للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رسم المصحف

(س٢٨) من صاحب الإمضاء في قزان
(روسيا) في ٦ جمادى الآخرة:
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة الأستاذ الفاضل السيد رشيد رضا حفظه الله، ومتعنا وسائر
المسلمين بعلومه الشريفة، أما بعد: فإن من المسائل التي تدور بيننا الآن مسألة
رسم المصاحف المطبوعة في بلدة قزان، حيث إن العلماء صرحوا بأن
رسم المصاحف يجب فيه الاتباع لرسم المصاحف التي كتبت بأمر سيدنا عثمان
رضي الله عنه، وفي رسم المصاحف القزانية مخالفة كثيرة لرسم تلك المصاحف،
فتشكلت بقزان لجنة من العلماء والقراء؛ لتفتيش رسم هذه المصاحف ونصوص
العلماء فيه، وتكلموا في وجوب الاتباع وعدمه، فذهب كثير منهم إلى أنه ينبغي
اتباع رسم المصاحف العثمانية، وأن الرسم سنة متبعة على ما نص عليه أبو عمرو
الداني والشاطبي والجزري والسيوطي والزمخشري وغيرهم، وبعضهم قالوا: إنه
لا يجب اتباع الرسم؛ محتجين بقول شيخ الإسلام العز بن عبد السلام حيث قال:
(أما الآن فلا يجوز كتابة المصاحف على المرسوم الأول؛ خشية الالتباس ولئلا
يوقع في تغيير من الجهال) ويجيب الفريق الأول عن هذا: بأن المواضع التي يتوهم
فيها الالتباس يمكن التخلص منها بالنقط والإشكال، ثم فتشوا المصاحف المطبوعة في
الديار الإسلامية من الآستانة ومصر والهند وغيرها، فوجدوا فيها أيضًا مخالفة كثيرة
لرسم المصاحف العثمانية، فما ندري ما سبب عدم اعتنائهم في هذا الباب؟ أأهملوا
في رسم كتابنا المقدس، أم لا يقولون بلزوم الاتباع. وإذا كان الاتباع واجبًا كما يقول
به أكثر الأئمة، فما ينبغي أن نصنع لنقرأ برواية حفص المعروفة في بلادنا في مثل
كلمة (آتان) في سورة النمل آية ٣٦، فإنه كتب في مصاحف سيدنا عثمان رضي
الله عنه كلها بغير ياء بعد النون، والحال أن حفصًا يقرأه آتاني بياء مفتوحة بعد
النون، فكيف يكون زيادة ياء بعد النون في مثل هذه المواضع؛ تخلصًا من الالتباس
والتلفيق في القراءة. وهل يجوز مخالفة الرسم لأجل الضرورة في مثل تلك
الضرورة، وما نصنع في الكلمات التي حذفت فيها الألفات في بعض المصاحف
المطبوعة والمكتوبة القديمة مثل: كلمة الأعلام والأحلام والأقلام والأزلام والأولاد،
وتلك الكلمات كتبت في بعض المصاحف (الأعلم والأحلم والأقلم) بحذف الألف
بعد اللام، والحال أن قاعدة الخط العربي تقتضي إثبات الألف في مثلها، وليس فيها
نص صريح من علماء الرسم في حق الحذف أو الإثبات، هل ينبغي فيها اتباع قاعدة
رسم الخط العربي وإثبات الألفات، أم نقول: إنهم كانوا يعتبرون الظهور وعدم
الالتباس؛ ولهذا كانوا يحذفون الآلفات فيما ظهر المراد منه مثل الكلمات المذكورة،
فنحذف الألفات فيهن. ورسم المصاحف المطبوعة هنا ليس على نسق واحد، في
بعضها تلك الكلمات مكتوبة بألفات بعد اللام، وفي بعضها بحذف الألفات، وإن
المصحف الذي يحفظ في بلدة بترسبورغ عاصمة الروسية في المكتبة الإمبراطورية،
ويظن كونه واحدًا من مصاحف سيدنا عثمان رضي الله عنه، قد حذف فيه الألفات في
مثل هذه المواضع، والعلامة شهاب الدين المرجاني القزاني الذي أفنى عمره في خدمة
العلم وصنف كتابًا مفيدًا في رسم المصحف، وكان مأمورًا بتصحيح المصاحف
المطبوعة من جهة الحكومة، قد حذف الألفات قصدًا في مثل هذه الكلمات، ولزيادة
الاطمئنان ولكون المسألة عامة مهمة ومتعلقة بعموم أهل الإسلام اتفقنا على المراجعة
إلى (؟) جنابكم المحترم بالاستفسار في تلك المسألة؛ رجاء أن تتفضلوا بإبداء
ملاحظاتكم العالية في صفحات المنار، والسلام والإكرام.
رئيس اللجنة المتشكلة لتفتيش رسم المصاحف المطبوعة ببلدة قزان
... ... ... ... ... ... ... ملاّ صادق الإيمانقولي القزاني
(ج) إن ديننا يمتاز على جميع الأديان بحفظ أصله منذ الصدر الأول،
فالذين تلقوا القرآن عمن جاء به من عند الله صلى الله عليه وسلم حفظوه وكتبوه،
وتلقاه عنهم الألوف من المؤمنين، وتسلسل ذلك جيلاً بعد جيل، وقد أحسن التابعون
وتابعوهم وأئمة العلم في اتباع الصحابة في رسم المصحف وعدم تجويز كتابته بما
استحدث الناس من فن الرسم، وإن كان أرقى مما كان عليه الصحابة رضوان
عليهم؛ لأنه صنعة ترتقي بارتقاء المدنية؛ إذ لو فعلوا لجاز أن يحدث اشتباه في
بعض الكلمات باختلاف رسمها وجهل أصلها، فالاتباع في رسم المصحف يفيد
مزيد ثقة واطمئنان في حفظه كما هو وبعد الشبهات أن تحوِّم حوله، وفيه فائدة
أخرى وهي حفظ شيء من تاريخ الملة وسلف الأمة كما هو.
نعم إن تغير الرسم واختلاف الإملاء يجعل قراءة المصحف على وجه الصواب
خاصة بمن يتلقاه عن القراء، ولذلك أحدثوا فيه النقط والشكل وهي زيادة لا تمنع
معرفة الأصل على ما كان عليه في عهد الصحابة. ثم إنه يجعل تعليم الصغار
عسرًا؛ ولذلك أفتى الإمام مالك بجواز كتابة الألواح ومصاحف التعليم بالرسم
المعتاد كما نقل.
قال علم الدين السخاوي في شرحه لعقيلة الشاطبي: قال أشهب رحمه الله:
سئل مالك رضي الله عنه: أرأيت من استكتبته مصحفًا، أترى أن يكتب على ما
أحدث الناس من الهجاء اليوم؟ فقال: لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتْبة الأولى.
قال مالك: ولا يزال الإنسان يسألني عن نقط القرآن فأقول له: أما الإمام من
المصاحف فلا أرى أن ينقط، ولا يزاد في المصاحف ما لم يكن فيها , وأما
المصاحف الصغار التي يتعلم فيها الصبيان وألواحهم فلا أرى بذلك بأسًا. ثم قال:
(أشهب) والذي ذهب إليه مالك هو الحق؛ إذ فيه بقاء الحال الأولى إلى أن يعلمها
الآخر، وفي خلاف ذلك تجهيل الناس بأوليتهم. وقال أبو عمر الداني في كتابه
المسمى (المحكم في النقط) عقيب قول مالك: هذا، ولا مخالف لمالك في ذلك من
علماء الأمة. اهـ.
فالذي أراه هو الصواب أن تطبع المصاحف التي تتخذ لأجل التلاوة برسم
المصحف الإمام الذي كتبه الصحابة عليهم الرضوان؛ حفظًا لهذا الأثر التاريخي
العظيم الذي هو أصل ديننا كما هو، لكن مع النقط والشكل للضبط. ولو كان لمثل
الأمة الإنكليزية هذا الأثر، لما استبدلت به ملك كسرى وقيصر ولا أسطول الألمان
الجديد الذي هو شغلها الشاغل اليوم. وأما الألواح والأجزاء وكذا المصاحف التي
تطبع لأجل تعليم الصغار بها في الكتاتيب، فلتطبع بالرسم المصطلح عليه اليوم من
كل وجه؛ تسهيلاً للتعليم، ومتى كبر الصغير وكان متعلمًا للقرآن بالرسم المشهور،
لا يغلط إذا هو قرأ في المصاحف المطبوعة برسم الصحابة مع زيادة النقط
والشكل، وكذلك يكتب القرآن في أثناء كتب التفسير وغيرها بالرسم الاصطلاحي؛
ليقرأه كل أحد على وجه الصواب. وبهذا نجمع بين حفظ أهم شيء في تاريخ ديننا،
وبين تسهيل التعليم وعدم اشتباه القارئين.
أما ما احتج به العز بن عبد السلام على رأيه فليس بشيء؛ لأن الاتباع إذا لم
يكن واجبًا من الأصل، فلا فرق بين الآن الذي قال فيه ما قال وبين ما قبله وما
بعده، بل يكتب الناس القرآن في كل زمن بما يتعارفون عليه من الرسم، وإذا كان
واجبًا في الأصل وهو ما لا ينكره، فترك الناس له لا يجعله حرامًا أو غير جائز
لما ذكره من الالتباس، بل يزال هذا الالتباس على أنه لا يسلم له.
وأما ما طبعه المسلمون من المصاحف في الآستانة وقزان ومصر وغيرها من
البلاد، غير متبعين فيه رسم المصحف الإمام في كل الكلمات؛ فسببه التهاون والجهل
والاعتماد على بعض المصاحف الخطية التي كتبت قبل عهد الطباعة، فرسم فيها
بالرسم المعتاد الكلمات التي يظن أنه يقع الاشتباه فيها، إذا هم كتبوها كما كتبها
الصحابة: كلفظ (الكتاب) بالألف بعد التاء، وهو في المصحف الإمام بغير ألف؛
ليوافق في بعض الآيات قراءة الجمع فكتبوه بالألف , ولم أر مصحفًا كتب أو طبع
كله بالرسم المعتاد.
ونحمد الله تعالى أن وفق بعض الناس إلى طبع ألوف من المصاحف برسم
الصحابة المتبع، وأحسن المصاحف التي طبعت في أيامنا هذه ضبطًا وموافقة
للمصحف الإمام المتبع هو المصحف المطبوع في مطبعة محمد أبي زيد بمصر
سنة ١٣٠٨؛ إذ وقف على تصحيحه وضبطه الشيخ رضوان بن محمد المخللاتي،
أحد علماء هذا الشأن، وصاحب المصنفات فيه، وقد وضع له مقدمة بين فيها
ما يحتاج إليه في ذلك، فالذي أراه أنه ينبغي للجنة القزانية أن تراجع هذا المصحف،
فإنها تجد فيه حل عقد المشكلات كلها - إن شاء الله تعالى - ككلمة الأقلام وأمثالها
وهي بغير ألف، وكلمته (ءاتاني) التي رسمت في المصحف الإمام (اتن) ،
فيرون أن هذا المصحف وضع فوق النون ياء صغيرة مفتوحة هي من قبيل الشكل؛
لتوافق قراءة حفص، فهي فيه هكذا (ءاتنىَ) .
وجملة القول: إننا نرى أن الصواب الذي ينبغي أن يتبع ولا يعدل عنه هو أن
تطبع الأجزاء والمصاحف التي يعلم فيها المبتدئون بالرسم الاصطلاحي؛ لتسهيل
التعليم، وهو ما جرت عليه الجمعية الخيرية الإسلامية هنا بإذن الأستاذ الإمام رحمه
الله تعالى، فهي تطبع أجزاء القرآن كل جزء على حدته بالرسم الاصطلاحي
وتوزعها على التلاميذ في مدارسها. وأما سائر المصاحف فيتبع في طبعها رسم
المصحف الإمام، كالمصحف الذي ذكرناه آنفًا، وإذا جرى المسلمون
على هذا في الآستانة ومصر وقزان والقريم وسائر البلاد الإسلامية، فلا يمضي
جيل أو جيلان إلا وتنقرض المصاحف التي طبع بعض كلماتها بالرسم الاصطلاحي
وبعضها برسم الصحابة. ولا ضرر من وجودها الآن؛ إذ هي مضبوطة بالشكل
كغيرها، فالاشتباه والخطأ مأمونان في جميع المصاحف ولله الحمد.