(تابع ما قبله) يحب الكلب سيده، ويخلص له، ويدافع عنه دفاع المستميت، لما يرى أنه مصدر الإحسان إليه في سداد عوزه، فصورة شبعه وريه وحمايته مقرونة في شعوره بصورة من يكفلها له، فهو يتوقع فقدها بفقده، فيحرص عليه حرصه على حياته، ولو أنه انتقل من حوزته إلى حوزة آخر وغاب عنه السنين، ثم رآه معرَّضًا لخطرٍ ما عادت إليه تلك الصور، يصل بعضها بعضاً، واندفع إلى خلاصه بما تمكنه القوة. ذلك لأن الإلهام الذي هُدي به شعور الكلب ليس مما تتسع به المذاهب، فوجدانه يتردد بين الإحسان ومصدره، وليس له وراءهما مذهب، فحاجته في سد عوزه هي حاجته إلى القائم بأمره، فيحبه محبته لنفسه، ولا يبخس منها شوب التعاوض في الخدمة. أما الإنسان - وما أدراك ما هو - فليس أمره على ذلك، ليس ممن يلهم ولا يتعلم، ولا ممن يشعر ولا يتفكر، بل كان كماله النوعي في إطلاق مداركه عن القيد ومطالبه عن النهايات، وتسليمه على صغره، إلى العالم الأكبر على جلالته وعظمه، يصارعه بعوامله وهي غير محدودة، وإيداعه من قوى الإدراك والعمل ما يعينه على المغالبة، ويمكنه من المطالبة، بسعيه ورأيه، ويتبع ذلك أن يكون له في كل كائن مما يصل إليه لذة، وبجوار كل لذة ألم ومخافة، فلا تنتهي رغائبه إلى غاية، ولا تقف مخاوفه عند نهاية {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً} (المعارج: ١٩-٢١) ، تفاوتت أفراده في مواهب الفهم، وفي قوى العمل، وفي الهمة والعزم، فمنهم المقصر ضعفًا أو كسلاً المتطاول في الرغبة شهوةً وطمعًا، يرى في أخيه أنه العون له على ما يريد من شؤون وجوده، لكنه يذهب من ذلك إلى تخيل اللذة في الاستْئثار بجميع ما في يده ولا يقنع بمعارضه في ثمرة من ثمار عمله، وقد يجد اللذة في أن يتمتع ولا يعمل ويرى الخير في أن يقيم مقام العمل، إعمال الفكر في استنباط ضروب الحيل ليتمتع وإن لم ينفع، ويغلب عليه ذلك، حتى يخيل له أن لا ضير عليه لو انفرد بالوجود عمن يطلب مغالبته، ولا يبالي بإرساله إلى عالم العدم بعد سلبه، فكلما حثه الذكر والخيال إلى دفع مخافة أو الوصول إلى لذيذ، فتح له الفكر بابًا من الحيلة، أو هيأ له وسيلة لاستعمال القوة، فقام التناهب مقام التواهب، وحل الشقاق محل الوفاق، وصار الضابط لسيرة الإنسان إما الحيلة وإما القهر. هل وقف الهوى بالإنسان عند التنافس في اللذائذ الجسدانية، وتجالد أفراده طمعاً في وصول كلٍّ إلى ما يظنه غاية مطلبه، وإن لم تكن له غاية؟ كلا ولكن قدرالله له أن تكون له لذائذ روحانية، وكان من أعظم همه أن يشعر بالكرامة له في نفس غيره ممن تجمعه معهم جامعة ما حسبما يمتد إليه نظره، وقد بلغت هذه الشهوات حداً من الأنفس كادت تتغلب على جميع الشهوات، وأخذت لذة الوصول إليها من الأرواح مكانًا لا تصعد إليه سائر اللذات، وهي من أفضل العوامل، في إحراز الفضائل، وتمكين الصلات بين الأفراد والأمم، لو صرفت فيما سِيقتْ لأجله ٠ ولكن انحرف بها السبيل كما انحرف بغيرها، للأسباب التي أشرنا إليها من التفاوت في مراتب الإدراك والهمة والعزيمة، حتى خيل للكثير من العقلاء أن يسعى إلى إعلاء منزلته في القلوب بإخافة الآمن، وإزعاج الساكن، وإشعار القلوب رهبة المخافة، لا تَهَيُّب الحرمة. هل يمكن مع هذا أن يستقيم أمر جماعةٍ بُني نظامهم وعلق بقاؤهم في الحياة على تعاونهم، ورفد بعضهم بعضًا في الأعمال؟ أَوَلا تكون هذه الأفاعيل السابق ذكرها سبباً في تفانيهم؟ لا ريب أن البقاء على تلك الأحوال من ضروب المُحال، فلا بد للنوع في حفظ بقائه من المحبة أو ما ينوب منابها. لجأ بعض أهل البصيرة في أزمنة مختلفة إلى العدل وظنوا كما ظن بعض العارفين ونطق به في كلمة جليلة: إن العدل نائب المحبة، نعم، لا يخلو القول من حكمة، ولكن مَن الذي يضع قواعد العدل، ويحمل الكافة على رعايتها؟ قيل: ذلك هو العقل، فكما كان الفكر والذكر والخيال ينابيع الشقاء، كذلك تكون وسائل السعادة وفيها مستقر السكينة، وقد رأينا أن اعتدال الفكر وسعة العلم، وقوة العقل وأصالة الحكم تذهب بكثير من الناس إلى ما وراء حجب الشهوات، وتعلو بهم فوق ما تخيله المخاوف، فيعرفون لكل حق حرمته، ويميزون بين لذة ما يفنى ومنفعة ما يبقى، وقد جاء منهم أفراد في كل أمة وضعوا أصول الفضيلة، وكشفوا وجوه الرذيلة، وقسموا أعمال الإنسان إلى ما تحضر لذَّته وتسوء عاقبته، وهو ما يجب اجتنابه، وإلى ما قد يشق احتماله، ولكن تسر مغبّاته، وهو ما يجب الأخذ به، ومنهم من أنفق في الدعوة إلى رأيه نفسه وماله، وقضي شهيدًا في دعوة قومه إلى ما يحفظ نظامهم. فهؤلاء العقلاء هم الذين يضعون قواعد العدل، وعلى أهل السلطان أن يحملوا الكافة على رعايتها، وبذلك يستقيم أمر الناس. هذا قول لا يجافي الحق ظاهره، ولكن هل سمع في سيرة الإنسان، وهل ينطبق على سنته أن يخضع كافة أفراده أو الغالب منهم لرأي العاقل، لمجرد أنه الصواب؟ وهل كفى في إقناع جماعة منه كشعب أو أمة قول عاقلهم: إنهم مخطئون، وإن الصواب فيما يدعوهم إليه، وإن أقام على ذلك من الأدلة ما هو أوضح من الضياء، وأجلى من ضرورة المحبة للبقاء؟ كلا لم يعرف ذلك في تاريخ الإنسان، ولا هو مما ينطبق على سنته، فقد تقدم لنا أن سبب الشقاء هو تفاوت الناس في الإدراك، وهم مع ذلك يدعون المساواة في العقول، والتقارب في الأصول، ولا يعرف جمهورهم من حال الفاضل، إلا كما يعرف من أمر الجاهل، ومن لم يكن في مرتبتك من العقل، لم يذق مذاقك من الفضل، فمجرد البيان العقلي لا يدفع نزاعًا ولا يرد طمأنينة، وقد يكون القائم على ما وضع من شريعة العقل ممن يزعم أنه أرفع من واضعها فيذهب بالناس مذهب شهواته، فتذهب حرمتها ويتهدم بناؤها، ويفقد ما قصد بوضعها. أضف إلى ما سبق من لوازم نزعات الفكر ونزغات الأهواء شعورًا هو ألصق بالغريزة البشرية وأشد لزومًا لها. كل إنسان مهما علا فكره، وقوي عقله، أو ضعفت فطنته، وانحطت فطرته يجد نفسه أنه مغلوب لقوة أرفع من قوته، وقوة ما آنس منه الغلبة عليه مما حوله، وأنه محكوم بإرادة تُصرِّفه تصرُّف ما هو فيه من العوالم في وجوه قد لا تعرفها معرفة العارفين، ولا تتطرف إليها إدارة المختارين، تشعر كل نفس أنها مسوقة لمعرفة تلك القوة العظمى، فتطلبها من حسها تارة، ومن عقلها أخرى، ولا سبيل لها إلا الطريق التي حددت لنوعها، وهي طريق النظر، فذهب كل في طلبها وراء رائد الفكر - فمنهم من تأولها ببعض الحيوانات لكثرة نفعها أو شدة ضررها، ومنهم من تمثلت له في بعض الكواكب لظهور أثرها، ومنهم من حجبته الأشجار والأحجار لاعتبارات له فيها، ومنهم من تبدت له آثار قوى مختلفة في أنواع متفرقة، تتماثل في أفراد كل نوع وتتخالف بتخالف الأنواع، فجعل لكل نوع إلهًا، ولكن كلما رق الوجدان، ولطفت الأذهان، ونفذت البصائر، ارتفع الفكر، وجلت النتائج، فوصل من بلغ به علمُه بعضَ المنازل من ذلك إلى معرفة هذه القدرة الباهرة، واهتدى إلى أنها قدرة واجب الوجود. غير أن من أسرار الجبروت ما غمض عليه، فلم يسلم من الخبط فيه، ثم لم يكن له من الميزة الفائقة في قومه ما يحملهم على الاهتداء بهديه، فبقي الخلاف ذائعًا، والرشد ضائعاً، اتفق الناس في الإذعان لما فاق قُدَرَهم، وعلا متناول استطاعتهم، لكنهم اختلفوا في فهم ما تلجئهم الفطرة إلى الإذعان له، اختلافًا كان أشد أثرًا في التقاطع بينهم، وإثارة أعاصير الشقاق فيهم، من اختلافهم في فهم النافع والضار لغلبة الشهوات عليهم. إن كان الإنسان قد فُطر على أن يعيش في جملة، ولم يمنح مع تلك الفطرة ما منحه النحل وبعض أفراد النمل مثلاً، من الإلهام الهادي إلى ما يلزم لذلك، وإنما ترك إلى فكره يتصرف به على نحو ما سبق، كما فطر على الشعور بقاهر تنساق نفسه بالرغم عنها إلى معرفته، ولم يفض عليه مع ذلك الشعور عرفانه بذات ذلك القاهر، ولا صفاته، وإنما ألقى به في مطارح النظر، تحمله الأفكار في مجاريها، وترمي به إلى حيث يدري ولا يدري، وفي كل ذلك الويل على جامعته، والخطر على وجوده، أفهل مُنِيَ هذا النوع بالنقص ورُزِئَ بالقصور عن مثل ما بلغه أضعف الحيوانات وأحطها في منازل الوجود؟ نعم هو كذلك لولا ما آتاه الصانع الحكيم من ناحية ضعفه. الإنسان عجيب في شأنه يصعد بقوة عقله إلى أعلى مراتب الملكوت، ويطاول بفكره أرفع معالم الجبروت، ويُسامَى بقوته ما يعظم عن أن يسامي من قوى الكون الأعظم، ثم يصغر ويتضاءل وينحط إلى أدنى درك من الاستكانة والخضوع متى عرض له أمرٌ مّا لم يعرف سببه، ولم يدرك مَنْشَأه، ذلك لسرٍّ عرفه المستبصرون، واستشعرته نفوس الناس أجمعين. من ذلك الضعف قِيدَ إلى هداه، ومن تلك الضِّعَة أُخِذَ بيده إلى شرف سعادته، أكمل الواهب الجواد لجملته ما اقتضت حكمته في تخصيص نوعه بما يميزه عن غيره أن ينقص من أفراده، وكما جاد على كل شخص بالعقل المصرف للحواس، لينظر في طلب اللقمة وستر العورة والتوقي من الحر والبرد، جاد على الجملة بما هو أَمسّ بالحاجة في البقاء، وآثر في الوقاية من غوائل الشقاء، وأحفظ لنظام الاجتماع، الذي هو عماد كونه بالإجماع، منّ عليه بالنائب الحقيقي عن المحبة، بل الراجع بها إلى النفوس التي أقفرت منها، لم يخالف سنته فيه من بناء كونه على قاعدة التعليم والإرشاد، غير أنه أتاه مع ذلك من أضعف الجهات فيه، وهي جهة الخضوع والاستكانة، فأقام له من بين أفراده مرشدين هادين، وميزهم من بينها بخصائص في أنفسهم، لا يشركهم فيها سواهم، وأيد ذلك زيادة في الإقناع بآيات باهرات تملك النفوس، وتأخذ الطريق على سوابق العقول، فيستخذي الطامح، ويذل الجامح، ويصطدم بها عقل العاقل فيرجع إلى رشده، وينبهر لها بصر الجاهل فيرتد عن غيه، يطرقون القلوب بقوارع من أمر الله، ويدهشون المدارك ببواهر من آياته، فيحيطون العقول بما لا مندوحة عن الإذعان له، ويستوي في الركون لما يجيئون به المالك والمملوك، والسلطان والصعلوك، والعاقل والجاهل، والمفضول والفاضل، فيكون الإذعان لهم أشبه بالاضطراري منه بالاختياري النظري، يعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم، وما أراد أن يعلموه من شؤون ذاته وكمال صفاته، وأولئك هم الأنبياء والمرسلون - فبعثة الأنبياء صلوات الله عليهم من متممات كون الإنسان، ومن أهم حاجاته في بقائه، ومنزلتها من النوع، منزلة العقل من الشخص، نعمة أتمها الله لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وسنتكلم عن وظيفتهم بنوع من التفصيل فيما بعد. اهـ