للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التبرع بنُسخٍ من المنار
ومن شهد له من الكبار

سنَّ بعض الأدباء سُنَّة حسنة في نشر العلم والأدب والسياسة , هي إهداء ما
يعتقد نفعه من المجلات والجرائد لبعض أصدقائه , أو بعض طلاب العلم من
أولادهم أو لمن يحب لهم ذلك ولو من غيرهم , وطالما رأينا في الجرائد العربية
السورية التي تصدر في أقطار أمريكا أسماء كثيرة من هؤلاء المتبرعين.
وإننا نعلم أن كثيرًا من الناس يعتقدون أن المنار أنفع الصحف وأهداها، وكان
شيخنا الأستاذ الإمام في مقدمة هؤلاء , ويرى القرَّاء كلمة له فيه ننشرها في ديباجة
الغلاف من كل جزء , وكان يرى هذا من كبار الرجال الذين توفاهم تعالى إلى
رحمته كثيرون نذكر بعض المصريين منهم:
فمن الوزراء: شيخهم الأكبر مصطفى رياض باشا , وهو أول من تبرع
بالاشتراك بخمس عشرة نسخة , كنا نوزعها على بعض طلبة الأزهر، فرحمه الله
وأجزل ثوابه.
ومنهم الوزير الكبير إبراهيم فؤاد باشا المناسترلي الذي كان وزير الحقانية ,
صرح لي ولغيري أن المنار ضروري للنهضة الإسلامية التي تجمع بين هداية
الدين والرقي المدني، وتؤلف بينهما , وقد فكر كثيرًا في تعميم نشره، واستشار يومئذ
في ذلك أحمد فتحي زغلول باشا - وكان يومئذ رئيس محكمة مصرالأهلية
ولقبه بك - قالا: إن الإعانة الشخصية لا تستمر، وصاحب المنار الأبي لا يقبلها ,
كانا يعلمان مني ذلك , وكان رياض باشا أول من عرضها علي واعتذرت عن قبولها ,
ثم قال الوزير لفتحي: فكر لي في طريقة لإعانة ثابتة يقبلها صاحب
المنار، بشرط أن يجعل بدل اشتراكه قليلاً , بحيث يسهل على طلاب الأزهر
وتلاميذ المدارس وغيرهم من الفقراء الاشتراك فيه , فإن هذا أنفع من الاشتراك في
مئات أو ألوف من النسخ ربما تعطى لمن لعله لا يقرؤها. أخبرني فتحي -
رحمه الله - بهذا , ومما أعترف به من ضرر الزهد الذي طبعت نفسي عليه قراءة
إحياء العلوم وغيره من كتب التصوف , أن كان من تأثيره أنني لم أراجع أحدًا من
الرجلين في هذه المسألة على ما فيها من نشر تعاليم الإصلاح الذي أريده؛ ومات
إبراهيم فؤاد باشا قبل أن يضع له الخطة أحمد فتحي باشا - رحمهما الله تعالى - ولم
أندم على هذا التفريط إلا بعد موت الوزير بسنين، أثابه الله على حسن نيته.
ومنهم محمود سامي باشا البارودي الأديب الشاعر الأكبر والذي كان رئيس
الوزارة في عهد الثورة العرابية؛ وقد بلغ من ولوعه به أن كان يرسل إلى المطبعة
من يطلب له ما طبع منه , فيقرأ كراسة بعد أخرى، وكان يترجم بعض الموضوعات
لصديق له من الإنكليز , وقد نقل لي عن هذا الإنكليزي أنه قال: إن المسلمين غير
مستعدين لهذه التعاليم والمبادئ الآن , ولكنهم سيعيدون طبع المنار بعد خمسين سنة ,
ويعملون به. وقد قال مثل هذه الكلمة من الأحياء: سليمان أفندي البستاني العالم
السوري والوزير العثماني المشهور , فكان من توارد الخواطر.
ومن حملة الأقلام ورجال الصحافة الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد
قال لي: إن المنار شيء غير اعتيادي، ولا نعرف أحدًا غيرك يقدر على القيام به ,
وأن المسلمين في أشد الحاجة إليه، ومن الضروري أن يوجد في كل بيت من
بيوتهم , ولكن كثرة تنويهه بالشيخ محمد عبده بالإطراء والتفضيل يوجد له أعداء
كثيرين أصحاب نفوذ وتأثير يصدون الناس عنه , والشيخ جدير بما يقول المنار
ولكنه في غنًى عنه إلخ , وقد أجبته بأن تنويه المنار بالشيخ يراد به ترشيحه لزعامة
الإصلاح في العالم الإسلامي، ولا نعرف أحدًا جديرًا بهذه الزعامة سواه , وهي
عندي أهم من كثرة المشتركين في المنار فقال: لا أنكر أن هذا غرض صحيح , ولا
أن الشيخ أهل له. فعلمت بإقراره هذا أنه لم يكن في قوله يقصد التفريق بيني
وبين الأستاذ الإمام؛ لأجل الخديوي الذي تقرب إليه كثيرون بالسعي لهذا التفريق.
ومنهم بطرس باشا غالي الوزير المشهور.
وممن وافق الشيخ عليًّا من حملة الأقلام من الأحياء في قوله: يجب أن يكون
المنار في بيت كل مسلم - داود بك بركات رئيس تحرير الأهرام فقد قال لي مرة: لو
كان المسلمون يعرفون مصلحتهم - أو ما هذا معناه - لدخل المنار كل بيت من
بيوتهم. وكان هذا من توارد الخواطر ولا أذكر أي الرجلين سبق إلى هذه الكلمة ,
وأنا لم أذكر له كلمة الشيخ على يوسف , ولم أكتبها إلا في ترجمته بعد وفاته.
ومن كبار العلماء إمام اللغة في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي كما
يعلم من تقريظه له الذي نشر في المجلد الثاني منه (ص ٣٤٩ م ٢) ولقب صاحبه
بمفتي الآفاق , على رغم أنف كل ذي حسد ونفاق , كتب ذلك بخطه على نسخة
رحلته (الحماسة السنية ... ) حين أهداها إليّ.
ومن رجال القانون وعلماء الاجتماع عمر بك لطفي الواضع الأول لمشروع
النقابات في مصر , كلمني في هذا الموضوع مرارًا , ومما انفرد به لومه إياي على
العزلة أو قلة المخالطة التي تقرب منها , وقال: إن المنار لا يكفي لتعميم هذه
الأفكار , فيجب أن تتعرف إلى جميع الطبقات المتعلمة , ولذلك وسيلتان: الخطابة
والمحافل الماسونية. ولكنني لم أعمل بنصيحته إلا في إلقاء بعض الخطب في
بعض الجمعيات الأدبية الدينية. وأما الأحياء فحسبي أن يكون رجل العصر بمصر
صاحب الرياستين: ريايسة الأمة ورياسة الحكومة سعد باشا زغلول وفقه الله تعالى
وأيده موافقًا لخطة المنار في الإصلاح الديني , وقد سمعت منه مرارًا أن ارتقاء
المسلمين المدني متوقف على هذا الإصلاح , كما أن أوربة لم يمكنها النهوض من
الانحطاط الذي كانت مرتكسة فيه إلا بعد إصلاح ديني , وهذا الرأي كان أول من
بثه في مصر وغيرها السيد جمال الدين الأفغاني، وقد عرضت على سمعه في الربيع
الماضي خبر تأليف جمعية للإصلاح الديني والمدني في الحجاز , وجعله قطر
سلم وحياد , فكان مما قاله: ولم لا تجعلون هذا الإصلاح في مصر؟ أليست هي
محتاجة للإصلاح الديني أيضًا؟
وقد كان هو أول من أمر باشتراك وزارة المعارف بنسخ من المنار لمدارسها
في عهد توليه لوزارتها , وكانت الوزارة قبله تشترك في جميع المجلات المشهورة
بمصر من دونها؛ لكراهة الإنكليز كل إصلاح للمسلمين , ولذلك منعوا المنار من
السودان من قبل الحرب بسنين بدسائس المبشرين.
وإنا لنرجو من دولته نظرة أخرى إلى المنار عند سنوح الفرصة , ولم
نعرض عليه طلبنا مكتوبًا ولا شفويًّا به , كما أننا لم نعرض مثل ذلك في عهد
وزارته للمعارف.
ذكرنا بتاريخ المنار وآراء الكبار في تعميم نشره ما كتبه إلينا وكيله في
بيروت من تبرع تاجر من خيار وأكارم وجهائها أنيس أفندي الشيخ بخمس نسخ
توزع من قبله على بعض الخطباء والواعظين فيها، فجزاه الله تعالى خيرًا , وجعله
قدوة صالحة وذكرى نافعة لمحبي العلم والإصلاح.