حين وفد رسول ملك الروم على الخليفة حدثني أبو الحسين هلال بن المحسن قال كانت دار الخلافة التي على شاطئ دجلة تحت نهر مُعَلّى قديمًا للحسن بن سهل ويسمى [١] القصر الحسني فلما توفي صارت لبوران بنته فاستنزلها المعتضد بالله عنها فاستنظرته أيامًا في تفريغها وتسليمها ثم رمّتها وعمّرتها وجصصتها وبيضتها وفرشتها بأَجَلِّ الفُرُش وأحسنه وعلقت أصناف الستور على أبوابها وملأت خزائنها بكل ما يخدم الخلفاء به ورتبت فيها من الخدم والجواري ما تدعو الحاجة إليه، فلما فرغت من ذلك انتقلت وراسلته بالانتقال، فانتقل المعتضد إلى الدار ووجد ما استكثره واستحسنه ثم استضاف المعتضد بالله إلى الدار مما جاورها كل ما وسَّعها به وكبرها وعمل عليها سورًا جمعها وحصنها، وقام المكتفي بالله بعده ببناء التاج على دجلة وعمل وراءه من القباب والمجالس ما تناهى في توسعته وتعليته، ووافى المقتدر بالله فزاد في ذلك وأوفى مما أنشأه واستحدثه وكان الميدان والثريا وحبر [٢] الوحوش متصلاً بالدار [٣] كذا ذكر لي هلال بن المحسن أن بوران سلمت الدار إلى المعتضد وذلك غير صحيح؛ لأن بوران لم تعش إلى وقت المعتضد وذكر محمد بن أحمد بن مهدي الإسكافي في تأريخه أنها ماتت في سنة إحدى وسبعين ومائتين وقد بلغت ثمانين سنة ويشبه أن تكون سلمت الدار إلى المعتمد على الله، والله أعلم. حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال حدثني أبو الفتح أحمد بن عليّ بن هارون المنجم قال حدثني أبي قال: قال أبو القاسم عليّ بن محمد الجوَّاري [٤] في بعض أيام المقتدر بالله وقد جرى حديثه وعظم أمره وكثرة الخدم في داره، وقد اشتملت الجريدة إلى هذا الوقت على أحد عشر ألف خادم خصي وكذا من صقلي ورومي وأسود وقال هذا جنس واحد ممن تضمه [٥] الدار فدع الآن الغلمان الحجرية وهم ألوف كثيرة والحواشي من الفحول، وقال أيضًا حدثني أبو الفتح عن أبيه وعمه عن أبيهما أبي القاسم علي بن يحيى أنه كانت عدة كل نوبة من نوب الفراشين في دار المتوكل على الله أربعة آلاف فراش، قالا فذهب علينا أن نسأله كم نوبة [٦] كانوا. حدثني هلال بن المحسن قال حدثني أبو نصر خواشاذة خازن عضد الدولة قال طفت دار الخلافة عامرها وخرابها وحرمها [٧] وما يجاورها ويتاخمها فكان ذلك مثل مدينة شيراز، قال هلال وسمعت هذا القول من جماعة آخرين عارفين خبيرين. ولقد ورد رسول لصاحب الروم في أيام المقتدر بالله ففرشت الدار بالفروش الجميلة وزينت بالآلات الجليلة ورتب الحجاب وخلفاؤهم والحواشي على طبقاتهم على أبوابها ودهاليزها وممراتها ومخترقاتها وصحونها ومجالسها ووقف [٨] الجند صفين بالثياب الحسنة وتحتهم الدواب بمراكب الذهب والفضة وبين أيديهم الجنائب على مثل هذه الصورة وقد اظهروا العدد الكثير [٩] والأسلحة المختلفة فكانوا من أعلا باب الشماسية إلى قريب من دار الخلافة وبعدهم الغلمان الحجرية والخدم الخواص الدارية والبراينة إلى حضرة الخليفة بالبزة الرائقة والسيوف والمناطق المحلاة وأسواق الجانب الشرقي وشوارعه وسطوحه ومسالكه مملوءة بالعامة النظّار [١٠] وقد اكترى كل دكان وغرفة مشرفة بدراهم كثيرة وفي دجلة الشذاءات والطيارات والذباذب والزلالات والسمريات [١١] بأفضل زينة وأحسن ترتيب وتعبئة وسار الرسول ومن معه من المواكب إلى أن وصلوا إلى الدار ودخل الرسول فمر به [١٢] على دار نصر القشوري الحاجب ورأي ضففا [١٣] كثيرًا ومنظرًا عظيمًا فظن أنه الخليفة وتداخلت له هيبة وروعة حتى قيل له إنه الحاجب وحمل مِن بعد ذلك إلى الدار التي كانت برسم الوزير وفيها مجلس أبي الحسن عليّ بن محمد الفرات [١٤] يومئذ فرأى أكثر مما رآه النصر الحاجب ولم يشك في أنه الخليفة حتى قيل له هذا الوزير وأُجْلِس بين دجلة والبساتين في مجلس قد علقت ستوره واختيرت فروشه ونصبت فيه الدسوت وأحاط به الخدم بالأعمدة والسيوف ثم استدعى بعد أن طيف به في الدار إلى حضرة المقتدر بالله وقد جلس وأولاده من جانبيه فشاهد مِن الأمر ما هاله ثم انصرف إلى دار قد أعدت له. حدثني [١٥] الوزير أبو القاسم عليّ بن الحسن المعروف بابن المسلِّمة قال حدثني أمير المؤمنين القائم بأمر الله قال حدثني أمير المؤمنين القادر بالله قال حدثتني جدتي أم أبي إسحاق بن المقتدر بالله أن رسول ملك الروم لما وصل إلى تكريت أمر أمير المؤمنين المقتدر بالله باحتباسه هناك شهرين، ولما وصل إلى بغداد نزل [١٦] دار صاعد ومكث شهرين لا يُؤْذن له في الوصول حتى فرغ المقتدر بالله من تزيين قصره وترتيب آلته، ثم صف العسكر من (دار صاعد) إلى (دار الخلافة) وكان عدد الجيش مائة وستين ألف فارس وراجل، فسار الرسول بينهم إلى أن بلغ الدار، ثم أُدْخِلَ في أزج [١٧] تحت الأرض فسار فيه حتى قبل بين يدي المقتدر بالله وأدى رسالة صاحبه ثم رسم أن يطاف به في كل الدار وليس فيها من العسكر أحد ألبتة وإنما فيها الخدم والحجاب والغلمان السودان، وكان عدد الخدم إذ ذاك سبعة آلاف خادم منهم أربعة آلاف بيض وثلاثة آلاف سود وعدد الحجاب سبع مئة حاجب وعدد الغلمان السودان غير الخدم أربعة آلاف غلام قد جعلوا على سطوح الدار والعلالي وفتحت الخزائن، والآلات فيها مرتبة كما يفعل بخزائن العرائس وقد علقت الستور ونظم جوهر الخلافة في قلابات [١٨] على دَرَجٍ غُشِّيَتْ بالديباج الأسود. مطلب دار الشجرة ولما دخل الرسول إلى دار الشجرة ورآها كثر تعجبه فيها [١٩] وكانت شجرة من الفضة وزنها خمسمائة ألف درهم وعليها أطيار مصوغة من الفضة تصفر بحركات قد جعلت لها فكان تعجب الرسول من ذلك أكثر من تعجبه من جميع ما شاهده، قال لي هلال بن المحسن [٢٠] ووجدت من شرح ذلك ما ذكر كاتبه أنه نقله من خط القاضي أبي الحسين بن أم شيبان الهاشمي وذكر أبو الحسين أنه نقله من خط الأمير وأحسبه الأمير أبا محمد الحسن بن عيسى ابن المقتدر بالله؛ قال كان عدد ما علق في قصور أمير المؤمنين المقتدر بالله من الستور الديباج المذهبة بالطرر [٢١] المذهبة الجلية المصورة بالجامات والفيلة والخيل والجمال والسباع والطرر [٢٢] والطيور الكبار البصنائية [٢٣] والأرمنية والواسيطة والبهنسية السواذج والمنقوشة والدبيقية المطرزة ثمانية وثلاثين ألف ستر منها الستور الديباج المذهبة المقدم وصفها اثني عشر ألفًا وخمس مئة ستر وعدد البسط والنخاخ [٢٤] الجهرمية والدرابجردية والدورقية في الممرات والصحون التي وطئ عليها القواد ورسل صاحب الروم من حد باب العامة الحديد [٢٥] إلى حضرة المقتدر بالله سوى ما في المقاصير والمجالس من الأنماط الطبري والدبيقي التي لحقها النظر [٢٦] دون الدوس اثنان وعشرون ألف قطعة وأدخل رسل صاحب الروم من دهليز باب العامة الأعظم إلى الدار المعروفة بخان الخيل وهي دار أكثرها أروقة بأساطين رخام وكان فيها من الجانب الأيمن خمس مائة فرس عليها خمس مائة مركب ذهبًا وفضة بغير أغشية، ومن الجانب الأيسر خمس مائة فرس عليها الجلال الديباج بالبراقع الطوال وكل فرس في يد شاكري بالبزة الجميلة ثم أدخلوا من هذه الدار إلى الممرات والدهاليز المتصلة بحير الوحش وكان في هذه الدار من أصناف الوحش التي أخرجنا إليها من الحير قطعان تقرب من الناس وتشممهم [٢٧] وتأكل من أيديهم ثم أخرجوا إلى دار فيها أربعة فيلة مزينة بالديباج والوشي على كل فيل ثمانية نفر من السند الزراقين بالنار فهال الرسل أمرها ثم أخرجوا إلى دار فيها مائة سبع: خمسون يمنة وخمسون يسرة كل سبع منها في يد سباع وفي رؤوسها وأعناقها السلاسل والحديد. ثم أخرجوا إلى الجوسق المحدث وهي دار بين بساتين [٢٨] في وسطها بركة رصاص قلعي حواليها نهر رصاص قلعي أحسن من الفضة المجلوة طول البركة ثلاثون ذراعًا في عشرين ذراعًا، فيها أربعة طيارات لطاف بمجالس [٢٩] مذهبة مزينة بالديبقي المطرز وأغشيتها ديبقي مذهب وحواليّ هذه البركة بستان بميادين فيه نخل قيل إن عدده أربع مائة نخلة وطول كل واحدة خمسة أذرع قد لبس جميعها ساجًا منقوشًا من أصلها وإلى حد الجُمَّارة [٣٠] بحلق من شبة مذهبة وجميع النخل حامل بغرائب البسر الذي أكثره خلال لم يتغير، وفي جوانب البستان أترج حالم ودستنبو [٣١] ومقفع وغير ذلك ثم أخرجوا من هذه الدار إلى دار الشجرة وفيها شجرة في وسط بركة كبيرة مدورة فيها ماء صاف وللشجرة ثمانية عشر غصنًا لكل غصن منها ساحات كبيرة عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة وأكثر قضبان الشجرة فضة وبعضها مذهب وهي تتمايل في أوقات ولها ورق مختلف الألوان يحرك كما يتحرك الريح ورق الشجر وكل من هذه الطيور ويصفر ويهدر وفي جانب الدار يمنة البركة تماثيل خمسة عشر فارسًا على خمسة عشر فارسًا قد ألبسوا الديباج وغيره وفي أيديهم مطارد على رماح يدورون على خط واحد في الناورد خببًا وتقريبًا [٣٢] وفي الجانب الأيسر مثل ذلك. ثم ادخلوا إلى القصر المعروف بالفردوس فكان فيه من الفرش والآلات ما لا يحصى ولا يحصر كثرة، وفي دهاليز الفردوس عشرة آلاف جَوْشَن [٣٣] مذهبة معلقة، ثم أُخرِجوا منه إلى ممر طوله ثلاث مئة ذراع قد علق من جانبيه نحو عشرة آلاف درقة وخوذة وبيضة ودرع وزردية وجعبة محلاة وقِسِيّ، وقد أقيم نحو ألفي خادم بيضًا وسودًا [٣٤] صفين يمنةً ويسرةً ثم أخرجوا بعد أن طيف بهم ثلاثة وعشرين قصرًا إلى الصحن التسعيني وفيه الغلمان الحجرية بالسلاح الكامل والبزة الحسنة والهيئة الرائعة وفي أيديهم الشروخ والطبر زينات [٣٥] والأعمدة ثم مروا بمصاف من عليه السواد من خلفاء الحجاب والجند والرجَّالة وأصاغير [٣٦] القواد ودخلوا دار السلام وكانت عدة كثير من الخدم الصقالبة [٣٧] في سائر القصور يسقون الناس الماء المبرد بالثلج والأشربة الفقاع ومنهم من كان يطوف مع الرسل فلطول المشي بهم ما [٣٨] جلسوا واستراحوا في سبعة مواضع واستسقوا الماء فسقوا. وكان أبو عمر عدي بن أحمد بن عبد الباقي الطرسوسي صاحب السلطان ورئيس الثغور الشامية معهم في كل ذلك وعليه قباء أسود وسيف ومنطقة، ووصلوا إلى المقتدر بالله وهو جالس في التاج، مما يلي دجلة بعد أن لبّس بالثياب الدبيقية المطرزة بالذهب على سرير أبنوس قد فرش بالدبيقي المطرز بالذهب وعلى رأسه الطويل ومن يمنة السرير تسعة عقود مثل السبح معلقة، ومن يسرته تسعة [٣٩] أخرى من أفخر الجواهر وأعظمها قيمة غالبة الضوء على ضوء النهار وبين يديه خمسة من ولده ثلاثة يمنة واثنان يسرة ومثل الرسول وترجمانه بين يدي المقتدر بالله فكفّر له وقال الرسول لمؤنس الخادم ونصر القشوري وكانا يترجمان عن المقتدر لولا أني لا آمن أن يطالب صاحبكم بتقبيل البساط لقبلته ولكنني فعلت ما لا يطالَب رسولكم بمثله لأن التكفير من رسم شريعتنا ووقفا ساعة وكانا شابًّا وشيخًا؛ فالشاب: الرسول المتقدم والشيخ: الترجمان، وقد كان ملك الروم عقد الأمر في الرسالة للشيخ متى حدث بالشاب حدث الموت، وناوله المقتدر بالله من يده جوابَ ملك الروم وكان ضخمًا كبيرًا فتناوله وقبله إعظامًا له، وأُخرجا من باب الخاصة إلى دجلة وأقعدا وسائر أصحابهما في شذًا من الشذاوات الخاصة وصاعدا إلى حيث أُنزلا فيه من الدار المعروفة بصاعد وحمل إليهما خمسون بدرة ورقًا في كل بدرة خمسة آلاف درهم وخلع على أبي عمر عدي الخلع السلطانية وحُمِلَ على فرس وركب على الظهر وكان ذلك في سنة خمس وثلاثمائة. ((يتبع بمقال تالٍ))