الآيات البينات على صدق الوحي والنبوات (المسألة ٦٣) الآية أو المعجزة: عبَّر القرآن الكريم عما أيَّد الله تعالى به الأنبياء لأجل إذعان الناس لهم وقبولهم دعوتهم بالآيات، واصطلح المتكلمون على تسميتها معجزات، واختلفوا في وجه دلالة المعجزة على صدق النبي الذي ظهرت على يديه هل هي عقلية أو عادية أو وضعية؛ لأنها بمعنى قوله تعالى: صدق عبدي فيما يبلِّغ عني، ولا نبحث في مثل هذه الخلافات النظرية؛ وإنما نقول: إن القصد منها الحمل على قبول الدعوة والإذعان للرسالة عند استعداد الأمة لذلك، وإقامة الحجة البالغة على المعاندين بحيث ينقطع لسان الاعتذار من أهل الجحود والإنكار. وقد كان ما جاء به كل نبي كافيًا في هذا المقصد، فاهتدى بهديهم كثيرون من المستعدين، وحقت الكلمة على المكابرين {قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: ١٤٩) فالآية أو المعجزة أمر يؤيد الله تعالى به نبيه، ويخضع له به النفوس، وكان يختلف باختلاف الأمم ومعارفها ودرجات ارتقائها، ومهما اختلفت الآيات وكثرت أفرادها؛ فإنها ترجع إلى نوعين آيات كونية آفاقية وآيات علمية نفسية. م (٦٤) الآيات الكونية الآفاقية: أودع الله في فطرة الإنسان الاعتقاد بقوة غيبية تعلو جميع القوى، وقدرة علوية تفوق جميع القُدَر، وأودع في غريزته ميلاً لمعرفة الأشياء بعللها وأسبابها والوقوف على مناشئها وآثارها، فإذا رأى شيئًا لا يعرف له سببًا طبيعيًّا، ولا منشأ كسبيًّا، يحيله على تلك القوة الغيبية، والسلطة السماوية، ويعبد المظهر الذي قام به ويخضع ويستخذي للرجل الذي برز على يده، وذلك الاعتقاد كان أصلاً للوثنية ثم به جذب الإنسان إلى الإيمان عندما ارتقى إلى درجة يميز فيها بين مظاهر الآيات والغرائب ومجاليها، وبين موجدها الحقيقي ومنشيها، ارتقى في الوثنية من الخضوع والعبادة لأبسط المظاهر الطبيعية إلى عبادة أعظمها وأبدعها كالكواكب والإنسان، ثم ارتقى من الوثنية إلى التوحيد عندما استعد في ارتقائه إلى فهمه كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (البقرة: ٢١٣) وهذا الارتقاء الذي غايته التوحيد هو الذي نطقت به الآية الشريفة {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: ٥٦) (راجع المنار ج ٨ م٤) . لكن الذين يخضعون لمن تظهر على يديه أمور خارقة للعوائد المألوفة ومخالفة للسنن المعروفة، لمجرد الجهل بمناشئها، وعدم نفوذ عقولهم إلى حقيقتها - يكونون دائمًا عرضة للانخداع بشعوذة المشعوذين وحيل السحرة والدجالين، ومستعدين للرجوع إلى الوثنية، وعبادة من ظهرت على يديه الخارقة الكونية، ألم تر إلى بني إسرائيل حين أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم كيف قالوا: {يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (الأعراف: ١٣٨) ثم كيف اتخذوا العجل بأيديهم وعبدوه، ثم إلى النصارى كيف عبدوا السيد المسيح عليه السلام، ولكن لا مَنْدُوحة عن هذا؛ لأن نظام الارتقاء الذي أقام الله فيه نوع الإنسان يقتضيه فإن الإنسان في تلك الأمم لم يكن مرتقيًا إلى فهم البراهين على مسائل الاعتقاد، وفهم الحكمة من الشرائع والأحكام الأدبية والعملية، والآيات الكونية التي أوتيها موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ليست براهين على ما يجب اعتقاده من تنزيه الله وتوحيده ومعنى النبوة، وما يجب اعتقاده في النبي، ولا على منفعة الآداب والأحكام التي جاء بها وموافقتها لمصلحة البشر؛ وإنما هي شيء تخضع له النفس وتستخذي أمام صاحبه أو تحمله على ما يشابهه مما يسمع ويرى من السحرة والمشعوذين، أما الذي يصلح برهانًا قاطعًا على صدق النبي لا يمكن لمن آمن بسببه أن يرجع عن الإيمان، فهو النوع الثاني وهو الآيات النفسية والعلمية التي منحها الله تعالى للإنسان عندما ارتقى ارتقاء يمكنه به فهمها. م (٦٥) الآيات النفسية العلمية: هي ما تدل على صدق النبي دلالة حقيقية بالبرهان الذي يجزم العقل بأن صاحبها مؤيد من الله تعالى، وموحى إليه ما بلَّغه ودعا إليه؛ لأنها عبارة عن كون حال النبي وما جاء به يشهدان بأنهما لا يمكن أن يكونا إلا بإمداد إلهي ووحي سماوي؛ لأنها كحجة من يدعي الطب ويستدل على دعواه بمعالجة المرضى وشفائهم على يده، وبالإتيان بكتاب في الطب إذا عمل به الناس تذهب أمراضهم وتحفظ صحتهم؛ ولكن مدعي الطب إذا استدل على صدقه بأنه يقلب العصا حية، ويكشف حيلة مشعوذ يُري الناس الحبال والعصي حيَّات وثعابين، وفعل ذلك لم يكن بين الدليل والمدلول اتصال يربط أحدهم بالآخر؛ وإنما خضع من خضع من الناس لسيدنا موسى بما ظهر على يديه من الآيات الكونية لما رسخ في طباعهم من الخضوع لكل ذي مظهر غريب يفوق إدراكهم؛ لأنها براهين أقنعت عقولهم بصدق الدعوى التي قام بها ألا تراهم كيف حنُّوا إلى عبادة الأصنام، وطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا مثلها، على أنهم لم يميزوا بينها وبين السحر إلا أن صاحبها غلب السحرة، اللهم إلا السحرة أنفسهم فإنهم عرفوا الفرق بينها وبين ما جاءوا به من التمويهات الصناعية والشعوذة التخييلية؛ ولذلك اختاروا القتل والصلب على الرجوع عن الإيمان. م (٦٦) آية خاتم الأنبياء والمرسلين: لما استعد النوع الإنساني إلى معرفة الحق من الباطل بالبرهان والتمييز بين الخير والشر بالدليل والحجة، وكان لا بد له في هذا الطور من معلم ومرشد كما في الأطوار الأخرى أرسل الله تعالى إليه رسولاً يهديه إلى طرق النظر والاستدلال، ويأمره بأن يرفض التقليد البحت والتسليم الأعمى، وأن لا يأخذ شيئًا إلا بدليل وبرهان يوصل إلى العلم القطعي فيما لا بد فيه من القطع، وإلى الظن الغالب فيما تقوم المصلحة فيه بالاكتفاء بغلبة الظن، وكانت عمدة هذا الرسول عليه الصلاة والسلام في الاستدلال على نبوته ورسالته نفسه وما جاء فيه من النور والهدى كالطبيب الذي يستدل على إتقانه صناعة الطب بما يبديه من العلم والعمل الناجح فيها. قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: ٢٣) فتحداهم في الآية بالإتيان بسورة هادية للناس كسور القرآن من أميٍّ لم يتربَّ، ولم يتعلم شيئًا مثل النبي الذي جاء به، وقال تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (يس: ١-٤) استدل بالقرآن الناطق بالحكمة، وبقيام من جاء به على صراط الاستقامة على أنه مرسل من ربه لبيان الحق وهداية الخلق، وقال جل ذكره: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (طه: ١٣٣) احتج ههنا بنوع من أنواع علوم القرآن وهو بيان سيرة المرسلين وما في صحفهم من النور والفرقان وهذا شيء لم يكن يعرفه هو ولا قومه من العرب كما قال سبحانه بعد ذكر قصة نوح {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: ٤٩) ، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يُؤْمِنُونُ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الكَافِرُونَ * وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (العنكبوت: ٤٧-٥٢) . سبق هذه الآيات الأمر بالإيمان بما أنزل على الأنبياء السابقين وأشار بقوله: (وكذلك) إلى أن إنزال الكتاب على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هو من جنس الإنزال على من قبله، وفي هذا حجة على أهل الكتاب، وبيَّن أنه لا يجحد بآيات الله التي نصبها على صدق الرسالة إلا الذين صار الكفر صفة من صفاتهم الراسخة وقفَّى هذا ببينات آية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنها كتاب العلم والهدى من الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب، وكون الكتاب بيِّن الصدق قاطع البرهان ناصع البيان بالنسبة لمن أوتي العلم، ورزق الفهم فصار يميز بين الحق والباطل، ويزيل بين النافع والضار، وإذا كان كذلك فلا ريب أنه لا يجحد به إلا المتوغلون في ظلم النفس، العريقون في مكابرة العقل والحس، ثم ذكر طلب هؤلاء الكافرين بالنعم، الخافرين للذمم، آية كونية آفاقية كالآيات التي خوفت بها الأمم من قبلهم حتى انقادت واستسلمت، أو أُخذت وأُهلكت، وأمر نبيه بأن يجيب هؤلاء الأغبياء بأن الآيات عند الله لا في أيدي الأنبياء، وأن حكمته تعالى في تربية الإنسان، اقتضت بأن يكون هذا الطور طور البيان، وأنه صلى الله عليه وسلم ليس إلا نذيرًا مبينًا، وهاديًا أمينًا، ثم نبههم تعالى على أن آيته - وهو النبي الأمي - كتاب يشتمل على الرحمة التي تصلح بها قلوب العالمين، والذكرى التي تُزع النفوس عن الشر وتحملها على الخير، بحيث يظهر أثرها الحسن في المؤمنين، ويحق الشقاء على الجاحدين المعاندين، ثم أمره الله تعالى أن يكتفي بشهادة الله في كتابه بينه وبينهم، حيث أقام الحجج البالغة على حقية ما جاء به وبطلان ما هم فيه، وبيَّن وهو عالم الغيب والشهادة أن العاقبة الصالحة للذين يتقون {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (العنكبوت: ٥٢) وكذلك كان، والحمد لله على نعمة القرآن، وسيأتي تفصيل كون الإسلام برهان على نفسه وصدق من جاء به في الكلام على رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. م (٦٧) تعزيز الكلام بقول أحد الأئمة الأعلام: لما ترك المسلمون أخذ الدين بالبرهان، كما يرشدهم إليه القرآن، وتركوا النظر واطمأنوا لتقليد مَن غبر، صاروا يرتابون بكلام الأحياء، إذا لم يسند لبعض الأموات من العلماء، وما ذكرناه من التفرقة بين الآية الكونية، والآية النفسية العلمية، لا يوجد مثله في كتب العقائد المتداولة التي لم تنشر إلا والعلم قد طُوي بساطه، والفهم قد انطمس صراطه، وصار الحق يُعرف بالرجال، والرجال تُعرف بالموت والزوال، فرأينا أن نعززه بكلمة من كلام بعض المتقدمين، رحمة بالمقلدين المساكين. عقد حجة الإسلام الغزالي في كتاب (القسطاس المستقيم) فصلاً بيَّن فيه الاستغناء بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلماء أمته عن إمام معصوم آخر، ومعرفة صدقه بطريق أوضح من النظر في المعجزات وأوثق منه وسماه (طريق العارفين) ومما جاء فيه أن مُنَاظِر الإمام الغزالي وهو رجل من الباطنية القائلين بأن الحق لا يُعرف إلا بوجود إمام معصوم، قال له بعد ما أوضح له الموازين التي جاء بها القرآن للتمييز بين الحق والباطل والخير والشر ما يأتي مع جوابه وهو: لقد ساعدتني على أن التعليم حق، وأن الإمام هو النبي صلى الله عليه وسلم، واعترفت أن كل واحد لا يمكنه أن يأخذ العلم من النبي صلى الله عليه وسلم دون معرفة الميزان، وأنه لا يمكنه معرفة تمام الميزان إلا منك فكأنك ادعيت الإمامة لنفسك خاصة فما برهانك ومعجزتك؛ فإن إمامي إما أن يقيم معجزة، وإما أن يحتج بالنص المتعاقب من آبائه إليه، فأين نصك وأين معجزتك؟ فقلت: أما قولك: (إنك تدعي الإمامة لنفسك خاصة) فليس كذلك فإني أرجو أن يشاركني غيري في هذه المعرفة فيمكن أن يُتعلم منه كما يُتعلم مني فلا أجعل التعليم وقفًا على نفسي، وأما قولك: تدعي الإمامة لنفسك، فاعلم أن الإمام قد نعني به الذي يتعلم من الله تعالى بواسطة جبريل، وهذا لا أدعيه لنفسي، وقد نعني به الذي يتعلم من الله بغير جبريل، ومن جبريل بواسطة الرسول، ولهذا سُمي علي رضي الله عنه إمامًا؛ فإنه تعلم من الرسول لا من جبريل، وأنا بهذا المعنى أدعي الإمامة لنفسي، أما برهاني عليه فأوضح من النص ومما تعتقده معجزة؛ فإن ثلاثة أنفس لو ادعوا عندك أنهم يحفظون القرآن فقلت: ما برهانكم؟ فقال أحدهم: برهاني أنه نص عليَّ الكسائي أستاذ المقرئين إذ نص على أستاذي وأستاذي نصَّ عليَّ، فكأن الكسائي نص عليَّ، وقال الثاني: إني أقلب العصا حية، وقلب العصا حية، وقال الثالث: برهاني أني أقرأ جميع القرآن بين يديك من غير مصحف، فليت شعري أي هذه البراهين أوضح عندك وقلبك بأيها أشد تصديقًا؟ فقال: بالذي قرأ القرآن فهو غاية البراهين إذ لا يخالجني فيه ريب، أما نص أستاذه عليه ونص الكسائي على أستاذه فيتصور أن تقع فيه أغاليط، لا سيما عند طول الأسفار، وأما قلب العصا حية، فلعله فعل ذلك بحيلة وتلبيس، وإن لم يكن تلبيسًا فغايته أنه فعل عجيب، ومن أين يلزم أن من قدر على فعل عجيب ينبغي أن يكون حافظًا للقرآن؟ قلت: فبرهاني إذن أيضًا أني كما عرفت هذه الموازين فقد عرّفت وأفهمت وأزلت الشك عن قلبك في صحته، فيلزمك الإيمان بإمامتي كما أنك إذا تعلمت الحساب من أستاذ حصل لك علم بالحساب، وعلم آخر ضروري بأن أستاذك حاسب وعالم بالحساب كذلك فقد علمت من تعليمه علمه وصحة دعواه أيضًا في أنه حاسب، وكذلك آمنت أنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق موسى عليه السلام لا بشق القمر ولا بقلب العصا حية بمجردهما؛ فإن ذلك يتطرق إليه حينئذ التباس كثير لا يوثق به، بل من يؤمن بقلب العصا حية يكفر بخوار العجل؛ فإن التعارض في عالم الحس والشهادة كثير جدًا؛ لكني تعلمت الموازين من القرآن، ثم وزنت بها جميع المعارف الإلهية، بل أحوال المعاد وعذاب القبر وعذاب أهل الفجور وثواب أهل الطاعة كما ذكرته في كتاب جواهر القرآن، فوجدت جميعها موافقة لها في القرآن، ولما في الأخبار فتيقنت أن محمدًا صلى الله عليه وسلم صادق، وأن القرآن حق وفعلت كما قال علي رضي الله عنه إذ قال: لا تعرف الحق بالرجال اعرف الحق تعرف أهله، فكانت معرفتي بصدق النبي ضرورية كمعرفتك إذا رأيت رجلاً عربيًّا يناظر في مسألة من مسائل الفقه ويحسن فيها ويأتي بالفقه الصحيح الصريح؛ فإنك لا تتمارى في أنه فقيه، ويقينك الحاصل به أوضح من اليقين بقلب ألف عصا ثعابين؛ لأن ذلك يتطرق إليه احتمال السحر والتلبيس والطلسم وغيرها. انتهى المراد منه، وقد حكم الإمام بعد ذلك بأن إيمان العوام والمتكلمين ضعيف لأنهم لم يسلكوا هذه الطريقة. ((يتبع بمقال تالٍ))