للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عن مجلة شورا التتارية


ابن تيمية و (لوتر)

جاء ما يأتي في مجلة (شورا) التتاربة من عدة أشهر تحت هذا العنوان:
إن في شروعنا بكتابة مقالة قارنَّا فيها بين اسم عالم نصراني واسم عالم مسلم لَسببًا ,
وإذا عرف السبب، لا يبقى محل للعجب , كان ظهر في مملكة ألمانية راهب اسمه
لوتر ولد بعد مائة وخمس وخمسين سنة تقريبًا من وفاة ابن تيمية , وشرع في
إصلاح النصرانية وإرجاعها إلى بساطتها الأولى وحفظها من البدع والخرافات ,
وذلك الرجل هو رئيس المذهب المشهور اليوم بمذهب لوتر أو البروتستانت.
أتم لوتر باجتهاده وغيرته المشروع الذي قصده , ورأى بعينه ثمرة تعبه وكون
خدمته مرعية الجانب بين الناس , وأن قسمًا عظيمًا من النصارى ينتسبون إلى
مذهب لوتر اليوم وهم البروتستانت.
كان علماء اليهود الذين أسلموا يكثرون من رواية الإسرائيليات , وعشاق
الخرافات والمبالغات من العجم لم يتركوا بعد إسلامهم المبالغات والخرافات التي
تربوا عليها، فلهذا أو ذاك كثرت البدع في الإسلام , وانتشر بين الناس كثير من
العادات باسم الدين , وقد ظهر في عالم الإسلام كثير من المجاهدين والمصلحين
جاهدوا في سبيل إزالة البدع، وإحياء سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهادًا
كبيرًا , واجتهدوا في إرجاع الإسلام إلى صفوته الأولى في زمن السلف، وإزالة
التفرقة من بين المسلمين وجمعهم على اعتقاد واحد وعلى صراط مستقيم , وكان
ابن تيمية من كبار هؤلاء المجاهدين.
لا توجد مناسبة بين ابن تيمية ولوتر في المذهب والدين، ولا في القوم
والقبيلة، ولا في المكان والزمان , ولكن توجد مشابهة بينهما في المقصد والمسلك
فقد كان ابن تيمية يجتهد في حفظ الإسلام من البدع والخرافات , كما أن لوتر كان
يشتغل بإصلاح النصرانية , ولكن لا مشابهة بينهما في احتمال المشقات في حال من
الأحوال , حقًّا إن لوتر صادف في سبيل إصلاح النصرانية بعض الصعوبات ,
ولكن ما ناله حري أن يحسب حظًّا وسعادة بالنسبة إلى ما احتمله ابن تيمية من
المشقات , علا لوتر على أعدائه وغلب عليهم في العاقبة، أما ابن تيمية فقد توفي
تحت قهر أعدائه.
إذ صح القياس والنسبة بين هذين الرجلين في العلم والكمال أو لم يصح فهو
لا شك يصح في العلوم المتعلقة بالديانة النصرانية وحدها، وأما في العلوم الأخرى
فالفرق بينهما (بناءً على شهادة أربابه) كالفرق بين السماء والأرض، بل لا يعد
لوتر نظيرًا لابن تيمية في العلوم المتعلقة بالديانة النصرانية نفسها، ويدل على ذلك
استدلال العلماء من النصارى على كون إنجيل برنابا موضوعًا ومصنوعًا من طرف
الأعداء بعدم ذكر ابن تيمية لذلك الإنجيل [١] .
لو كان لوتر أكثر علماء النصارى وثوقًا في العلوم المتعلقة بالنصرانية بالنسبة
لابن تيمية لاستشهد العلماء في هذه المادة بقول لوتر بدل ابن تيمية، فإذا كان ابن
تيمية لم يذكر إنجيل برنابا فكذلك لم يذكره لوتر , ولو كان إنجيل برنابا معروفًا عند
لوتر لكان أقامه عدة وآلة قوية أمام أعدائه من الكاثوليك.
كان ابن تيمية ينهى الناس عن الاستمداد من الموتى وزيارة قبور الأولياء
بقصد اتخاذهم وسطاء عند الله , يدعون وتطلب منهم الحاجات , وعن ذبح النذور
عند القبور وكذلك اجتهد في حماية الإسلام من تجاوز الفلاسفة , وكتب في ذلك كتبًا
عديدة , وتباحث مع الشيعة والروافض (ورد على الجميع في كتب حافلة) وكان
يدعو الناس إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولكن أهل زمانه ما عرفوا
قيمة تلك الخدمة الجليلة منه في الإسلام بل بهتوه بالباطل وافتروا عليه الكذب، فبتلك
البلايا والمحن خرج ابن تيمية من الدنيا , كان لوتر يجيب أعداءه بعبارات شديدة حتى
استعمل في بعض الأوقات ألفاظًا مغايرة للأدب , وأما ابن تيمية فكان يتغافل عن أذى
أعدائه ويتحمله ويُظهر لهم الترفع عن السفاسف , وكان لا يخاصم أحدًا في خاصة
نفسه , فلأي سبب لم يتيسر لابن تيمية اجتناء ثمرة جهاده , والحال أن لوتر وفق لذلك
وما هو السبب الظاهر في ذلك؟
الأفكار مختلفة في جواب تلك المسألة، كل أحد يفكر في ذلك على قدر ما يصل
إليه فكره , ويعرض له من السبب , ونحن بصرف النظر عن التفاصيل نجمل تلك
الأفكار المختلفة واحدًا بعد واحدٍ تحت الأرقام هكذا:
(١) كان بناء سعي لوتر في أمره على أساس متين , فإنه عرض مشروعه
أولاً على الملوك والأمراء حتى وفق لاستمالتهم إليه , وبعد ذلك تمايلت الأفكار إليه
من نفسها , وأما ابن تيمية فهو لم يتقرب من الملوك والأمراء , ولم يبالِ بعداوتهم
ولا بصداقتهم ولا داراهم , ولم يهتم بالتفاتهم قط , وأعداؤه افترضوا منه تلك الخلة
وسَعَوْا به لدى السلاطين والأمراء حتى قام عليه العلماء والأمراء بالاتفاق , وأحدثوا
له أشكالاً من المصائب.
(٢) المطبوعات والمطابع، كان لوتر ينشر أفكاره بالمطابع ويطّلع الناس
عليها قبل مضي الشهر , وينتقدونها إذا كان هناك محل للانتقاد أو يصوبونها , أما
ابن تيمية فلما لم توجد صنعة الطباعة في زمنه لم يطلع على أفكاره إلا أفراد قلائل
وكثير من أفكاره حُرف قصدًا من طرف أعدائه , وبذلك كانت الحقيقة تبقى في طي
الخفاء.
(٣) الأحوال المتعلقة بذات لوتر أو ابن تيمية ليست سببًا في ذلك , بل
السبب الحقيقي الطبائع والأحوال الروحية التي وجدت مع الخلق (روح العصر)
لأن لوتر ظهر بين الأوربيين المستعدين الذين يفهمون الكلام , ويعرفون قيمة العالِم
والعلم , والحال أن ابن تيمية ظهر بين أهل الشرق الذين يشتغلون بالشخصيات
ويغضبون بأقل شيء ويتبعون العامة في الأفكار؛ لذلك عرفت قيمة لوتر ولم تعرف
قيمة ابن تيمية.
ليس لنا نية في المعادلة والترجيح بين تلك الأفكار (وفي الأصل محاكمتها)
فنحن ما قيدنا في المجلة إلا الذي سمعناه من الأفكار سواء كانت خطأ أوصوابًا
والميدان واسع للذين يريدون البحث والانتقاد ولا يعوز أحدًا قلة الكلام.
ومع ذلك تجب الإشارة إلى أن كل عمل بين الأوربيين يكون في أيدي أربابه
وفي الشرقيين على عكس ذلك، فلا هم ينالون فضيلة اختيار ما هم مستعدون له من
الأعمال ولا هم ينوطون الأعمال بأربابها المستعدين لها إلا على سبيل الندور،
فالعَمَلة يزاحمون العلماء الكبار ويشاركونهم في الأعمال الخاصة بهم، والجزارون
يتكلمون في وظائف المهندسين اهـ.