للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


العقائد من الأمالي الدينية
(الدرس ٣٩)

آية الله الكبرى (القرآن)
فصل [*]
(م١٠٩) : (هذه الوجوه الأربعة من إعجازه بينة لا نزاع فيها ولا مرية
ومن الوجوه البينة في إعجازه من غير هذه الوجوه آي وردت بتعجيز قوم في
قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا على ذلك، كقوله لليهود: {قُلْ إِن
كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً} (البقرة: ٩٤) ، الآية قال أبو إسحاق
الزجَّاج: في هذه الآية أعظم حجة وأظهر دلالة على صحة الرسالة لأنه قال:
(فتمنوا الموت) وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبدًا فلم يتمنه واحد منهم، وعن النبي صلى
الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يقوله رجل منهم إلا غص بريقه) يعني
يموت مكانه، فصرفهم الله عن تمنيه وجزعهم ليظهر صدق رسوله وصحة ما أوحي
إليه إذ لم يتمنه أحد منهم، وكانوا على تكذيبه أحرص لو قدروا ولكن الله يفعل ما
يريد، فظهرت بذلك معجزته، وبانت حجته.
قال أبو محمد الأصيلي: من أعجب أمرهم أنه لا يوجد منهم جماعة ولا واحد
من يوم أمر الله بذلك نبيه يقدم عليه ولا يجيب إليه، وهذا موجود مشاهد لمن أراد
أن يمتحنه منهم.
وكذلك آية المباهلة من هذا المعني حيث وفد عليه أساقفة نجران وأَبَوا الإسلام
فأنزل الله تعالى آية المباهلة بقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ ٠٠٠} (آل عمران: ٦١)
الآية فامتنعوا منها ورضوا بأداء الجزية وذلك أن (العاقب) عظيمهم قال لهم: قد
علمتم أنه نبي وأنه ما لاعن قومًا نبي قط فبقي كبيرهم ولا صغيرهم، ومثله قوله:
{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (البقرة: ٢٣) إلى قوله: {فَإِن لَّمْ
تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: ٢٤) ، فأخبرهم أنهم لا يفعلون كما كان [١] وهذه
الآية أدخل في باب الإخبار عن الغيب ولكن فيها من التعجيز ما في التي قبلها.
* * *
فصل
(م١١٠) : ومنها الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه
والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله وإنافة خطره، وهي على المكذبين به
أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه ويزيدهم نفورًا - كما قال تعالى - ويودون
انقطاعه لكراهتهم له، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن القرآن صعب مستصعب
على من كره وهو الحكم) وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إيَّاه مع تلاوته
تُولِّيه انجذابًا وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه وتصديقه به. قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: ٢٣) ،
وقال: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ ٠٠٠} (الحشر: ٢١) الآية، ويدل على
أن هذا شيء خص به أنه يعتري من لا يفهم معانيه ولا يعلم تفاسيره، كما روي عن
نصراني أنه مر بقارئ فوقف يبكي فقيل له: مِمَّ بكيت؟ قال: للشجا والنظم،
وهذه الروعة قد اعترت جماعة قبل الإسلام وبعده، فمنهم من أسلم لها لأول وهلة
وآمن به ومنهم من كفر. فحكي في الصحيح عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبي
صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ
شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ ٠٠٠} (الطور: ٣٥) إلى قوله {٠٠٠ المُسَيْطِرُونَ} (الطور: ٣٧) كاد قلبي أن يطير للإسلام. وفي رواية: وذلك أول ما وقر الإسلام
في قلبي. وعن عتبة بن ربيعة أنه كلم النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من
خلاف قومه فتلى عليه (حم فصلت) إلى قوله: {٠٠٠ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ
عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت: ١٣) فأمسك عتبة بيده على فِي النبي صلى الله عليه وسلم
وناشده الرحم أن يكف. وفي رواية: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وعتبة
مُصغٍ مُلقٍ يديه خلف ظهره معتمد عليهما حتى انتهى إلى السجدة فسجد النبي صلى الله
عليه وسلم وقام عتبة لا يدري بما يراجعه ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قومه حتى
أتوه فاعتذر لهم وقال: والله لقد كلمني بكلام والله ما سمعت أذناي بمثله قط فما
دريت ما أقول له.
وقد حكي عن غير واحد ممن رام معارضته أنه اعترته روعة وهيبة كف بها
عن ذلك فحكي أن ابن المقفع طلب ذلك ورامه وشرع فيه فمر بصبي يقرأ: {وَقِيلَ
يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} (هود: ٤٤) ، فرجع فمحا ما عمل وقال: (أشهد أن هذا لا
يعارَض وما هو من كلام البشر) ، وكان من أفصح أهل وقته. وكان يحيى بن حكم
الغزال بليغ الأندلس في زمنه فحكي أنه رام شيئًا من هذا فنظر في سورة الإخلاص
ليحذو على مثالها وينسج بزعمه على منوالها (قال) : فاعترته خشية ورقّة حملته
على التوبة والإنابة.
* * *
فصل
(م١١١) : ومن وجوه إعجازه المعدود كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا
مع تكفل الله بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:
٩) وقال {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: ٤٢) ، الآية
وسائر معجزات الأنبياء قد انقضت بانقضاء أوقاتها فلم يبقَ إلا خبرها. والقرآن
العزيز الباهرة آياته الظاهرة معجزاته على ما كان عليه اليوم مدة خمس مائة عام
وخمس وثلاثين سنة لأول نزوله إلى وقتنا هذا حجته قاهرة ومعارضته ممتنعة
والأعصار كلها طافحة بأهل البيان حملة علم اللسان وأئمة البلاغة وفرسان الكلام
وجهابذة البراعة، والملحد فيهم كثير، والمعادي للشرع عتيد. فما منهم من أتى
بشيء يؤثر في معارضته. ولا ألف كلمتين في مناقضته ولا قدر فيه على مطعن
صحيح. ولا قدح المتكلف من ذهنه في ذلك إلا بزند شحيح بل المأثور عن كل من
رام ذلك إلقاؤه في العجز بيديه، والنكوص على عقبيه.
* * *
فصل
(م١١٢) : وقد عد جماعة من الأئمة ومقلدي الأمة في إعجازه وجوهًا
كثيرة منها أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة
وترديده يوجب له محبة. لا يزال غضًّا طريًّا، وغيره من الكلام ولو بلغ في الحسن
والبلاغة مبلغه يمل مع الترديد ويعادَى إذا أعيد، وكتابنا يُستلذ به في الخلوات
ويؤنس بتلاوته في الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك، حتى أحدث
أصحابها لحونًا وطرقًا يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف
رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي
عبره، ولا تفنى عجائبه، هو الفصل ليس بالهزل ولا يشبع منه العلماء ولا تزيغ
به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة هو الذي لم تنتهِ الجن حين سمعته أن قالوا:
{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ٠٠٠} (الجن: ١-٢) .
(م ١١٣) : ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد العرب عامة ولا محمد
صلى الله عليه وسلم قبل نبوته خاصة بمعرفتها ولا القيام بها ولا يحيط بها أحد من
علماء الأمم. ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم، فجمع فيه من بيان علم الشرائع
والتنبيه على طريق الحجج العقلية، والرد على فرق الأمم ببراهين قوية وأدلة بينة
سهلة الألفاظ موجزه المقاصد. رام المتحذلقون بعده أن ينصبوا أدلة مثلها فلم يقدروا
عليها. كقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ
مِثْلَهُم} (يس: ٨١) ، {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (يس: ٧٩) ،
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: ٢٢) إلى ما حواه من علوم السير،
وأنباء الأمم، والمواعظ والحكم. وأخبار الدار الآخرة. ومحاسن الآداب والشيم.
قال الله جل اسمه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: ٣٨) ، {وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ٠٠٠} (النحل: ٨٩) ، {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي
هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} (الروم: ٥٨) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله
أنزل القرآن آمرًا وزاجرًا وسنة خالية ومثلاً مضروبًا، فيه نبأكم وخبر ما كان قبلكم،
ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول الرد. ولا تنقضي عجائبه، هو
الحق ليس بالهزل، من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن خاصم به فلج ومن
قسم به أقسط ومن عمل به أجر ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، ومن
طلب الهدى من غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم
والنور المبين والصراط المستقيم وحبل الله المتين والشفاء النافع، عصمة لمن
تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي
عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد) ونحوه عن ابن مسعود وقال فيه: (ولا يختلف
ولا يتشانأ [٢] فيه نبأ الأولين والآخرين) وفي الحديث قال الله تعالى لمحمد صلى
الله عليه وسلم: (إني منزل عليك توراة حديثة، تفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا،
وقلوبًا غلفًا، فيها ينابيع العلم، وفهم الحكمة وربيع القلوب) وعن كعب: عليكم
بالقرآن فإنه فهم العقول ونور الحكمة، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النمل: ٧٦) وقال: {هَذَا بَيَانٌ
لِّلنَّاسِ وَهُدًى} (آل عمران: ١٣٨) الآية فجمع فيه مع وجازة ألفاظه وجوامع
كلمه أضعاف ما في الكتب قبله التي ألفاظها على الضِّعف منه مرات.
(م١١٤) : ومنها جمعه فيه بين الدليل ومدلوله وذلك أنه احتج بنظم القرآن
وحسن وصفه وإيجازه وبلاغته وأثناء هذه البلاغة أمره ونهيه ووعده ووعيده،
فالتالي له يفهم موضع الحجة والتكليف معًا من كلام واحد وسورة منفردة.
(م١١٥) : ومنها أن جعله في حيز المنظوم الذي لم يعهد ولم يكن في حيز
المنثور؛ لأن المنظوم أسهل على النفوس وأوعى للقلوب وأسمح في الآذان وأحلى
على الأفهام. فالناس إليه أميل والأهواء إليه أسرع.
(م١١٦) : ومنها تيسيره تعالى حفظه لمتعلميه وتقريبه على متحفظيه. قال
الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلْذِكْرِ} (القمر: ١٧) وسائر الأمم لا يحفظ
كتبها الواحد منهم فكيف الجماعة على مرور السنين عليهم والقرآن ميسر حفظه
للغلمان في أقرب مدة [٣] .
(م١١٧) : ومنها مشاكلة بعض أجزائه بعضًا وحسن ائتلاف أنواعه والتئام
أقسامها. وحسن التخلص من قصة إلى أخرى والخروج من باب إلى غيره على
اختلاف معانيه، وانقسام السورة الواحدة إلى أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد
وإثبات نبوة وتوحيد وتفريد وترغيب وترهيب إلى غير ذلك من فوائده دون خلل
يتخلل فصوله. والكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوته. ولانت جزالته.
وقل رونقه وتقلقلت ألفاظه. فتأمل أول سورة (ص) وما جمع فيها من أخبار الكفار
وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم وما ذكر من تكذيبهم بمحمد صلى الله
عليه وسلم وتعجبهم مما أتى به، والخبر عن اجتماع ملئهم على الكفر، وما ظهر
من الحسد في كلامهم، وتعجيزهم وتوهينهم ووعيدهم بخزي الدنيا والآخرة. وتكذيب
الأمم قبلهم وإهلاك الله لهم ووعيد هؤلاء مثل مصابهم، وتصبير النبي صلى الله
عليه وسلم على أذاهم. وتسليته بكل ما تقدم ذكره، ثم أخذ في ذكر داود وقصص
الأنبياء، كل هذا في أوجز كلام وأحسن نظام.
ومنه الجملة الكثيرة التي انطوت عليها الكلمات القليلة وهذا كله وكثير مما
ذكرنا، أنه ذكر في إعجاز القرآن إلى وجوه كثيرة لم نذكرها إذ أكثرها داخل في باب
بلاغته فلا نحب أن يعد فنًّا منفردًا في إعجازه إلا في باب تفصيل فنون البلاغة.
وكذلك كثير مما قدمنا ذكره عنه يعد في خواصه وفضائله لا إعجازه. وحقيقة
الإعجاز الوجوه الأربعة التي ذكرنا فليعتمد عليها وما بعدها من خواص القرآن
وعجائبه التي لا تنقضي، والله ولي التوفيق. اهـ كلام القاضي عياض رحمه الله
تعالى.