طلع الصباح وبرح الخفاء، وعلم الخاص والعام أن جماعة الدعوة والإرشاد ليس لها مقصد سياسي؛ لأن الجمعيات السياسية لا تكون جهرية عمومية، يقبل فيها كل من أراد أن يدخل فيها بحسب قانونها. وهذه هي الحجة التي دحضت كل شبهة حتى من نفوس الأحداث، وعوام الناس الذين هم أتباع كل ناعق، لا يفرقون بين معقول وغير معقول. قد يصدق الواحد من هؤلاء أنه يمكن إنشاء مدرسة لإنشاء دولة، وهو ما لا يصدقه العاقل المفكر الذي يميز بين الممكن والمحال من الأمور العادية، فإذ قيل له: إن هذه المدرسة ليست لشخص معين ولا لأفراد معينين، وإنما هي لجماعة مكونة من كل من يدفع ثلاثة جنيهات في السنة؛ لمقصد الجمعية العلني المجرد من السياسة، وهؤلاء هم أصحاب الرأي في هذه الجماعة، فلهم أن يعزلوا جميع أعضاء مجلس الإدارة ويولوا غيرهم، فهل تصدق أو تعقل أن يسمح أصحاب المقصد السياسي الخطير بدخول كل من شاء في عملهم، وجعله من أصحاب الرأي والنفوذ فيه، وأن يكون له إخراجهم من مجلس إدارته وتوسيد أمر الإدارة إلى من شاءوا؟ لقال من يقال له هذا القول: إن هذا لا يصدق ولا يعقل، فمن يتوهم بعد ظهور نظام جماعة الدعوة والإرشاد أن لمن أسسوه غرضًا سياسيًّا فهو منسلخ من العقل، قد استهواه شيطان الوهم، ولا قيمة لتوهم مثله ولا لقوله، ولا لرضاه ولا لسخطه، ومن أظهر آيات الجهل والانحطاط أن يوجد في المخلوقين بصورة البشر من يصدق الطعن في مثل هذا العمل، حتى يحتاج إلى الدفاع عنه. وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل *** (الاشتراك في جماعة الدعوة والإرشاد) علم كل من قرأ النظام السياسي لهذه الجماعة أن من اشترك فيها بثلاثة جنيهات فأكثر في السنة ودفعها، يكون من أعضاء الهيئة العامة فيها الذين لهم حق الانتخاب والمراقبة على أعضاء مجلس الإدارة. ونزيدهم علمًا بأن قيمة الاشتراك يجوز أن تدفع أقساطًا كما يشاء المشترك. ومن يشترك بأقل من ثلاثة جنيهات في السنة، يعد عضوًا من أعضاء الجمعية المعاونين، ولا يكون له حقوق أعضاء الهيئة العامة. وكل من دفع للجماعة شيئًا من المال على سبيل التبرع أو على سبيل الاشتراك، يعطى وصلاً مطبوعًا مختومًا بخاتم الجماعة وخاتم رئيسها أو وكيلها (وقسائم الوصول المستعملة الآن مختومة بخاتم الوكيل) ويزاد على ذلك توقيع المتسلم الذي يقبض النقود، وتوجد الآن دفاتر قسائم للتبرعات وللاشتراكات بيد الوكيل (صاحب هذه المجلة) وسائر الدفاتر بيد أمين الصندوق محمود بك أنيس، وقد أذن مجلس الإدارة لكل منهما بالقبض. ومتى تألفت اللجان تعطى قسائم أخرى، ويعلن ذلك في الجرائد. *** (جمعية الرابطة الإسلامية) كانت شبهة الشيخ عبد العزيز جاويش إذ طعن في مشروع الدعوة والإرشاد في بدء السعي؛ لتكوينه أنه عمل سري لا يعرف أعضاؤه ولا قانونه. وقد راجت هذه الشبهة في سوق من لا يميزون بين الشبهة والحجة، ولا بين البرهان والسفسطة، إلى أن ظهر قانون الجماعة، وعرف أعضاؤها. ثم علمنا أن للشيخ عبد العزيز جاويش جمعية اسمها جمعية الرابطة الإسلامية، ينشر دعوتها في تلاميذ المدارس المصرية، وتجبى نقودها منهم في كل شهر، ولا يعرف لها قانون، ولا أعضاء، ولا أمين صندوق، فما هو مقصدها وأين تذهب الأموال التي تجبى لها؟ وكيف يكلف أولئك التلاميذ بذل أموالهم، وهم لا يعلمون أين تذهب تلك الأموال ولا على أي شيء تنفق؟ ومن أعطى منهم ما فرض عليه في كل شهر لا يعطى وصولاً موقعًا باسم أحد ولا يختمه، وإنما يعطى ورقة صغيرة كبطاقة الثوب عليها خاتم الجمعية، فإذا كان هذا المال يجبى لغرض صحيح شرعي، فلماذا يستخفي مؤسس الجمعية به (إن كان هنالك جمعية) ؟ ولماذا جعل موردها خاصًّا بالولدان الذين يسهل أن يقادوا إلى حيث لا يعلمون، دون الرجال الذين يبحثون ويحاسبون؟ ولماذا يجعل نفسه غير مسؤول عما يأخذه من المال بعدم إمضاء الأوراق والبطائق على الأقل؟ فعسى أن تكشف للجمهور هذه الغوامض. * * * (الماسون في جمعية الاتحاد ومجلة دين ومعيشت) ذكر في الجزء الأول من هذه السنة أن زعماء جمعية الاتحاد والترقي المشهورين من الماسون، وأن الماسونية قد راجت بسعيهم، وأنهم أسسوا لها شرقًا عثمانيًّا رئيسه طلعت بك الذي كان ناظر الداخلية، وهو الآن رئيس فرقة الاتحاد والترقي في مجلس المبعوثين، وتمنينا لو يكون تصرف طلعت بك في الماسونية أحسن من تصرفه السيء في نظارة الداخلية، وأشرنا عن بعد إلى ما في رواج الماسونية في رجال هذه الدولة الإسلامية من الخطر، ولم نشأ أن نشرح ذلك؛ لئلا يلصق الناس عمل طلعت بك وأوليائه من زعماء جمعيته بالدولة العلية بسوء فهم أو سوء نية؛ لما لهم من النفوذ في الحكومة الحاضرة. وقد ترجمت مجلة (دين ومعيشت) الروسية ما كتبناه، وزادت عليه بسوء النية أو سوء الفهم - الله أعلم - أن أركان الدولة والقائمين بأعمالها (جميعًا من الخفير إلى السلطان) ماسونيون، وجعلت الماسونية في رجال الدولة مفضية إلى هدم الدولة الإسلامية وتأسيس دولة ماسونية، وأظهرت الريب في خبرنا، وتكهنت في استنباط الباعث عليه، وذكرت احتمال أن يكون غليان الدم العربي والعصبية الجاهلية، ثم ذكرت ما يرد هذه التهمة التي لا موجب لذكرها مع حسن النية بقولها: (إنها مخالفة لمسلكه وخطته وهو الجامعة الإسلامية) ثم قالت ما ترجمته: فإن كان في أعضاء الاتحاد والترقي وعلى الأخص طلعت بك حمية إسلامية، فليردوا وليكذبوا أقوال المنار، وإن سكتوا يكون المنار صادقًا بالطبع. (المنار) إننا نبادل مجلة دين ومعيشت، وإن كنا لا نقرأها ولا نعرف لغتها؛ لما في المبادلة بين أرباب الصحف من الفوائد والصلة المعنوية باستمداد بعضهم من بعض، كما نبادل الجرائد الهندية لأجل ذلك. وقد ذكر لنا بعض أصحابنا وتلاميذنا الروسيين بعض تهافت هذه المجلة في المسائل الدينية، والرد على المنار في بعضها، وأن غايتها تعويق إخواننا مسلمي التتار عن الترقي المدني والديني، ولم نكن نرى أن هذه المجلة مما يعنى بالرد عليها؛ لأن وجود مثلها في هذا العصر مما تقتضيه طبيعة الاجتماع، وصدها المسلمين عن الترقي، ومحاولتها إبقاءهم على الجمود، وحبسهم في مضيق أوهام بعض المؤلفين في القرون المتوسطة والأخيرة المظلمة، لا يخلو من فائدة؛ لأن من طباع البشر أن ينقسموا في كل أمر عام يدخلون فيه إلى ثلاثة أقسام: قسم يغلو في طلب الانسلاخ من القديم والإيغال في الجديد؛ وهم أهل الإفراط. وقسم يغلو في مقاومة كل جديد والمحافظة على كل قديم؛ وهم أهل التفريط. وقسم يسددون ويقاربون، فيهدون إلى ترك الضار من القديم واقتباس النافع من الجديد بالتدريج؛ وهم الأمة الوسط. ومجلة دين ومعيشت لسان حال أهل التفريط في مسلمي روسية، وفائدتها مقاومة أهل الإفراط؛ ليكون كل منهما ممهدًا لأهل العدل والاعتدال فيما يدعون إليه من الأمر الوسط الذي هو خير الأمور. كنا نظن أن أصحاب هذه المجلة يكتبون ما يكتبون من خطأ وصواب بحسن النية، ولكن لم يظهر لنا شيء من حسن النية في خوضهم بذكر مسألة العصبية الجاهلية، وهم يعلمون أنهم لا يقدرون أن يجمعوا من كل ما عرفوه من الكتب والصحف في إنكار هذه العصبية والتشنيع على أهلها مقدار ما يوجد في مجلد واحد من مجلدات المنار الأربعة عشر، ولا في إيهامهم قراء مجلتهم أننا قلنا: إن رجال الدولة كلهم من الماسون من السلطان إلى الخفير (سبحانك هذا بهتان عظيم) وإنما عزونا ذلك إلى بعض زعماء الجمعية، ونعني بهم طلعت بك ورحمي بك وناظم بك وجاويد بك وجاهد بك وأضرابهم. ما أجهل أصحاب هذه المجلة بأحوال الآستانة وتلك الجمعية؛ إذ اقترحوا على طلعت بك تكذيب المنار، قد يسهل على طلعت بك أن يكذب الصحف فيما هي صادقة فيه من الأمور التي لا يعرفها كل أحد في العاصمة، كما كذب وقوع الشقاق في حزب الاتحاد والترقي أخيرًا، ثم عرف عالم المدنية كله أن ذلك حق لا ريب فيه، ولكن لا يسهل عليه أن يكذب خبر المنار في مسألة الماسونية؛ لأنه أشهر من نار على علم؛ ولأن طلعت لا يرى رأي أصحاب تلك المجلة في وجوب البراءة من الماسونية. قالوا: إذا لم يكذب طلعت بك أو جمعيته المنار في هذا الخبر، تعين أن يكون صادقًا، فها هم أولاء لم يكذبوه، بل قد صدقه طلاب الإصلاح منهم المقاومون لأولئك الزعماء، فقرروا إبطال المحافل الماسونية من العاصمة، فما يقول أصحاب (دين ومعيشت) بعد هذا؟ ألا فليعلم أصحاب هذه المجلة أن صاحب المنار مسلم، قد ربى نفسه على الصدق، حتى كان في أيام طلب العلم يقول لأشد إخوانه صحبة له: إذا حفظت علي كذبة واحدة في جد أو هزل، فلك حكمك في {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} (النساء: ٩) ولا يكونوا ممن قيل فيه: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم * * * (دار السلطنة) يحسب الناس للفتن الداخلية في دار السلطنة حسابًا، ويظنون أن زعماء جمعية الاتحاد والترقي الذين غُلبوا على زعامتهم بفوز المصلحين بمطالبهم العشرة، لا بد أن يجمعوا كيدهم، ويكروا على المخالفين لهم كرة شديدة بدعوة حماية الدستور مما يسمونه الارتجاع. أما نحن، فنرجو أن تكون هذه العاصمة آمن ما كانت من الفتن الداخلية، وأبعد عن المخاوف الاستبدادية والارتجاعية، ذلك بأن زعماء جمعية الاتحاد والترقي المغلوبين على زعامتهم ومقاصدهم، أولو ذكاء وفهم، واستفادوا بمصارعة الحوادث وتكرار التجارب خبرة وعبرة، فلا بد أن يكونوا قد عرفوا خطأهم كله أو بعضه، وأقله أن يكونوا قد اعتقدوا أن دولة عريقة في الإسلام وارثة لمقام الخلافة الإسلامية، لا يمكن أن تدور رحاها على قطب الماسونية، وأن العناصر العثمانية لا يمكن إدغامها في العنصر التركي. وإنما الممكن هو ائتلافها معه بإقامة الدستور، فإن لم يكونوا قد علموا هذين الأمرين، فهم يعلمون أن إخوانهم الذين قاموا بأمر الإصلاح في حزب الجمعية وأنصارهم والموافقين لرأيهم من الضباط وغيرهم، لا يمكن اتهامهم بمقاومة الدستور، إذا وكل الأمر إلى جاهد بك، فهو لا يخجل من اتهام صادق بك أبي الدستور ومثل طاهر بك المبعوث بالارتجاع، وقد علم القراء أن صادق بك أبو الدستور، وليعلموا أيضًا أن طاهر بك هذا هو صاحب العدد الأول (برنجى نومرو) في جمعية الاتحاد والترقي، ولكن رحمي بك ذا الروية والأدب العالي، والدكتور ناظم بك ذا الدهاء والتدبير الدقيق، وطلعت بك وجاويد بك صاحبي الذكاء والفطنة؛ هؤلاء الرؤساء العاملون لا يقدمون على ما يقدم عليه مثل جاهد بك ولا نظن فيهم أنهم يرضون بتعريض الدولة للخطر؛ لأجل استعادة زعامتهم والإصرار على مقاصدهم، فالعاصمة في أمان، والدستور على أحسن ما كان إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))