للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


عذاب القبر
(س٢١) الشيخ منصور نصار من مجاوري الأزهر: قد سألني بعض
الناس ببلدتنا عما يحصل للميت في قبره من النعيم أو العذاب هل المنعَّم أو المعذَّب
هو الروح فقط أم الروح مع الجسم، فأجبته بما أعلم من نص أثر ابن عمر
والغزالي الموصوف بحجة الإسلام من أن المعذب هو الروح فقط. وقد وقع
اضطراب بيني وبين أهل بلدتي في هذه المسألة، فأرجو من حضرتكم توضيح
الحقيقة على صفحات مناركم الأغر حيث إن الله تعالى نصبكم لخدمة الدين والدفاع
عن شبهات الضالين لا زلتم هادين مهديين.
(ج) قد سبق لنا الإجابة عن مثل هذا السؤال في المجلد الخامس وبينا أصل
الخلاف في عذاب القبر وأن مذهب السلف عدم البحث في كيفية ما يرد في الكتاب
والسنة من أحوال الآخرة؛ لأنها مما يجب الإيمان به كما ورد من غير فلسفة فيه
ولا تحكم على الغيب؛ إذ لا يقاس عالم الغيب على عالم الشهادة، ولو أنكم دعوتم
أهل البلد إلى هذا التسليم لأقفلتم باب الجدل في وجوههم، ولا أقبح من الجدل في
أمر الآخرة الذي لا مجال للعقل ولا للحس فيه، والذين فتحوا هذا الباب هم الذين
فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فقامت المعتزلة تقول: إن من الناس من تأكلهم السباع
والحيتان في البحر وتصير أجسامهم أجزاء من أجسام هذه الحيوانات، ومنهم من
يحرق ويذرى رماده، فكيف تقولون يا معشر الأشاعرة: إن في القبر عذابًا على
الروح والجسد؟ والصواب أنه لا عذاب إلا عذاب الآخرة بعد البعث. وقامت
طائفة أخرى تقول: إن الجسم لا إحساس فيه؛ فالحديث الوارد في عذاب القبر يراد
به تعذيب الروح مجردة. ويقول آخرون: الروح لم تعمل السيئات إلا بواسطة
الجسد؛ فلا بد أن يكون العذاب مشتركًا ويصدق ذلك بأن تتصل الروح بجزء أو
أجزاء من البدن ولو كان رميمًا أو داخلاً في بنية حيوان، ويقع العذاب عليهما معا
وهو قول أكثر المسلمين. ثم إن الاشاعرة يقولون: بأن الإعادة في الآخرة تكون
عن عدم بأن ينعدم الجسم من الوجود، ثم يخلقه الله تعالى بذاته ومع أعراضه في
قول، وهذا القول لا يتفق مع القول بأن عذاب القبر على الروح والجسد معًا، إلا
أن يقال: إنهم استثنوا عَجْب الذَّنَب؛ فقالوا: إنه لا يفنى، فلعلهم يقولون: إن عذاب
القبر يكون على الروح مع اتصالها بعجب الذنب، ولكن قال المزني من
الشافعية: إن عجب الذنب يفنى أيضًا.
فأنت ترى أن الباحثين بعقولهم فيما ورد من أحاديث عذاب القبر في خلاف لا
يكاد يسلِّم واحد منهم للآخر، ونحمد الله تعالى أنهم لم يجعلوا هذه المسألة من أصول
العقائد التي يكفر منكرها، ولا شك أن مذهب السلف هو الحق الذي يجب الأخذ به
وهو أن نقول: إن كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- من أمر البرزخ
والآخرة حق نؤمن به ونفوِّض الأمر في حقيقته وكيفيته إلى الله تعالى، مع العلم بأن
الأرواح هي التي تشعر باللذة والألم، وأن الأجساد لباس وآلات لتوصيل بعض
اللذات والآلام، وأي قول قلت فيه هذه المسألة لا يخرجك من الدين، فعلام التنازع
بين المسلمين.