حكم التصوير وصنع الصور والتماثيل واتخاذها (س٩) من صاحب الإمضاء الرمزي في سنغافوره. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله. ما قول الأستاذ المرشد مولانا السيد محمد رشيد رضا -أرشده الله ورضي عنه - في حكم عمل الصور من الجص والأحجار والمعادن مجسمة، وفي حكم عملها بالحفر أو القلم أو بآلة حبس الظل (الفوتغراف) غير مجسمة، هل هو جائز مطلقًا، أو في بعض الصور، وما الدليل على ذلك؟ وهل تقولون بحرمة ما صُنع للعبادة والتعظيم فقط، أم تذهبون إلى كون التحريم خاصًّا بالزمن المتقدم خوفًا من أن يكون ذريعة إلى عبادة الصور، أما الآن فلا يحرم لانسداد الذريعة؟ وهل يدل على ذلك ترْك الصحابة ما وجدوه في إيوان كسرى من الصور مع صلاتهم فيه؛ لأنها لمحض الزينة أم لا؟ وما حكم الاقتناء لها ولو لحاجة، والنظر ولو لضرورة عسر الاحتراز، أو لكونها عند مَن لا يحرمها؟ أفتونا على صفحات مناركم مأجورين، ولا زلتم قبلة الإفادة، وللصواب موفَّقين، وبإمداد الله مُعانين. حرره في سنقفوره - د. هـ. ن. (ج) سبق لنا قول وجيز في هذه المسألة واقتضت الحال الآن بسط المسألة بالتفصيل، وهو يتوقف على إيراد الأحاديث الصحيحة الواردة فيها، وملخص ما فهمه العلماء المشهورون منها , وقد استوفى الإمام البخاري جُل ذلك في كتاب اللباس من صحيحه، فنعتمد في النقل على ما ورد فيه، فنذكره بغير عزو إليه غالبًا، ونعزو ما ننقله عن غيره لزيادة فائدة فيه، ونعتمد في تلخيص أقوال العلماء على ما أورده الحافظ ابن حجر في الفتح؛ فإنه أجمع الكتب التي نعرفها لذلك ولأمثاله، وإن نقلنا شيئًا عن كتاب آخر نعزوه إليه. * * * الأحاديث الصحيحة في التصاوير والمصوِّرين ١- عن مسلم (هو ابن صبيح أبو الضحى واشتهر بكنيته) ، قال: كنا مع مسروق في دار يسار بن نمير (هو مولى عمر بن الخطاب وروى عنه) ، فرأى في صُفَّته [١] تماثيل، فقال: سمعت عبد الله (هو ابن مسعود) ، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: إن أشد الناس عذابًا عند الله المصوِّرون) ، وفي رواية مسلم: (كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل، فقال مسروق: هذه تماثيل كسرى؟ ، فقلت: لا، هذا تماثيل مريم) ، ثم ذكر الحديث. ٢- عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذين يصنعون هذه الصور يعذَّبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم) . ٣- عن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال: (إني أصور هذه الصور، فأفتني فيها، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل مصوّر في النار، يجعل له بكل صورة نفسًا فتعذبه في جهنم) . وقال: فإن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر، وما لا نفس له. ورواه مسلم وأحمد وفي بعض الروايات أن السائل رجل من أهل العراق أراه نجَّارًا، وفي بعضها أنه قال له: إنما معيشتي من صنعة يدي، وأنه عندما ذكر له الحديث انتفخ غيظًا، فرخص له بما ذُكر، ونص المرفوع في رواية أخرى: (مَن صوَّر صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ) ، قال الحافظ ابن حجر وفي رواية أبي سعيد بن أبي الحسن: (فإن الله يعذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدًا) ، واستعمال حتى هنا نظير استعمالها في قوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ} (الأعراف: ٤٠) ، وكذا قولهم: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب، ثم ذكر أن هذا أمر تعجيز لا من تكليف ما لا يُطاق، وأنه استشكل في حق المسلم؛ لأنه يدل على الخلود، وأنه يتعيّن تأويله بإرادة الزجر الشديد، وأن ظاهره غير مراد. اهـ ما ذكره الحافظ ملخصًا، وأقول: الأوْلى أن يُحمل على المشركين الذين يصنعون ما يُعبد لعبادته كما يُعلم مما يأتي. ٤- عن عمران بن حطان عن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه. التصاليب جمع تصليب وهو مصدر سمي به ما كان فيه صورة الصليب من ثوب أو غيره، ونقضه أزاله، والإزالة تكون بنحو الطمس والحك واللطخ والقطع، وقد ذكر البخاري هذا الحديث في (باب نقض الصور) وذكر الحافظ في وجه مطابقة الحديث للترجمة أنه استنبط من نقض الصليب نقض الصورة التي تشترك مع الصليب في المعنى، الذي هو سبب التحريم، وهو عبادتهما من دون الله. ٥- عن أبي زرعة قال: دخلت مع أبي هريرة دارًا بالمدينة فرأى في أعلاها مصورًا يصور، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ... ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، وليخلقوا ذرة) . في هذه الرواية حذفٌ عُلم من رواية أخرى، وهو: (قال الله عزوجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق...... إلخ) ، رواها مسلم، وفيها أن الدار دار مروان، وفي رواية له: تُبنى لسعيد أو لمروان، قال ابن بطال: فهم أبو هريرة أن التصوير يتناول ما له ظل، وما ليس له ظل؛ فلهذا أنكر ما يُنقش على الحيطان، يعني ابن بطال أن هذا الفهم غير صحيح، من حيث إن التشبيه في الحديث القدسي لا ينطبق عليه، فإن الله تعالى خلق ذوات ماثلة لا نقوشًا في الحيطان ونحوها، ويمكن أن يقال أيضًا: إن صنع التماثيل ذات الظل - التي شددوا فيها - لا تعد من هذا الظلم إلا إذا قصد صانعها أن يخلق كخلق الله، وقد فسروا (ذهب يخلق) بقصد، وهو رواية حديث ابن فضيل، ويؤيده حديث عائشة الآتي (وهو التاسع) ، إذ قال: (يضاهون بخلق الله) ، وفي رواية مسلم: ( ... يشبهون بخلق الله) ، وإنما يكون هذا بالقصد. ٦- عن ابن عباس عن أبي طلحة رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تصاوير) . ٧- عن عبد الله بن عمر قال: وعد جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فراث (أي أبطأ) عليه، حتى اشتد على النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج، فلقيه، فشكا إليه ما وجد، فقال: (إنا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب) هكذا أخرجه البخاري مختصرًا، وهو عند مسلم من حديثي عائشة وميمونة أوضح، وفي الأول: (ثم التفت فإذا جرو كلب تحت سريره، فقال: يا عائشة، متى دخل هذا الكلب ههنا؟ فقالت: والله ما دريت به. فأمر به، فأخرج، فجاء جبريل ... ) ... إلخ، وفي الثاني: (ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا، فأمر به، فأخرج، ثم أخذ بيده ماءً، فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل ... إلخ) ، وظاهر الحديثين أن امتناع جبريل كان بسبب وجود الكلب؛ إذ ليس فيهما ذكر للصور، وفي الأول أنه رأى الكلب عَرَضًا، ولم يكن عالمًا بوجوده، وفي الثاني أنه كان عالمًا به، وتذكره بعده إبطاء جبريل، وفيهما الخلاف بين السرير والفسطاط، والأول معروف، والثاني بيت من شعر دون السرادق، وقال النووي: أصله عمود الأخبية، والمراد به في الحديث بعض حجال البيت، فيطابق حديث عائشة. اهـ بالمعنى. وفي القصة حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي وصححه كابن حبان والحاكم وهو: (أتاني جبريل فقال: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمُر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع، فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر، فليقطع، فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن، ومر بالكلب فليخرج) ، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا الكلب جرو كان للحسن والحسين تحت نضد لهم، وفي رواية النسائي: (إما أن تقطع رءوسها، وإما أن تجعل بسطًا توطَّأ) والنَّضَد بفتحتين: ما ينضد من متاع البيت، يجعل بعضه فوق بعض، وما ينضد عليه ذلك المتاع من سرير وغيره، فهو يطابق حديث عائشة من هذا الوجه. ظاهر هذا الحديث أن الواقعة كانت في بيت علي وفاطمة، وظاهرُ حديثِ كُلٍّ من عائشة وحفصة أنها كانت في بيتها. ومن الاضطراب في هذه الروايات أن حديث ابن عمر صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج، فلقى جبريل خارج البيت، وظاهر حديث عائشة أن جبريل دخل البيت بعد إخراج الكلب، وصرحت عائشة وحفصة بأنه صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج الكلب قبل لقاء جبريل بعد رؤيته، أو تذكره، وصرح أبو هريرة بأن جبريل هو الذي أخبره به، واقترح عليه إخراجه، وعادة العلماء أن يجمعوا بين أمثال هذه الروايات المتعارضة بتعدد الوقائع، وعليه يترجَّح أن يكون ما رواه أبو هريرة وقع أولاً، فعلم منه النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل لا يدخل مكانًا فيه كلب؛ ولذلك أمر بإخراج الكلب بعد ذلك لما رآه أو تذكره، لعلمه مما سبق أنه هو سبب تأخر جبريل، ولكن في حديثي عائشة وحفصة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم سبب تأخُّر جبريل عليه السلام؛ لأنه سأله عنه، فقال - في حديث عائشة -: (منعني الكلب الذي كان في بيتك ... إنا لا ندخل ... ) ... إلخ. وذكر النووي في سبب الامتناع أربع علل: ١- كثرة أكل الكلاب للنجاسات. ٢- قبح رائحتها، أي رائحة بعضها. ٣- أن بعضها يسمى شيطانًا، وهو الأسود القبيح المنظر. ٤- النهي عن اتخاذها، ولهذا الأخير قال الخطابي: إن الامتناع خاص بما نُهي عنه، دون المأذون فيه ككلب الماشية والزرع والصيد، وخالفه النووي، فقال بالتعميم في الكلاب، ولكنه خص الملائكة بملائكة الرحمة. ٨- عن أنس رضي الله عنه قال: (كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أميطي عني؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي) ، أميطي: أي نحِّي وأزيلي، وفيه حذف المفعول، ورواية مسلم: (أزيليه) . ٩- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه، وقال: أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله. قالت: فجعلناه وسادة أو سادتين) . وفي رواية للبخاري في المظالم، ( ... قالت: فاتخذت منه نمرقتين، فكانتا في البيت يجلس عليهما) ، وفي رواية لمسلم: ( ... فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق بهما في البيت) ، وفي لفظ أحمد: فقطعته مرفقتين، فلقد رأيته متكئًا على إحداهما، وفيها صورة، والنمرقة والمرفقة: الوسادة كما سيأتي. ١٠- وعنها أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بالباب فلم يدخل، (قالت) : فقلت: أتوب إلى الله مما أذنبت. قال: ما هذه النمرقة؟ ! قلت: لتجلس عليها وتوسدها. قال: إن أصحاب هذه الصور يعذَّبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصور) وفي رواية مسلم: (اشتريتها لك؛ تقعد عليها، وتوسّدها) . والفقرة المرفوعة منه: (إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة) . ١١- وعنها قالت: قدم النبي صلى الله عليه وسلم من سفر، وعلقت دُرْنُوكًا فيه تماثيل فأمرني أن أنزعه، فنزعته، هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم: ( ... وقد سترت على بابي درنوكًا، وفيه الخيل ذات الأجنحة) ، وفي لفظ آخر عنده: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم علي، وقد سترت نمطًا فيه تصاوير، فنحاه، فاتخذت منه وسادتين) وستور الدرنوك، والنمط جنس واحد كما سيأتي. ١٢- عن بشر بن سعيد عن زيد بن خالد (الجُهني الصحابي) عن أبي طلحة (زيد بن سهل الأنصاري) صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصورة) (وفي نسخة (الصور) وفي أخرى (صور) قال بشر: ثم اشتكى زيد (أي ابن خالد) فعُدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة (وفي نسخة صور) ، فقلت لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم - وكان مع بشر -: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ ! (وفي نسخة (يوم أول) فقال عبيد الله: ألم تسمعه حيث قال: (إلا رقْمًا في ثوب) ، قال الحافظ في رواية عمرو بن الحارث: فقال إنه قال: (إلا رقمًا في ثوب) ألا سمعتَه؟ قلت: لا. قال: بلى قد ذكره. وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. ١٣- وروى مسلم وأبو داود عن زيد بن خالد عن أبي طلحة الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تماثيل، قال: فأتيت عائشة، فقلت: إن هذا يخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تدخل الملائكة ... إلخ، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك؟ ، فقالت: لا، ولكن سأحدثكم ما رأيته فعل، رأيته خرج في غزاة، فأخذت نمطًا، فسترته على الباب، فلما قدم، فرأى النمط عرفت الكراهية في وجهه، فجذبه حتى هتكه، أو قطعه، وقال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين، قالت: فقطعنا منه وسادتين، وحشوتهما ليفًا، فلم يعب ذلك عليَّ) . قالوا: إن هذا النمط هو الذي فيه الخيل ذات الأجنحة كما تقدم آنفًا من رواية أخرى عند مسلم، وذكر النووي أن العلماء استدلوا به على منع ستر الحيطان وتنجيد البيوت بالثياب، وهو منع كراهة تنزيه لا تحريم، هذا هو الصحيح، ثم رد على مَن حرمه. وأقول: الظاهر أن هذا الحديث معارض لتلك الأحاديث؛ إذ ليس فيه أنه أنكر الصور التي في النمط، ويمكن أن يقال إن: هذا وقع قبل امتناع جبريل من دخول البيت لوجود التماثيل والكلب فيه، إلا أن عائشة حدثت بهذا وبغيره بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسألة مشكلة من هذا الوجه، ومثله حديث أنس عند البخاري (وهو الثامن مما أوردنا) ففيه: أنه صلى الله عليه وسلم أمرها بإماطة القرام؛ لأن تصاويره تعرض له في صلاته، فَعِلَّة الأمر بإزالته أنه يشغل نظر المصلي إليه، وجماهير الفقهاء متفقون على كراهة الصلاة إلى ما يشغل المصلي، ولا دليل فيه على إنكار الصور، أو تحريم اتخاذها، ومثله حديثها في الدرنوك (وهو الحادي عشر) ، ولكن ليس فيه تصريح بالعلة، ومثله حديثها عند مسلم في الثوب الممدود إلى السهوة، وأما حديثها في القرام (وهو التاسع) ، وحديثها في النمرقة (وهو العاشر) - فهما صريحان في إنكار اتخاذ الصور بتلك الهيئة، وقد استشكل ذلك العلماء، وأجاب بعضهم عنه بتعدد الوقائع، وبأن الصور في بعضها من غير ذوات الأرواح، وهي التي لم ينكرها، وفي بعضها من ذوات الأرواح كالطير والخيل، وهي التي أنكرها، ويقال هنا أيضًا ما قلناه في حديث زيد بن خالد عن أبي طلحة، وهو أن عائشة كانت تحدث بذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا كانت تذكر كل واقعة وحدها، ولم تبين لكل سائل أو محدَّث كل ما علمته في المسألة؟ ، وهل يعقل أن ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة عملاً عملته في بيته، فتزيله بأمره، ثم تعود إلى فعله؟ ، كلا، إن الروايات في هذه المسألة مضطربة، ولم نَرَ لأحد من العلماء قولاً شافيًا فيها. والذي نراه أقرب إلى الوقوع أن عائشة كانت علقت على الجدار سترًا فيه تصاوير للزينة، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من باب الإرشاد إلى ما يُستحسن في تدبير المنزل، وهو عدم إضاعة الثوب بوضعه على الجدار وضعًا لا فائدة فيه؛ لأن الثياب لستر الأبدان وزينتها، لا لستر الحجر والطين، ويحتمل أن يكون هذا هو الذي وقع أمامه في صلاته، وأنه علل أمره بإزالته بكونه يشغل النظر في وقت الصلاة، وبكونه إسرافًا وإضاعة للثوب، وأن عائشة ذكرت كل تعليل مرة في سياق كلام اقتضاه، أو ذكرتهما معًا، وذكر الرواة كلاً منهما في سياق اقتضاه، ويحتمل أن يكون الحديثان في واقعتين، عُلل الإنكار في الأولى منهما بشغل النظر في الصلاة، وأن الستر كان في الثانية، بحيث لا يراه في الصلاة، وكل حديث في هذا الباب لم تنكر أو لم تذكر فيه التصاوير فهو محمول على تلك الواقعة أو الواقعتين، وأما الروايات - التي فيها التصريح بإنكار اتخاذ التصاوير بتلك الصفة - فالأقرب أنها في واقعة واحدة كانت بعد ما تقدم، وأنها علقت النمرقة في غيبته؛ إذ كان مسافرًا، فلما عاد، ورآها أنكر عليها، وامتنع من دخول البيت حتى تنزعها، فلما تابت دخل، وهتكها بيده، أي أزالها، إلا أن الإخبار بها كان في أوقات مختلفة، فاختلف التعبير باللفظ والمعنى، ومن الأول القرام والنمط والدرنوك والنمرقة والوسادة والمرفقة [٢] ، ويدل على هذا الجمع قولها: (أتوب إلى الله مما أذنبت؟ !) فلولا النهي السابق لم يكن تعليقها النمرقة ذنبًا تتوب منه، ولكن في بعض روايات الصحيح أنها قالت: فما أذنبت، ولعل هذا غلط من بعض الرواة. ١٤- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمَّعن منه (أي يستترن) ، فيُسَرِّبُهُنَّ (أي يرسلهن) إليّ، فيلعبن معي) ، أخرجه البخاري في كتاب الأدب من الصحيح. وقد حرّف بعض المشددين في مسألة الصور هذا الحديث، فزعم أن معنى قولها كنت (ألعب بالبنات) كنت ألعب مع البنات، قال الحافظ في شرح الحديث: حكاه ابن التين عن الداودي وردَّه، (قلت) : ويرده ما أخرجه ابن عيينة في الجامع من رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه عن هشام بن عروة في هذا الحديث: (وكن جواري يأتين فيلعبن معي) ، وفي رواية جرير عن هشام: (كنت ألعب بالبنات وهن اللعب) ، أخرجه أبو عوانة وغيره، وأخرج أبو داود والنسائي من وجه آخر عن عائشة قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر ... فذكر الحديث في هتكه الستر الذي نصبته على بابها، قالت: فكشف ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي، ورأى فيها فرسًا مربوطًا له جناحان، فقال: ما هذا؟ قلت: فرس، قال: فرس له جناحان! قلت: ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة؟ ! فضحك) . فهذا صريح في أن المراد باللعب غير الآدميات. اهـ. ١٥- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم - أي مرض مرض الموت - ذكر بعض نسائه كنيسة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتيا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، ثم صوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله) ، أخرجه البخاري في أبواب المساجد وفي الجنائز، وأخرجه مسلم في المساجد. * * * أقوال العلماء في فقه هذه الأحاديث (١) قال الحافظ - عقب ذكر حديث أبي هريرة المتقدم عن أحمد وأصحاب السنن ما نصه -: وفي هذا الحديث ترجيح قول مَن ذهب إلى أن الصورة التي تمتنع الملائكة من دخول المكان التي تكون فيه - هي ما تكون على هيئتها مرتفعة غير ممتهنة. فأما لو كانت ممتهنة أو غير ممتهنة لكنها غيرت عن هيئتها، إما بقطعها من نصفها، أو بقطع رأسها فلا امتناع. (٢) ثم قال الحافظ - في إثْر ما تقدَّم -: وقال القرطبي: ظاهر حديث زيد بن خالد عن أبي طلحة الماضي قبلُ (وهو التاسع مما نقلناه عن البخاري) أن الملائكة لا تمتنع من دخول البيت الذي فيه صورة إن كانت رقمًا في الثوب، وظاهر حديث عائشة المنع، ويجمع بينهما بأن يُحمل حديث عائشة على الكراهة، وحديث أبي طلحة على مطلق الجواز، وهو لا ينافي الكراهة. (قال الحافظ:) قلت وهو جمع حسن، لكن الجمع الذي دل عليه حديث أبي هريرة أولى منه، والله أعلم. (٣) قال الحافظ - عند الكلام على حديث النمرقة -: قال الرافعي: وفي دخول البيت الذي فيه الصورة وجهان، قال الأكثر: يكره وقال أبو محمد: يحرم، فلو كانت الصورة في ممر الدار لا داخل الدار، كما في ظاهر الحمام أو دهليزها لا يمتنع الدخول، قال: وكأن السبب فيه أن الصورة في الممر ممتهنة، وفي المجلس مكرمة، (قلت) وقضية إطلاق نص المختصر، وكلام الماوردي وابن الصباغ وغيرهما لا فرق اهـ. (٤) اختلفوا في الملائكة التي لا تدخل بيتًا فيه صورة ولا كلب، فقيل هو على العموم، وقيل هو خاص بملائكة الرحمة، وتقدم عن النووي، وصرح هؤلاء بأنه يُستثنَى منه الحَفَظَة، وقيل مَن نزل بالوحي خاصة كجبريل (قال الحافظ:) وهذا نقل عن ابن وضاح والداودي وغيرهما، وهو يستلزم اختصاص النهي بعهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الوحي انقطع بعده، وبانقطاعه انقطع نزولهم، وقيل التخصيص في الصفة، أي لا تدخله الملائكة دخولَهم بيتَ مَن لا كلب فيه. (٥) قال الحافظ: وأغرب ابن حبان فادَّعى أن هذا الحكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: وهو نظير الحديث الآخر: (لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس) (قال:) فإنه محمول على رفقة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ مُحال أن يخرج الحاج والمعتمر لقصد بيت الله عز وجل على رواحل لا تصحبها الملائكة، وهم وفد الله. انتهى، وقد استبعد الحافظ هذا التأويل، وقال إنه لم يره لغيره. (٦) قال: وقد استشكل كوْن الملائكة لا تدخل المكان الذي فيه التصاوير مع قوله سبحانه وتعالى - عند ذكر سليمان عليه السلام -: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيل ... } (سبأ: ١٣) ، وقد قال مجاهد: كانت صورًا من نُحَاس. أخرجه الطبري. وقال قتادة: كانت من خشب ومن زجاج، أخرجه عبد الرزاق. والجواب أن ذلك كان جائزًا في تلك الشريعة، وكانوا يعملون أشكال الأنبياء والصالحين منهم على هيئتهم في العبادة؛ ليتعبدوا كعبادتهم. وقد قال أبو العالية: لم يكن ذلك في شريعتهم حرامًا، ثم جاء شرعنا بالنهي عنه، ويُحتمل أن يقال: إن التماثيل كانت على صورة النقوش لغير ذات الأرواح، وإذا كان اللفظ محتملاً لم يتعين الحمل على المعنى المشكل، وقد ثبت في الصحيحين حديث عائشة في قصة الكنيسة، التي كانت بأرض الحبشة، وما فيها من التصاوير، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: (كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله) ، فإن ذلك يُشعر بأنه لو كان جائزًا في ذلك الشرع ما أطلق عليه صلى الله عليه وسلم أن الذي فعله شر الخلق، فدل على أن فعل صور الحيوان فعل محدث أحدثه عُبَّاد الصور، والله أعلم. اهـ. أقول: لم يأتِ الحافظ رحمه الله بشيء يشفي في هذه المسألة، والذي يظهر في حل الإشكال أن وجود التصاوير في مكان ليس مانعًا ذاتيًّا لدخول الملائكة فيه؛ إذ لو كان كذلك لم يختلف فيه حكم شرائع الأنبياء عليهم السلام، وأصل دين الله فيهم واحد، وإنما اختلفت فيه شرائعهم بما يختلف ضره ونفعه وفساده وصلاحه باختلاف الزمان والمكان، وما ذكره الله تعالى من منَّته على نبيه سليمان عليه السلام في هذه المسألة - دليل على أن عمل التماثيل له، واتخاذه إياها في مبانيه، لم يكن فيه مظنة عبادة، ولا تشبه بالمشركين مذكِّر بعبادتهم مؤنس للمؤمن بها. ومن العجيب أن يذكر الحافظ في تعليل ما كان يعمل لسليمان أنه كان يعمل له صور الأنبياء والصالحين ... إلخ، وهذا هو أصل البلاء في عبادة الصور والتماثيل، فقد روى البخاري وغيره أن أصنام قوم نوح وأوثانهم المذكورة في سورة نوح صارت إلى العرب، وأن أسماءها كانت أسماء رجال صالحين، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسخ العلم عُبدت. ويؤيد هذا حديث عائشة في قصة الكنيسة وقد تقدم، فالنصارى قد اتبعوا سنن سلفهم من الروم واليونان في اتخاذ الصور والتماثيل، فكانوا يجعلون صور الأنبياء والصالحين في المعابد وغيرها، وهي التي ذمَّهم الرسول صلى الله عليه وسلم بها، ولم يذمهم على اتخاذ صور الملوك والقواد والوالدين والأولاد وغيرهم مما لا شبهة فيه على العبادة، ولا دخل له في الدين، فمن العجيب أن يغفل المستنبط عن علة الشيء الصريحة، ويتخذ له علة أخرى يفسر بها النصوص؛ ليجمع بينها، فيحمل الشيء على ضد المراد، على أن الحافظ ذكر حديث الكنيسة المصرح بالعلة الصحيحة، ولكنه لم يرد به ما ذكره قبله. وقد وقع مثل هذا لبعض المؤلفين المقلدين في تشريف القبور بالبناء، ووضع الستور عليها، فحمل النهي عن ذلك في الأحاديث على ما لم يقصد به تعظيم الميت الصالح، أي لأنه إضاعة للمال، وأباح ما اتبع به الخلف الصالح سنن مَن قبلهم من بناء القبور الصالحين، ووضع الستور عليها إذا كان المراد به تعظيمها قياسًا على أستار الكعبة! ، وهو قياس مصادم للنص، مبطل له، ناقض لعلته، ذاهب بحكمته، فإن الخطر على أصل الدين - وهو التوحيد - إنما هو تعظيم قبور الصالحين؛ لأنه أدى عبادتها بالتعظيم والطواف والتمسح ودعاء الموتى، (والدعاء هو العبادة) ، كما ثبت في الحديث عند أحمد وأصحاب السنن وغيرهم. وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة مِرَارًا. (٧) نقل الحافظ في شرح حديث عبد الله بن مسعود - وهو الأول مما أوردنا - عن الخطابي أقدم شُراح البخاري أنه قال فيه: إنما عظمت عقوبة المصور؛ لأن الصور كانت تُعبد من دون الله؛ ولأن النظر إليها يفتن، وبعض النفوس إليها تميل، قال: والمراد بالصور هنا: التماثيل التي لها روح. اهـ. أقول: التعليل الأول هو الصحيح الذي يؤخذ من مجموع النصوص، واقتصر عليه المحققون، وأما دعوى الافتتان بجمالها، وهذا لا يقع إلا نادرًا فلا يُبنى عليه مثل هذا الوعيد الشديد، وإنما يظهر وجهه إذا أُريد به الافتتان الديني، الذي كان عليه الكفار، وهو يرجع إلى التعليل الأول. ومن العجيب أن يجعل الميل والاستحسان لبعض خلق الله والسرور به مذمومًا شرعًا ومقتضيًا لتحريم الاستمتاع به، وإن لم يترتب عليه ترك فريضة، ولا ارتكاب معصية. فليحرموا إذًا النظر والتأمل في زينة الكواكب النيِّرات، والجنات معروشات وغير معروشات، وجمال رياض الأزهار، ومحاسن حدائق الأشجار، وسماع خرير المياه، ونغمات الأطيار، وغير ذلك من صنع الله {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: ٨٨) ، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَه} (السجدة: ٧) ، وماذا يفعلون بقول الرسول عليه الصلاة والسلام لمَن سأله عن الزينة في اللباس: (إن الله جميل يحب الجمال) ؟ رواه مسلم والترمذي من حديث ابن مسعود وغيرهما عن غيره أيضًا. (٨) ثم قال - بعد نقل ما تقدم عن الخطابي -: وقيل يفرق بين العذاب والعقاب، فالعذاب: يطلق على ما يؤلم من قول أو فعل كالعتب والإنكار، والعقاب: يختص بالفعل. فلا يلزم من كون المصور أشد الناس عذابًا أن يكون أشد الناس عقوبة، هكذا ذكر الشريف المرتضى في الآية المشار إليها، وعليها انبنى الإشكال، ولم يكن هو عرج عليها؛ فلهذا ارتضى التفرقة، والله أعلم. (قال:) واستدل به أبو علي الفارسي في التذكرة على تكفير المشبِّهة، فحمل الحديث عليهم، وأنهم المراد بقوله: (المصوِّرون) ، أي الذين يعتقدون أن لله صورة، وتُعُقِّبَ بالحديث الذي بعده في الباب بلفظ: (إن الذين يصنعون هذه الصور يعذَّبون) ، وبحديث عائشة الآتي بعد بابين بلفظ: (إن أصحاب هذه الصور يعذَّبون) وغير ذلك، ولو سلم له استدلاله لم يرد عليه الإشكال المقدم ذكره - أي معارضة الآية للحديث - اهـ، وحديث الباب الذي أشار إليه هو الثاني مما أوردنا. وأقول: كان يمكن لأبي علي أن يجيب عن هذا لو أورد عليه بجعْل حديث: (إن أشد الناس عذابًا عند الله المصورون) - في الذين يجعلون لله تعالى صورة مماثلة لصور بعض المخلوقات، ويجيب عن معارضة الآية بتقدير (من أشد) ويتفصى بذلك من جعْل التصوير ككفر آل فرعون مشاركًا له في مثل عقابه، ومعلوم من أصول الشريعة المجمع عليها أن ما ورد النص بتسميته أكبر الكبائر هو دون أشد الكفر بالشرك بالله، ومعاندة رسله ككفر آل فرعون؛ إذ كل كبيرة من هذه الكبائر - التي هي أعظم جرمًا من التصوير المحرم - يجوز أن تُغفر، ولا يعذب صاحبها أصلاً، فكيف يجرم بأن المصورين أشد الناس أو من أشدهم عذابًا كآل فرعون. وأما كونهم يعذبون فالأمر فيه دون ذلك، ولا سيما على قول مَن فرق بين العذاب والعقاب، فلم يجعل كل عذاب عقابًا. (٩) من أشد الفقهاء تشديدًا في التصوير واتخاذ الصور أبو بكر بن العربي من المالكية والنووي من الشافعية. وقد جزما بتحريم التصوير مطلقًا، لخص الأول الأقوال في اتخاذ الصور فقال: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقمًا فأربعة أقوال: الأول: يجوز مطلقًا على ظاهر قوله في الحديث: (إلا رقمًا في ثوب) ، الثاني: المنع مطلقًا حتى الرقم، الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم، وإن قُطعت الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز، قال: وهذا هو الأصح، الرابع إن كان مما يمتهن جاز وإن كان معلقًا لم يجز. اهـ. ونُوزِعَ في دعوى الإجماع فيما له ظل، واستثنى الجمهور لعب البنات كما تقدم، وفيه بحث سيأتي قريبًا. (١٠) قال الحافظ - في شرح حديث الدرنوك -: واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ الصور إذا كانت مما لا ظل له، وهي مع ذلك مما يوطأ ويُداس، أو يمتهن بالاستعمال كالمخادّ والوسائد، قال النووي: وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، وهو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي، ولا فرق في ذلك بين ما له ظل، وما لا ظل له، فإن كان معلقًا على حائط أو ملبوسًا أو عمامة، أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهنًا فهو حرام، ثم ذكر الحافظ مؤاخذات فيما نقله النووي: (منها) حكاية ابن العربي تحريم ما له ظل بالإجماع، وقال: إن محله في غير لعب البنات، وإن القرطبي حكى - فيما لا يتخذ للإبقاء كالفخار - قولين: أظهرهما المنع، وجعل إلحاق ما يصنع من الحلوى بالفخار، وبلعب البنات محل تأمل، (ومنها) أن مذهب الحنابلة جواز الصورة في الثوب، ولو كان معلقًا إلا أن يكون على جدار فيمنع، أي عملاً بحديث: (إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين) . (١١) قال النووي: وذهب بعض السلف إلى أن الممنوع ما كان له ظل، وأما لا ظل له فلا بأس باتخاذه مطلقًا، وهو مذهب باطل؛ فإن الستر الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم كانت الصورة فيه بلا ظل بغير شك، ومع ذلك فأمر بنزعه (قال الحافظ متعقبًا للنووي) قلت: المذهب المذكور نقله ابن أبي شيبة عن القاسم بن محمد بسند صحيح، ولفظه عن ابن عون قال: دخلت على القاسم، وهو بأعلى مكة في بيته، فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس والعنقاء. ففي إطلاق كونه مذهبًا باطلاً نظر؛ إذ يحتمل أنه تمسك في ذلك بعموم قوله: (إلا رقمًا في ثوب) ؛ فإنه أعم من أن يكون معلقًا أو مفروشًا، وكأنه جعل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة تعليق الستر المذكور مركبًا من كونه مصورًا، ومن كونه ساترًا للجدار. ويؤيده ما ورد في بعض طرقه عند مسلم - وذكر تعليل الحديث المتقدم في ذلك، وقال - فهذا يدل على أنه كره ستر الجدار بالثوب المصور، فلا يساويه الثوب الممتهن، ولو كانت فيه صورة، وكذلك الثوب الذي لا يستر به الجدار، والقاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة، وكان من أفضل أهل زمانه، وهو الذي روى حديث النمرقة، فلولا أنه فهم الرخصة في مثل الحجلة ما استجاز استعمالها. ثم رجح الحافظ أن الرخصة فيما يمتهن لا فيما كان منصوبًا، ونقل عن جماعة من علماء السلف القول بذلك، منها ما روي عن عكرمة: كانوا يكرهون ما نصب من التماثيل نصبًا، ولا يرون بأسًا بما وطئته الأقدام، وما روي من طريق عروة أنه كان يتكئ على المرافق فيها تماثيل الطير والرجال. اهـ. * * * (المنار) القاسم بن محمد هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أحد أئمة التابعين، تربى في حجر عمته عائشة، وتفقه بها، وروى عن غيرها من الصحابة أيضًا وممن أخذ عنه الزهري وربيعة شيخ الإمام مالك وكثيرون. قال يحيى بن سعيد الأنصاري: (ما أدركنا بالمدينة أحدًا نفضله على القاسم) ، وعن أبي الزناد قال: (ما رأيت فقيهًا أعلم من القاسم، وما رأيت أحدًا أعلم بالسنة منه) ، وقال سفيان بن عيينة: (كان القاسم أعلم أهل زمانه) ، وقال ابن سعيد: (كان إمامًا فقيهًا ثقةً رفيعًا ورعًا كثير الحديث) ، قال أيوب السختياني: (ما رأيت أحدًا أفضل من القاسم) . انتهى ملخصًا من تذكرة الحفاظ. (١٢) قال الخطابي في شرح حديث اللعب: إن اللعب بالبنات ليس كالتلهِّي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد، وإنما أرخص لعائشة فيها؛ لأنها إذ ذاك كانت غير بالغ. قال الحافظ - عقب نقله -: وفي الجزم به نظر، لكنه محتمل؛ لأن عائشة كانت في غزوة خيبر بنت أربع عشرة سنة، إما أكملتها، أو جاوزتها، أو قاربتها. وأما في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قطعًا فيترجح رواية مَن قال في خيبر، ويجمع بما قال الخطابي؛ لأن ذلك أولى من التعارض. اهـ. وأقول: إن هذا ليس بجمع؛ إذ لو كانت لعب البنات محرمة لما أقر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وصواحبها على اللعب بها، وإن كن غير بالغات، ولما تركها في بيته. والصواب أن هذه اللعب لا تدخل في عموم ما أنكره من الصور المعلقة، بل هي أشبه بما أقره من الصور في الوسائد والمرافق في أن كلاًّ منهما لا يشبه ما كان يُعبد من الصور والتماثيل. (١٣) بعد كتابة ما تقدم كله راجعت ما كتبه الحافظ في شرح حديث كنيسة مارية في الحبشة المقارن في البخاري لحديث لعن أهل الكتاب لاتخاذهم قبورَ أنبيائهم مساجدَ، فإذا هو يقول - في شرح الأول في باب: هل تُنبش قبور المشركين -: وإنما فعل ذلك أوائلهم؛ ليتأنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أحوالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ثم خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور، ويعظمونها فاعبدوها. فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك، وفي الحديث دليل على تحريم التصوير، وحمل بعضهم الوعيد على مَن كان في ذلك الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان، وأما الآن فلا، وقد أطنب ابن دقيق العيد في رد ذلك، كما سيأتي في كتاب اللباس. اهـ. ثم قال - في شرح الحديث الثاني في باب بناء المسجد على القبر -: وقد تقدَّم أن المنع من ذلك إنما هو في حال خشية أن يصنع بالقبر ما صنع أولئك الذين لُعنوا، وأما إذا أمن ذلك فلا امتناع. وقد يقول بالمنع مطلقًا مَن يرى سد الذريعة، وهو هنا متجه قوي. اهـ. ويعني بما تقدم قوله في الكلام على ترجمة الباب السابق: إن الوعيد على ذلك يتناول مَن اتخذ قبورهم مساجد تعظيمًا ومغالاةً، كما صنع أهل الجاهلية وجرهم ذلك إلى عبادتهم. اهـ. (للفتوى بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))