أيها الأخوة الكرام: إنكم أنتم محل رجاء البلاد بتربيتكم وما تتلقون من العلوم العالية؛ لذلك أحب في هذا الوقت القصير أن أذكركم بما ينبغي لطالب العلم أن يكون عليه؛ ليتحقق رجاء أمته فيه. إن العلوم تُطْلَب لغرضين صحيحين: أحدهما تكميل النفس وترقية العقل. وثانيهما العمل بالعلم، وللعمل به مسلكان: أحدهما جعله حرفة ومُسْتَغَلاًّ للعامل، والآخر جعله وسيلة لترقية الأمة وإعلاء شأنها، ويمكن الجمع بينهما. الغرض الأول لا بد منه لكل عاقل، وهو العون الأكبر على الغرض الثاني، فإن من استنار عقله بالعلوم، وصار صحيح الحكم فيها، تعلو همته، ويكون جديرًا بالإحسان في العمل والإتقان للصنع، فيجب إذًا أن يكون هو أول شيء تتوجه إليه همتكم، وتعظم فيه رغبتكم. يظن بعض ضعفاء العقول وصغار النفوس أن طلب العلم لأجل ترقية شأن الأمة به، ينافي ما أودع في الغرائز من كون منفعة الإنسان لنفسه هي العلة الغائيَّة لكل عمل من أعماله، وأن من توجه إلى ذلك وجعله همه من حياته، تفوته مصالحه ومنافعه التي لا بد له منها. تلك خديعة الطبع اللئيم، ووسوسة شيطان الخسة والصغار لصغار الهمم، فقد رأينا بأعيننا وسمعنا وروينا عن التاريخ أن الذين يقفون حياتهم على خدمة أمتهم لا يعوزهم الطعام واللباس اللائق بهم، بل كانوا يفضلون عيشتهم على كل عيشة سواها؛ لما لهم من الكرامة ورفعة الذكر، إن لم يكن في بداية أمرهم ففي نهايته. إن من يسلك في طلب العلوم مسلك الاحتراف، قصده منه أن يجعله دكانًا يتجر به أو بستانًا يستغله؛ ليعيش منه لا يرتفع به إلى ما هو أعلى من هذا القصد، فإن قيمته في الوجود لا تعلو قيمة غيره من أصحاب الحرف والصناعات العملية: كالنجارة والحدادة والزراعة. لا أقول: إن هؤلاء لا قيمة لهم، وكيف أقول ذلك وأعمالهم لا بد منها للمجتمع الإنساني، وإنما أقول: إن هؤلاء هم أهل الطبقات الدنيا من الناس الذين لم يرتقوا في أفق الإنسانية. ويسهل على طلاب العلوم لأجل الكسب والاحتراف أن يكونوا في أفق أعلى من أفقهم بأن يوجهوا أنفسهم إلى إعلاء شأن الأمة بكسبهم وأعمالهم. أيها الإخوة: إن استعداد البشر للكمال لا حد له يعرف، ولا طرف له يوقف عنده، وإن الإنسان قد فطر على طلب الكمال، فلا يصل إلى شيء منه إلا ويطلب ما فوقه، وإن أفراده يتفاوتون في ذلك تفاوتًا لا نظير له في غيره من المخلوقات، فمنهم من يكون وجوده بمقدار محيط جسمه، لا يكاد يهمه شيء وراء توفية مطالبه كبعض الحيوانات الدنيا، ومنهم من يتسع وجوده حتى يملأ بلدًا كبيرًا أو مملكة عظيمة، وربما تعلو ببعض الناس همتهم إلى جعل وجودهم المعنوي ساريًا في أمم كثيرة، مالكًا للأرض التي يعيش فيها الإنسان. ولا نتكلم في هم الإنسان واستشرافه لما هو وراء ذلك من عالم الغيب، إذا كان فضل الإنسان وسعة وجوده الإنساني على قدر نفعه بعلمه وعمله، فلا شك أن من تتوجه نفسه إلى نفع جميع البشر، يكون أفضل وأكمل ممن لا يتوجه إلا إلى نفع أمة واحدة أو شعب واحد. ولكن كيف يتأتى للفرد من الناس أن يخدم أممًا كثيرة؟ الجواب على هذا السؤال يعرف من القاعدة المعقولة التي جاء بها الحديث النبوي، وجرى عليها الشرع الإسلامي، وهي (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول: الأقرب فالأقرب) ، وقد قال فقهاؤنا: إن من وجد من القوت زيادة عن كفايته قدمه للأقرب إليه من ولد وزوج ... إلخ، فإن وجد فضلاً أنفق منه على غير الأقربين من ذوي الحاجات، حتى قالوا: إنه يجب على المسلم أن ينفق على المضطر من غير المسلمين، ما لم يكن محاربًا لنا، وإنه يقدم الجار على غيره؛ لقربه! فعلى هذا يجب علينا أن نبدأ بنشر العلم، والقيام بالأعمال النافعة في أمتنا ومملكتنا، وأن يقدم أهل كل بلدة خدمة بلدهم الذي يقيمون فيه على غيره من بلادهم ثم نفيض بعد ذلك من علومنا وأعمالنا النافعة على غيرنا من الأمم على الوجه الذي سبقتنا إليه الأمم الحية في هذا العصر، وأمامكم العبرة في المدرسة التي تتعلمون فيها. أليس منشئو هذه المدرسة يقصدون بها جعل العلم الذي ينفع الناس وسيلة لنشر لغتهم، وبث تعاليم مذهبهم الديني في نفوس من يُعلِّمونهم؟! بلى، وإن في حالهم هذه لعبرة لنا، يجب علينا أن نعتبر بها، وأن نرفع أنفسنا لتكون أولى بهذه الثقة منهم. يجب عليكم أن تتعاونوا وتعتصموا بعروة الاجتماع، وأنكم ربما تلقون كيدًا وإحراجًا؛ لتشذوا وتتنكبوا جادة الاعتدال في استمساككم بدينكم وحرصكم على الاجتماع والتعاون، فيجب أن تتسع صدوركم لجميع ما تنكرون من معاملة من معكم، وأن تقابلوهم بالأدب في القول والفعل؛ لأن الأدب من الفضيلة وهي مطلوبة لذاتها؛ ولئلا يكون لهم عليكم حجة بعد أن ثبتت لكم الحجة عند دولتكم ودولتهم. إنكم لم تقصدوا بما كان منكم إلا إرضاء ضمائركم، والمطابقة بين عقائدكم وأعمالكم، فحسبكم أن يتم لكم ذلك بالهدوء والسكينة والأدب. وإني أُجِلُّكُمْ عن قصد العناد لرؤسائكم وأساتذتكم أو الجنوح للاستعلاء بالظفر لذاته. وأوصيكم بالمحافظة على الصلوات الخمس ولو منفردين في حجراتكم، وبالحرص على صلاة الجماعة كلما تيسر لكم ذلك ولو على أرض حديقة المدرسة، فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) . إنكم قمتم بواجب ديني سلبي وهو الامتناع من دخول الكنيسة؛ لسماع تعاليم دين غير دينكم، فعليكم بهذا العمل الإيجابي الذي هو عماد الدين، {اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: ١٥٣) .