والمرضى والأطفال والنساء إلى مركز الولاية لعلهم يجدون بلغة بالسؤال والاستعطاء، وقد مات ٥١٤ نفسًا من هؤلاء جوعًا في أثناء أربعة أشهر أي من شهر آذار إلى نهاية حزيران، هذا بالرغم مما عرض على مقام الصدارة خطيًّا وتلغرافيًّا في أوائل تموز يوليو ١٣٠٧ لإعطاء الثمانية آلاف ليرة الباقية من العشرة آلاف ليرة - وهو المبلغ الذي طلبت الحكومة تخصيصه وصادق مجلس المبعوثان على صرفه - ولم تعمل الحكومة شيئًا. ثم إن الست مئة ألف كيلة شعير التي قررت الحكومة توزيعها على الأهالي على سبيل القرض للبذار والأكل ونظمت المادة القانونية لها وصدق عليها لم ترسلها الحكومة حتى إعلان الحرب، فالولاية جردت من القوة النظامية وترك أهلها مهملين فباتوا في حال لا تمكنهم من المدافعة؛ بل تركوا عرضة للجوع ولجور عدو ظالم. ٦- إن الواجب على المأمورين الملكيين الذين يعينون في ولايات معرضة لأطماع الأعداء أن يكونوا ذوي مقدرة وكفاءة وعارفين اللسان المحلي ليستطيعوا تولي المهام وإدارة الشئون، وأن تُعَيِّنَ الحكومةَ أشراف أهل البلاد وذوي النفوذ في بعض البلاد بوجه استثنائي، ووزارة حقي باشا أهملت ذلك كله وعينت بعض الأخصاء (المقربين) في طرابلس الغرب فأضاع الأهلون الرجاء من الانتفاع بخدم مأموري الحكومة. ٧- إن أهمية هذه الولاية تستغني عن البيان والتعريف فكان الواجب أن لا تترك يومًا واحدًا بلا والٍ ولا قومندان؛ ولكن الحكومة عزلت أخيرًا واليها إبراهيم باشا بناء على طلب إيطاليا واستدعته إلى الآستانة قبل أن تعين آخر مكانه. وبينما الإيطاليون يستعدون لقضاء أغراضهم تركت الحكومة القيادة بيد ضابط برتبة أميرالاي والولاية بيد مكتوبجي غير مجرب ولا ممرن ولا يفهم اللسان المحلي ولا العادات المحلية، فكان لهذه الأحوال في أهل الولاية تأثيرٌ سيئٌ عظيمٌ حتى عادت الإشاعات الكاذبة التي كان خصومنا يجتهدون في نشرها منذ زمان، ونجتهد نحن في محوها من الأذهان، كقولهم للبسطاء والعوام: إن الحكومة العثمانية كفَّت يدها عن إدارة هذه الولاية أو إن الدولة تريد بيع مملكتكم، فهذه الأقوال وأمثالها صغرت النفوس وأضعفت الهمم وثبطت العزائم. هذا وقبلما تقع هذه الحوادث المهمة استقدمت الحكومة إلى الآستانة البكباشي وحيد بك المتخرج في المكتب الحربي وقومندان الاستحكام الذي يُعَوَّلُ عليه وحدَه في الدفاع حين هجوم الأسطول الإيطالي، ولم ترسل قومندانًا آخر بدلاً منه ففقدت المدينة أسباب الدفاع تمامًا بهذا الشكل. ٨- غني عن البيان أن الطليان لم يخفوا ما يضمرونه وهو الاستيلاء على طرابلس الغرب وبنغازي منذ سنين كثيرة، ولقد كانوا يجاهرون بذلك لجميع الملل ولا سيَّما العثمانيين كلما وجدوا إلى المجاهرة سبيلاً، وقد تنبهوا لمد نفوذهم في الأيام الأخيرة تنبهًا عظيمًا متربصين الزمن المساعد، فكان الواجب على حقي باشا قبل كل شخص آخر أن يعرف حقيقة الأمر وهو في سفارة رومية، وأن يعرف أهمية هذه المسألة أكثر مما يعرفها سواه. ولكن لما لم ينتبه إلى إنذارات مجلس النواب ولا إلى ما شهده واطَّلع عليه بالذات، ولا إلى بلاغات خلفه سفير رومية، ولا كتابات قائم مقام الولاية العديدة اغتنمت إيطاليا الفرصة التي سنحت، (وبينما كانت) إيطاليا تفاتح الدول في أثناء مسألة فاس لتحقق آمالها في طرابلس الغرب وتعد جيشها وأسطولها للاستيلاء كان حقي باشا يشهد هذه الأمور من بعيد، وأغرب من هذا أنه صرَّح لسفرائنا في أوربا بإجازات حتى إذا تعاظم الإشكال وبلغ حده من الشدة لم يكن إلا قليلون منهم في أماكن وظائفهم، فيظهر من هذا البيان ما ساعدت الحوادث به خصومنا علينا. ٩- كان الواجب بذل الهمة في جعل القوة القليلة النظامية المحلية التي هناك قادرة على المقاومة ولو زمنًا قليلاً بينما كان الأعداء يستعدون للهجوم؛ ولكن الحكومة لم تُعْنَ بهذا، وظلت حتى إعلان الحرب لا تحرك ساكنًا ولا تصدر أوامرَ؛ بل إن النقود الكافية التي يتوقف عليها الدفاع لم تكن قد وصلت فجعل ذلك الدفاع مستحيلاً مع أنه كان ممكنًا، فهذا كله سَهَّل للعدو الاستيلاء على الولاية. فيتبين مما تقدم أن الحكومة تركت طرابلس الغرب وبنغازي ميراثي أجداد العثمانيين عاجزتين عن الدفاع من كل وجه تركتهما بلا عسكر ولا سلاح ولا ذخيرة ولا ضباط ولا والٍ ولا قومندان ولا مؤن ولا نقود، تركتهما جائعتين فقيرتين. أَشَهِدَ تاريخُ الأممِ عَمًى إلى هذا الحد؟ أرأى إهمالاً كهذا الإهمال، أوجد ضعف محبة للوطن كهذا الضعف؟ فنحن مبعوثي طرابلس الغرب نمثل صورة ضمائر موكلينا وأبناء الأمة كافة بهذه النكبة التي جرتها علينا وزارة حقي باشا وزملائه. إن وزارة حقي باشا خالفت أول مادة وآخر مادة من القانون الأساسي في الأمور الخارجية والداخلية والمالية والحربية، ذلك القانون المعظم الذي هو أس الدولة الدستورية، فلهذا نطلب من مجلس المبعوثين أن يقومَ بوظيفته في الشأن. هذا ومبعوثو طرابلس الغرب يطلبون عملاً بالمادة الحادية والثلاثين من القانون الأساسي محاكمة وزارة حقي باشا تخليصًا للوطن في المستقبل من تهلكة يقع فيها حتى إذا وفقنا إلى تحديد المسئولية ووجوب إنزال العقاب علمنا أننا خدمنا الوطن. ... ... ... ... ... مبعوثا طرابلس: محمود ناجي وصادق