للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المؤتمر الإسلامي العام في بيت المقدس
(٣)

نشرنا في الجزء الماضي نص تقرير لجنة الدعوة والإرشاد الذي وافق عليه
المؤتمر بالفعل، وذكرنا أن المواد الأربعة التي فيه ملخصة من عدة مقترحات كانت
اللجنة وضعتها مبسوطة، فقرر المؤتمر في جلسته العامة أن تُلخص بصورة مواد
قانونية تصوغها فيها لجنة فرعية خاصة وكان ذلك، ووعدنا بأن ننشر المقترحات
الأصلية لما فيها من الفائدة العلمية والتاريخية، ولما وقع فيها من المناقشة والاعتراض
وهذا نصها:
مقترحات لجنة الدعوة والإرشاد على المؤتمر الإسلامي
١- تأليف جمعية باسم (جمعية الدعوة والإرشاد الإسلامية) على النهج الذي
كانت عليه الجمعية التي أُلِّفت بهذا الاسم في القاهرة يكون لها مدرسة كلية خاصة
تكون إحدى كليات الجامعة الإسلامية التي قرر المؤتمر السعي لإنشائها في بيت
المقدس لتخريج طائفتين من العلماء (إحداهما) : تخصص لإرشاد المسلمين على
اختلاف أجناسهم إلى حقيقة الإسلام بالتعليم النظامي السهل والتربية الدينية العملية
الموافقة لحالة العصر، (والثانية) لأجل دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ويُستعان
على إنشاء الجمعية والمدرسة بما وُضع للجمعية السابقة ومدرستها من نظام ومناهج
وتجربة.
٢- أن يعجل المؤتمر بإجابة رغبة كثير من الأعضاء إلى ما طلبوه من اتخاذ
وسائل سريعة لمقاومة سوء التأثير والضرر الواقع بالفعل من طعن دعاة النصرانية
(المبشرين) على الإسلام، وخاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، بخطبهم وكتبهم
ورسائلهم بوسيلة عملية ناجزة، وأن لا ينتظر في ذلك إنشاء المدرسة وتخريج
الدعاة والمرشدين فيها للقيام بهذا الواجب.
وترى اللجنة أن أقرب الوسائل لذلك نشر بعض الرسائل العلمية - المؤلفة
والتي تؤلف - في حقيقة دينهم وتقاليدهم فيه، ومن أهمها رسالة موضوعها (عقيدة
الصلب والفداء) قد بيَّن فيها مأخذ هذه العقيدة، وأنها ليست مما جاء به المسيح
عليه السلام؛ وإنما الحق في مسألة الصلب ما حققه القرآن، وهو كتاب الله الأخير
الذي حفظه الله من التحريف والتبديل، فنقترح أن يطبع المؤتمر منها ألوفًا كثيرة
من النسخ باللغة العربية، وتُوزع بالمجان في جميع البلاد العربية التي انتشر فيها
أولئك الدعاة.
وقد ترجمت هذه الرسالة باللغة الملاوية ترجمها الشيخ محمد بسيوني عمران
إمام مهراج سمبس برنيو وهو أحد تلاميذ مدرسة الدعوة والإرشاد السابقة، فنقترح
أن يخاطب المؤتمر الجمعيات الإسلامية في البلاد الإندوسية بطبعها وتوزيعها على
المدارس والجمعيات والأندية في تلك البلاد، وأن يُنتدب الممثلون لمسلمي الهند في
المؤتمر لترجمتها بلغة الأوردو، ونشرها في كل مكان يوجد فيه هؤلاء المبشرون
من تلك البلاد، وينبغي أن تُترجم باللغة الفارسية والإنكليزية وغيرهما أيضًا.
وقد شكا صاحب مجلة إسلامية في الصين لصاحب مجلة دينية في مصر
تصدي المبشرين عندهم لتنصير المسلمين والطعن في الإسلام والرسول عليه وآله
أفضل الصلاة والسلام، فأرسل إليه نسخة من هذه الرسالة فطفق يترجمها وينشرها
في صحيفته، فكف أولئك المبشرون عن التصدي للمسلمين هنالك.
٣- أن يَعْجلَ المؤتمر بتقديم خدمة إلى العالم الإسلامي ترى اللجنة أنها أهم ما
يجب البدء به وتعميمه بقدر الطاقة، وهي أن يكلف بعض العلماء بالكتاب والسنة
ومسائل الإجماع والمذاهب الإسلامية تأليف رسائل في عقائد الإسلام وآدابه
وفضائله وعباداته وتاريخ نشأته، تكون الوسيلة الأولى لإحياء روح الدين ومقاومة
الإلحاد والزندقة في عامة المسلمين، وتحقيق الأخوة الإسلامية على أكمل وجه
ممكن ويتوخى فيها ما يأتي:
(أ) أن يقتصر فيها على المسائل الإجماعية عند جميع أهل المذاهب
الإسلامية في الأصول والفروع لتكون مقبولة عند جميع المسلمين، وتمهيدًا لجمع
كلمتهم، وكونهم أمة واحدة لا يجوز أن تتفرق باختلاف الاجتهاد الذي يعذر فيه كل
مجتهد باجتهاده، وكل عامي باتباع المذهب الذي نشأ عليه.
(ب) أن تكون مشتملة على ما لا يسع مسلمًا جهله من أمور دينه وما يعلم
الذي فهمه بطلان ما يدعو إليه المبشرون وغيرهم من الدعاة إلى ما لا ينافي الإسلام،
وأنه كفر وفسوق عن الإسلام، من غير تصريح بشيء من تلك الأصول والبدع
ولا ذكر العقائد المخالفة ولا أسماء أهلها، وأهم هذه المسائل كون محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، المرسل رحمة للعالمين، وأن التشريع السماوي
قد تم بشرعه، ومن ادعى الوحي بعده فهو مفتر على الله تعالى مارق من دينه.
(ج) أن تكون في منتهى السهولة في العبارة والأسلوب يمكن أن يفهمها
العوام بمجرد التلقين والبيان الوجيز، ومن شرط ذلك خلوها من الاصطلاحات
الكلامية والفقية والأدلة المنطقية والأصولية.
(د) أن يكون ما تدونه في الإيمان بالله تعالى وصفاته وأفعاله موجهًا إلى ما
يؤثر في القلوب والأعمال من حبه تعالى ومراقبته، والتذكير بعلمه بما يسره المرء
ويخفيه، والرجاء في مثوبته لمن أحسن عملاً، والخوف من عقابه لمن أساء وظلم
... إلخ، ويكون الكلام في رسالة الرسل عليهم السلام مبينًا لعصمتهم وكذب من
يفترون عليهم، ويرمونهم بشيء من النقائص، وكونهم كانوا كلهم داعين إلى عبادة
الله وتوحيده وإبطال الشرك والوثنية، وإلى العمل الصالح والاستعداد للآخرة.
ثم ما امتاز به خاتمهم صلى الله عليه وسلم من المزايا والكمالات في أميته
وكتابه واشتمال شريعته على الأصول الكافية لإصلاح البشر إلى آخر الزمان، وما
في أفعاله وشمائله من الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة كشجاعته وسخائه ورحمته
وإيثاره الناس على نفسه وأهله.
(هـ) أن يكون الكلام في آداب الإسلام وفضائله مقرونًا بما لها من التأثير
في الأعمال النافعة من شخصية ومنزلية واجتماعية، والكلام فيما ينافيها من
الرذائل مبينًا لما لها من سوء التأثير والضرر في الأبدان والأموال والأعراض،
كمضار القمار والسكر واستعمال المخدرات التي فشت في هذا الزمان ... إلخ.
(و) أن يقتصر في العبادات على الكليات المجمع عليها في الطهارة
ومنافعها وصفة الصلاة وحكمتها وهي النهي عن الفحشاء والمنكر، ومناوءة الهلع
والجبن والبخل، وتعود النظام، وجمع الكلمة، وكون الزكاة ركنًا من أركان
الإصلاح المدني والاجتماعي والسياسي واقيًا للمسلمين من الفقر المدقع ومفاسد
البلشفية وعونًا لهم على كل إصلاح، وكون الصيام يُقصد به تقوية الإرادة بتربية
النفس على ترك الشهوات البدنية الضرورية المباحة تعبدًا لله تعالى لتكون على
ترك الشهوات المحرمة أقدر، وكون الحج عبادة روحية مالية، ورياضة جسدية
واجتماعية، ووسيلة لتعارف الشعوب الإسلامية ... إلخ.
٤- أن يقرر المؤتمر الاستعانة بأعضائه الحاضرين، ثم بلجانه التي تؤلف له
للتنفيذ وللنشر ولجمع الأموال، ثم بجمعيات الشبان المسلمين وغيرها من الجمعيات
الإسلامية بعد ترجمتها بلغاتها الراقية لغات الكتابة والتأليف، كما تقدم في نشر
رسالة مقاومة التبشير.
٥- أن يُعنى المؤتمر بالسعي للصلة بين خطباء البلاد الإسلامية وتعاونهم على
إصلاح الخطابة، وجعل موضوعاتها في المساجد في أمور الدين وسائر مصالح
المسلمين.
٦- أن يقرر المؤتمر التوسل لجعل التعليم في المدارس الإسلامية ولا سيما
الحرة التي لا سيطرة عليها للأجانب والرسميات كمدارس المجلس الإسلامي الأعلى
في مركزه فلسطين على الوجه الذي يؤهل تلاميذها للدعوة والإرشاد اللذين تقدم
بيانهما.
٧- أن يتخذ المؤتمر الوسائل التمهيدية لتعميم اللغة العربية في جميع الشعوب
الإسلامية لما في مقدمة هذا التقرير من توقف فهم الدين ووحدته عليها، واشتداد
الحاجة في هذا العصر إلى هذه الوحدة التي تجمع قوة هذه الأمة المؤلفة من ٣٥٠
مليونًا، بل ٤٠٠ مليون لحفظ حقيقتها وإعلاء شأنها ودفع ضروب العدوان عن
دينها ودنياها.
فاللغة في الأمة الواحدة كالمجموع العصبي في البنية، به يكون شعور جميع
الأعضاء بكل ما يطرأ عليها من الإدراكات والمؤثرات المؤلمة والملائمة، وعلى
هذا الشعور يتوقف التعاون الإيجابي والسلبي، فلا يتم لنا إحياء هداية الإسلام
بأنواعها ولا وحداته المتقدمة ولا فائدة مؤتمراته إلا بإحياء لغته الجامعة.
هذا ما رأت لجنتنا عرضه على الهيئة العامة لهذا المؤتمر وهي مستعدة لبيان
ما عساه يحتاج إلى الإيضاح منه، والدفاع عما يرد عليه من النقد، والسلام.
... ... المقرر ... ... ... ... رئيس لجنة الدعوة والإرشاد
... إسعاف النشاشيبي ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
* * *
الاعتراض على التقرير في المؤتمر
دعيت لتلاوة التقرير على منصة المؤتمر في جلسة يوم الأحد قبل الظهر ثالث
شعبان سنة ١٣٥٠ (١٣ ديسمبر سنة ١٩٣١) وتصدى للاعتراض الشيخ سعيد
درويش البابي الحلبي أحد أعضاء اللجنة الذي ذكرت خطته وشغبه في الجلسات
التي حضرها، فأسكته الرئيس ليتمكن الأعضاء من سماع التقرير وفهمه متصلاً
بعضه ببعض، وليكون الاعتراض بعد إتمامه وفهمه أدنى إلى كونه معقولاً ... إلخ.
وبعد تلاوته حضرت صلاة الظهر، فأرجئت الجلسة إلى ما بعد الصلاة، ثم
افتتحت في أول الساعة الثانية بعدها وفتح باب المناقشة فيه، فقام الشيخ سعيد
درويش فقال: إن مسألة الدعوة والإرشاد مهمة جدًّا؛ لأنها تتعلق بالعقيدة، وإن أهم
شيء عند المسلم أن يحافظ على عقيدته، وأنه هو كان عضوًا فيها وفي اللجنة
المالية؛ ولكنه رأى الشيخ رشيدًا رئيس هذه اللجنة مستبدًّا فيها لا يسمح للأعضاء
بإبداء آرائهم، وأنه هو كلما كان يبدي رأيًا نادى عليه الشيخ رشيد بالويل والثبور.
ثم قال: إن هذا التقرير الذي قدمه الشيخ رشيد ليس تقريرًا؛ لكنه محاضرة هو
الذي وضعها وحده فلم يشترك هو فيها، وإنها صنفت من مادة مطاطة بأسلوبه
الوهابي ليؤيد فيها مذهب الوهابية ضد سائر المذاهب الإسلامية، وإنه هو كان
اقترح على اللجنة أن تقرر عدم وجود خلاف بين المذاهب فلم يقبل كلامه (قال)
وإننا نطلب الحكم على هذا التقرير بالإعدام.
وقام السيد محمد الصبان مندوب الجاليات الحجازية التي تسعى لمقاومة ملك
الحجاز في خارج الحجاز فثنى على الشيخ سعيد درويش بأن هذا التقرير وهابي
وُضع لتأييد مذهب الوهابية، فاضطرب المؤتمر لهذه الجرأة الغريبة، وانبرى
أعضاؤه لتفنيد هذه المفسدة المُدَّعاة، مفسدة التفريق بين مذاهب المسلمين وفرقهم.
فسبق الأستاذ الشيخ مصطفى الغلاييني رئيس المجلس الإسلامي في بيروت،
وألقى خطابًا وجيزًا بصوت جهوري، قال ما خلاصته:
إننا جئنا إلى هنا لجمع كلمة المسلمين ونحن فوق المذاهب، وليس في
استطاعة أحد أن يمنع اختلاف المذاهب ويجعلها مذهبًا واحدًا، فالمذاهب تبقى على
حالها، وليحترم كل منا مذهب الآخر، ويكون مرجعنا إلى كتاب الله فهو جامعتنا
الدينية الكبرى، ولا بد أن يأتي يوم تتقارب فيه الأذهان حتى لا يبقى خلاف، وإذا
كنا نحن ندعو إلى التقارب بين المسلم والمسيحي، فكيف يمكن أن نفرق بين المسلم
والمسلم؟
ثم تكلم مقرر اللجنة الأستاذ إسعاف بك النشاشيبي فقال ما خلاصته:
إن لجنتنا قد اجتمعت واختارت السيد رشيد رضا رئيسًا لها (وعلل ذلك
بالتنويه بعلمه وخدمته للإسلام في هذا العمل وغيره زهاء أربعين عامًا) وإن
المعترض كان يحضر الجلسات أولاً، وقد اقترح على اللجنة أن تقرر أنه لا يوجد
خلاف بين المذاهب الإسلامية، وإنني أنا رددت عليه وقلت له: إن الخلاف
موجود وإنكاره مكابرة لا فائدة فيها، وخير لنا أن لا نذكره وأن نكتفي بذكر الأشياء
المجمع عليها، ثم انقطع عن الحضور. وقال: إننا لما أردنا قراءة التقرير للمرة
الأخيرة أخبرت الشيخ سعيدًا هذا ودعوته إلى حضور الجلسة فامتنع، والتفت إليه
وقال: أما نحن فقد حضرنا وتقرر كل شيء برأينا، وأما أنت فقد فررت من
الزحف.
(قال) نعم، إن السيد رشيد رضا هو الذي وضع التقرير؛ ولكنه لم يستبد
به بل كنا معشر الأعضاء نبدي له كل ما نراه من آرائنا فيتقبلها ويدونها، فتدور
المناقشة فيها، ولم نقدم إلى المؤتمر إلا ما اتفقنا عليه.
ثم تكلم الأستاذ الشيخ حسن أبو السعود وبدأ كلامه بقوله: إن الأستاذ النشاشيبي
مقرر اللجنة قد ذكر جل ما كان يريد أن يقوله هو، وفنَّد قول المعترض إن السيد
رشيدًا ما كان يقبل أن يناقشه أحد، وأنا أقر وأعترف بأنه تقبل كثيرًا من آرائي
بقبول حسن وأنا بمنزلة ولد له وتلميذه، وبالغ في الثناء كالأستاذ النشاشيبي.
ثم قام محمد علي أفندي الحماني، وقال إنه يوافق السيد رشيدًا على آرائه في
العلم والدين؛ ولكنه لا يوافقه على أن الإسلام قام بالدعوة والحجة دون السيف
والقوة، فضج الأعضاء واضطربوا من كل ناحية، ينكرون كلامه ويُجرّون لسانه،
وكان يعيد قوله ويبديه المرة بعد المرة متعجبًا مبتسمًا حتى أسكتوه واجمًا مبتئسًا.
ثم نهض الأستاذ الشيخ سليمان الضاهر، وقال: إننا جئنا إلى هنا لتوحيد كلمة
المسلمين لا لتفريقها؛ وإنني بصفتي شيعيًّا أؤيد تقرير السيد رشيد رضا ولا أرى
فيه تفريقًا، وأنا أعرف السيد وأقرأ مناره من أوائل العهد بإصداره وأشهد أنه كان
من أول الداعين إلى التأليف بين المسلمين وجمع كلمتهم؛ ولكنني أقترح تنقيح
المادة الرابعة منه.
(فردد السيد محمد حسين الدباغ مندوب حزب الأحرار الحجازي كلمة
الاعتراض على المادة الرابعة، وعلى مقدمة التقرير طالبًا إعادة قراءتها للمناقشة
فيها فلم يجبه أحد.
ثم تكلم الأستاذ الشيخ إبراهيم إطفيش (الإباضي) فقال ما ملخصه إنه هو
ممن ابتلوا بدراسة الخلاف بين المسلمين، وإنه يعتقد أن التوفيق والتأليف في هذا
المؤتمر متفق عليه، وأن الإخلاص مخيم عليه، وأنه يعرف السيد رشيدًا ويعرف
فكره وفضله، وأن رائده الوحدة الإسلامية وهو دائمًا يدعو إليها ... قال: ولكنني
رأيت في هذا التقرير ما كنت أود ألا يذكر فيه (؟ ؟) .
ثم نهض الأستاذ الحاج نعمان الأعظمي البغدادي فألقى خطابًا حماسيًّا في
الاتفاق والوحدة واتفاق الجميع عليها، والإنكار على إثارة ما يخالفها كالذي يحاوله
المعترض.
ثم نهض الأستاذ الشيخ محمد بهجة الأثري البغدادي وألقى خطابًا حماسيًّا في
الموضوع أثنى فيه على السيد رشيد رضا، وقال: إنه هو يوافقه على كلامه من
الناحية العلمية النظرية؛ ولكنه يخالفه في إمكان جعل هذا التقرير نافذًا بالفعل.
ثم قام الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار فقال: إن التقرير الذي وضعه السيد
محمد رشيد رضا جيد لا غبار عليه، ولا تفريق بين المسلمين فيه، وليس فيه ميل
إلى النزعة الوهابية كما قالوا قبل قراءته، وإنه وضع على ملأ منا وإني قرأته معه،
ووافقت عليه، وكل ما فيه نافع مفيد، وإن السيد محمد سعيد البابي طلب من
المؤتمر الحكم على هذا التقرير بالإعدام، والتقرير لم يُقرأ، فأطلب قراءته وتعديل ما
يرى المؤتمر إمكان تعديله منه.
(وأقول) : إنني أخذت كلمة الأستاذ عبد الوهاب النجار بنصها من مذكراته
التي أطلعني عليها بعد ذلك بمصر، ورأيته كتب فيها كلمة تاريخية غريبة لا تخطر
إلا في بال مؤرخ حفيظ مثله وهي:
ويذكرني القول بإعدام هذا التقرير بما قرره كهنة اليهود في هذا المكان من
وجوب إعدام المسيح، وأسأل الله تعالى للتقرير النجاة كما نجا المسيح عليه السلام
اهـ.
وأثنى بعض الأعضاء على التقرير إلا أنهم ارتأوا وجوب اختصاره.
(أقول) : أما أنا فقابلت ذلك الهجوم من الشيخ سعيد درويش البابي، الذي
أُخبرت بعد الجلسة أنه أزهري أيضًا، بالحلم والرفق، وقد كفاني الله تعالى أن
أقول شيئًا في إظهار جهله وجرأته على البهتان بما كبته به أعضاء لجنة الدعوة
والإرشاد، فكان فضيحة له على رؤوس الأشهاد، وباستنكار هيئة المؤتمر كلها لما
حاول من إثارة فتنة العصبية، والإنكار على الوهابية، ولهذا نصره مندوب حزب
الأحرار الحجازي الذي جاء المؤتمر لينصر حزبه على حكومة الحجاز السعودية،
ولم ينصره أحد غيره، بل خذله المؤتمر كله.
وقد افتتحت الدفاع عن التقرير بالإشارة إلى ما يعرفه أكثر أعضاء المؤتمر
وغيرهم من جهادي مدة ثلث قرن ونيف في سبيل جمع كلمة المسلمين على طريقة
أستاذي، بل أستاذيْ العصر وحكيميه السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده
المصري، ويشهد لي بذلك أكثر من ثلاثين مجلدًا من مجلة المنار لا يمكن لأحد أن
يماري فيها، قلت: وإن لي قاعدة معروفة مشهورة في الجمع بين أصحاب المذاهب
الإسلامية سميت القاعدة الذهبية وهذا نصها:
(نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه)
وذكرت أن مسائل هذا التقرير ليست من الخواطر التي عرضت في جلسات
اللجنة؛ وإنما هي نتائج تفكير قديم، وبحث طويل عريض، وتجارب ممحصة،
ثم أعيد تمحيصها بالشكل الذي وضعته في مسودة هذا التقرير مع أعضاء لجنته،
ونقحت بما اتفقوا عليه، بعد المناقشة فيه، وإن سبب ما أقترحه من جعل الرسائل
الإسلامية في العقائد والأحكام المجمع عليها؛ إنما هو جعلها مقبولة عند علماء جميع
المذاهب، فتكون أول نواة غرست في كل شعب إسلامي للاتفاق والوحدة، فكيف
يفهم عاقل أنها سبب للتفرقة.
ولا أرى حاجة إلى تلخيص كل ما قلته في ذلك الموقف؛ لأنني عالم أن كل من
يقرأ هذا التقرير في المنار يرى أن من الفضول الدفاع عنه أو الرد على المعترض
عليه بعد أن جبهه أعضاء اللجنة في جلسة المؤتمر العامة بما أثبت كذبه وبهتانه لي
ولهم، وأنه يتكلم عن هوى لا عن رأي واعتقاد، حتى رثيت له ولم أزد على ما قالوه
كلمة واحدة في تجهيله وإظهار سوء نيته.
ويرى أن اعتراض بعض الأعضاء على المادة الرابعة مما لا يظهر له وجه
وجيه، مع صحة نيتهم وحسن فهمهم الذي لا نزاع فيه.
وأما مكتب الرياسة فإنه نظر في وهن الاعتراض وخذلان من أثاره، وتأمل
فيما ارتآه بعض الأعضاء من استحسان تنقيح بعض المقترحات أو اختصارها بمثل
حذف ذكر جمعية الدعوة والإرشاد الأولى ومدرستها، وإيضاح بعض المقترحات
التي استحسن بعض الأعضاء تنقيحها كالمادة الرابعة، نظر المكتب في كل هذا
فعرض على هيئة المؤتمر العامة أن تقرر تأليف لجنة فرعية تختصر هذه
المقترحات وتضمها في صيغة مواد قانونية، فوافق المؤتمر على ذلك، وتألفت
اللجنة وخرج أعضاؤها من بهو الجلسات إلى حجرة خاصة، وبعد البحث والمناقشة
وضعنا المواد الأربع التي تقدم نصها في الجزء الماضي من المنار (ص٢٠٨) .
ثم عدنا إلى الجلسة العامة وقرئت المواد الأربع فوافق عليها المؤتمر بالإجماع،
فقام مندوب الحزب الحجازي وطلب إعادة قراءة مقدمة التقرير والمناقشة فيها فلم
يعن بطلبه أحد، فهذا ملخص ما وقع، ولم يدون مثله في شيء مما تناقش فيه
المؤتمر.
وإنني سأنشر في جزء آخر خلاصة الخطاب الطويل الذي ألقيته على هيئة
المؤتمر العامة في الأخطار التي تهدد العالم الإسلامي من أمراضه الذاتية العامة
لجماعته والشخصية في أفراده والخارجية، وما يجب على مثل هذا المؤتمر من
السعي لدرء الأخطار ومعالجة الأمراض.
((يتبع بمقال تالٍ))