دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (٤) والحق أن الأعصاب كلها تربط أجزاء الجسم بعضها ببعض، كما تربط أسلاك التلغراف بعض الممالك بالبعض الآخر.
تذييل لما تقدم في الإرادة والروح والقوى العقلية قلنا إن سبب حركة القلب لا يعلمه أحد إلا الله تعالى، فهي من الخواص التي وهبها له، وكذلك وهب مثل هذه الحركة الذاتية للخلايا ذات الأهداب المبطنة لبعض الأغشية كالشعب الرئوية، وللخلايا المتحركة ككريات الدم البيضاء وغيرها، ولكن هناك فرقًا بين حركة هذه وتلك؛ فإن حركة الكريات لا نظام لها بخلاف حركة الأهداب فإنها في غاية النظام، وسريعة جدًّا، وهي في انتظامها تشبه انتظام ضربات القلب، فكل هذه الخلايا تتحرك حركة ذاتية لا يعلم لها سبب مطلقًا، وإن كان للبيئة تأثير فيها بمثل الزيادة أو النقصان، ولكن نفس الحركة كأنها بإرادة هذه الخلايا الحية، والحق أنها من أعظم مظاهر إرادتها وحياتها، وهي عامة في كل الخلايا، نباتية كانت أو حيوانية؛ ولكنها تكون أظهر في بعضها من البعض الآخر أو تكون كامنة فيه، وهي أدل على إرادة بعضها من بعضها. ومعنى كون هذه الحركة بإرادة الخلية أنها من عملها الذاتي الذي لا يظهر أن للبيئة تأثيرًا في إيجاده وإنشائه، فمثلاً تشاهد الكريات البيضاء أو بعض الميكروبات تتحرك في السائل الواحد، ثم تسكن، ثم تتحرك بدون أي سبب خارجي، وأحيانًا تتجه إلى جهة ثم تعدل عنها إلى غيرها وهكذا، أي أن عملها يختلف في البيئة الواحدة، ولا معنى للإرادة سوى هذا. وكذلك المخ قد يبدأ العمل، ثم يتركه بدون أي سبب خارجي، لا في الحال ولا في الماضي بحسب ما نعلم، بل بمحض الإرادة والاختيار، وإن عارض ذلك كثير من الفسيولوجيين. فالحق أن الإرادة وحرية العمل، هي أكبر خواص الأحياء، وهي أعظم ما يميزها عن الجماد، وأما زعم بعضهم أن الأعمال كلها ليست إلا أفعالاً منعكسة فهو لا يمكن إثباته، وما هذا الزعم إلا أثر من آثار التعاليم المادية في نفوسهم. هذا ولما كانت حياة الجسم كله متوقفة على حياة القلب، فلا يبعد أن تكون الروح شيئًا مستقرًّا فيه، ولا يبعد أن تكون من عالم الأثير، وبموت القلب تنفصل عنه، ولا نقول إن الخلايا الأخرى حية بغير شيء كهذا، بل نقول إن حياة القلب أو روحه هي أكبرها وأعظمها؛ ولذلك قلنا إن روحه هي روح الإنسان؛ لأن عليها مدار حياته، فهي الروح الرئيسة وغيرها تابع لها. واعلم أن القشرة السنجابية للمخ هي مركز الشعور العام والإدارة والتعقل، وإن كان لكل الخلايا الحية مثل هذه الصفات، إلا أنها فيها في الحالة الأثرية، كما أن الانقباض هو من خواص الخلايا الحية كلها؛ ولكنه في خلايا العضلات أظهر منه في غيرها، وهكذا يقال في سائر الخواص الأخرى للحياة. وهناك علاقة كبرى بين قوة المخ فيما ذكر وبين حجمه، وإذا قارنَّا وزنه بوزن الجسم كله وجدنا أن مخ الإنسان أكبرها بالنسبة إلى جسمه، أما أكبر الأمخاخ على الإطلاق فهو مخ الفيل والحوت. ثم إنك تجد أن مخ الذكي أثقل من مخ البليد والأبله، ومخ الرجل أثقل من مخ المرأة، وقل مثل ذلك في الراقي في العلم والأدب مع المنحط، إلا ما يستثنى من ذلك. وكذلك كثرة التلافيف في القشرة السنجابية، وتعقد تعاريجها، وعمق الميازيب التي بينها كلها أشياء تختلف باختلاف القوى العقلية، فهي تكثر في الإنسان وتقل أو تنعدم في الحيوانات التي هي دونه رقيًّا، وعند ولادة الطفل يكاد المخ يكون غفلاً منها، ثم تكثر إلى زمن الشباب والكهولة، وبعده تقل تدريجيًّا حتى تقارب في أرذل العمر شكل مخ الأطفال. ويلي مخ الإنسان في كثرة التلافيف وتعقدها مخ بعض أنواع القردة. ففي المخ روح الإدراك والشعور، وفي القلب روح الحياة ولا يبعد أنهما أجزاء من روح واحدة، وهذه روح الأحياء ذات الخلية الواحدة (وتسمى الأولى) ، موزعة على جميع أجزائها بالتساوي، وكلما ارتقينا في سلم الأحياء وجدنا أنها موزعة على الجسم بدرجات متفاوتة، كما ترى في الإنسان، والله أعلم، {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: ٨٥) . *** المجموع الدوري للدم ليس الدم في أجسام الحيوانات واقفًا، بل هو دائر فيها، ولله في ذلك حكمتان رئيستان، عليهما مدار حياة الحيوان: (أولهما) توزيع المواد الغذائية وغيرها كالأدوية على جميع أجزاء الجسم، وكذلك توزيع الأكسجين الذي هو ضرورة للاحتراق الداخلي (التفاعل الحيوي) . (وثانيهما) حمل جميع المواد المتخلفة عن التفاعل الحيوي إلى الأعضاء المختصة بإخراجها من الجسم لضررها عن طريق الكليتين، ومن ذلك أيضًا حمل ثاني أكسيد الفحم إلى الرئتين لإخراجه إلى الهواء. والأعضاء المختصة بحركة الدم هي القلب والشرايين والأوعية الشعرية والأوردة. أما القلب فهو جسم مخروطي الشكل موضوع في الصدر بين الرئتين أعلى الحجاب الحاجز وقاعدته إلى الجانب الأعلى الأيمن، وقمته إلى الأسفل الأيسر وهو محاط بغلاف مصليّ يسمى الشغاف ويسميه الأطباء المتأخرون من العرب بالتامور. وفي القلب أربع غرف اثنتان علويتان واثنتان سفليتان، فالأوليان تسميان أذينين والأخريان تسميان بطينين. أما الأذين الأيمن ففيه ينفتح (الأجوف الأعلى) و (الأجوف الأسفل) وهما وريدان عظيمان يجتمع فيهما الدم من الجسم كله ومن البطين الأيمن يخرج شريان كبير يحمل الدم إلى الرئتين. وفي جُدُر الأذين الأيسر أربع فتحات لأربعة أوردة: اثنان منها آتيان من الرئة اليمنى، واثنان من الرئة اليسرى. ومن البطين الأيسر يخرج شريان عظيم يسمى بالإفرنجية Aorta (أورطى) وبالعربية الأبهر، وهو أكبر شريان في الجسم يحمل الدم في فروعه إلى جميع أجزاء الجسم. وبين الأذين الأيمن والبطين الأيمن فتحة لها صمام (غطاء) يسمح بمرور الدم من الأولى إلى الثانية، ولا يسمح بالعكس. وبين الأذين الأيسر والبطين الأيسر فتحة لها صمام أيضًا؛ ولكنها أصغر من الفتحة المتقدمة ووظيفتها كوظيفة تلك. وكل من الشريان الرئوي والأبهر له ثلاثة صمامات تسمح بمرور الدم من القلب إلى الشريان، ولا تسمح بالعكس. وأعظم أمراض القلب هي التي ينشأ عنها تلف هذه الفتحات بحيث تضيق عن المعتاد، أو تسمح برجوع الدم إلى عكس المجرى الطبيعي. والقلب ينقبض من أعلى إلى أسفل؛ فينقبض أولاً الأذينان؛ فيندفع الدم منهما إلى البطينين، ثم ينقبض البطينان؛ فيندفع الدم منهما إلى الشريان الرئوي من الجهة اليمنى للقلب، ويندفع الدم إلى الأبهر من الجهة اليسرى للقلب. وإذا اجتمع الدم الفاسد في الأوردة سار إلى الأجوف الأعلى، والأجوف الأسفل، وانصب في الأذين الأيمن، ومنه إلى البطين الأيمن، ومنه إلى الشريان الرئوي، فالرئتين لينصلح هناك (بخروج ثاني أكسيد الفحم منه، ودخول أكسجين فيه من الهواء) ثم يعود الدم من الرئتين في الأوردة الأربعة التي تصب في الأذين الأيسر، ومن الأذين الأيسر يندفع الدم إلى البطين الأيسر، ومنه إلى الأبهر (الأورطى) ومن الأبهر يوزع على جميع أجزاء الجسم كافة، فيحمل إليها دمًا صالحًا، وتنتهي جميع فروع الأبهر بعروق دقيقة جدًّا يتصل بعضها ببعض كشبكة وهذه العروق هي المسماة بالشعرية تشبيهًا لها بالشعر، وينشأ منها أوردة صغيرة (وهي العروق التي يتجمع فيها الدم بعد مروره على جميع أجزاء الجسم ولونه أسود) وهذه الأوردة الصغيرة يجتمع بعضها ببعض؛ فيتألف منها أوردة أكبر فأكبر حتى تنتهي إلى الأجوف الأعلى والأجوف الأسفل، وهما أعظم وريدين في الجسم. ومن ذلك يُعلم أن الشريان هو العرق الحامل للدم الصالح، والوريد هو العرق الحامل للدم الفاسد، وهذه التسمية صحيحة في الجسم كله ماعدا الشريان الرئوي فإنه يحمل دمًا فاسدًا، وما عدا الأوردة الأربعة الرئوية؛ فإنها تحمل دمًا صالحًا، ولذا رأى المشرحون تعريفًا آخر أصح، وهو أن الشريان هو كل عرق يحمل الدم الخارج من القلب، والوريد كل عرق يحمل الدم الذاهب إلى القلب بقطع النظر عن صلاحه أو فساده. ومما تقدم يُعلم أن الدم في دورته في الجسم كله لا يخرج مطلقًا عن العروق (الشرايين والأوعية الشعرية والأوردة) إلا إذا أصابها حادث تمزقت بسببه فيخرج إذًا منها، وينسكب حولها، ويسمى ذلك بالرض أو الكدم [١] ، وهو الزرقة التي تشاهد في الجسم عند ضربه أو اصطدامه بجسم صلب. ويستثنى من ذلك موضعان ليس فيهما أوعية شعرية، فيسير الدم من الشرايين إلى تجاويف فيهما، ومنها إلى الأوردة وهما الذكر والطحال، وانصباب الدم في هذه التجاويف بكثرة في الذكر تُحْدِث انتصابه. أما الأشياء الصالحة التي في الدم فتخرج مع مائية الدم من خلال جدر الأوعية الشعرية لتعذية جميع خلايا الجسم. وأما الكريات الدموية فهي التي تبقى دائمًا في داخل العروق، إلا في الأحوال الالتهابية، والمواد المائية الخارجة من الأوعية الشعرية تفعل ذلك بطريقة الإسموز الذي سبق بيانه في علم الطبيعة. عدد ضربات القلب والنبض: انقباضات قلب الإنسان تبلغ في الدقيقة الواحدة نحو ٧٠ أو ٧٢ مرة في الذكر ونحو ٨٠ في الأنثى، وهي في الأجنة والأطفال أكثر منها في غيرهم، وتقل في الشيوخ، وقد تزيد هذه الانقباضات في كثير من الأحوال، كما في الخوف الشديد وفي الحميات وغير ذلك، وقد تكون هذه الانقباضات أو الضربات قليلة في بعض الأشخاص بدون مرض، وهي تضعف في بعض الأمراض وخصوصًا قبيل الموت، والدورة الدموية تتم في أقل من نصف دقيقة. وكلما انقبض القلب اندفع الدم منه إلى الشرايين؛ فيحدث فيها امتلاء فجائيًّا وهو المسمى بالنبض، وهو الذي يجسه الأطباء فوق الرسغ وغيره لمعرفة حالة ضربات القلب، والنبض لا يُشْعَر به عادة في الأوردة؛ لأن قوة الضغط إذا وصلت إلى الأوعية الشعرية التي بين الشرايين والأوردة تكون قد قلت، حتى لا يشعر الإنسان في الأوردة بضغط جديد متكرر كما في الشرايين، وعدد مرات النبض في الشرايين تعادل تمامًا مرات ضربات القلب وتحدث بعدها مباشرة، إلا أنها في الشرايين البعيدة تتأخر فترة قصيرة جدًّا عن ضربات القلب. الدم: يوجد في جسم الإنسان عادة ١/١٣ من وزن جسمه دماء، فيكون القدر الذي في جسم الكهل المعتاد ٥ إلى ٦ لترات من الدم، وهو سائل أحمر اللون غليظ يتركب ميكروسكوبيًّا من قسمين الأول الكريات، والثاني ماء الدم وهو المسمى بالإفرنجية (plasma) . أما الكريات فهي نوعان: كريات حمراء وهي عبارة عن غشاء رقيق ممتلئ بمادة حمراء زلالية فيها جزء من الحديد تسمى (الهيموجلبين) ، ويختلف شكل هذه الكريات الحمراء باختلاف الحيوانات، ففي ذوات الثدي تكون أقراصًا مستديرة مقعرة من الجانبين ولا نواة لها، ما عدا الجمال فإن كراتها محدبة من الجانبين، وهو الفرق الوحيد بينها وبين الحيوانات الأخرى الثديية. أما في الطيور والزواحف والأسماك وذوات الحياتين، وهي التي تعيش في الهواء والماء [٢] ، كالضفادع فكرياتها جميعًا بيضاوية الشكل محدبة من الجانبين، ولها نواة وحجم هذه الكريات كلها يختلف باختلاف الحيوانات، وأعظم منشأ للكريات الحمراء هو العظام الإسفنجية كما سبق، وخصوصًا عظام الضلوع وهي أهم مصدر لها. وأما الكريات البيضاء، فهي خلايا حيوية ولها نواة واحدة أو أكثر وحركة ذاتية، بحيث يمكن أن تنتقل من مكان إلى مكان بنفسها، وهي تنشأ من الغدد اللمفاوية ونحوها كالطحال، وأعظم وظيفة لها أنها تقتل الميكروبات، وتأكلها فتنقي الدم منها، فإذا أصاب جزءًا من الجسم عارض أحدث فيه التهابًا، ودخل فيه بعض الميكروبات أسرعت هذه الكريات البيضاء إليها؛ فالتقمتها وقتلتها فإن تغلب الميكروبات مرض الجسم، وإن نجحت الكريات في قتالها وقت الجسم من شر هذه الميكروبات، وما يموت منها في أثناء هذا القتال يتجمع في موضع الالتهاب مختلطًا بغيره، ويسمى بالمِدّة أو الصديد، فأكثر كريات المدة عبارة عن شهداء هذي الحرب، أي كرات بيضاء ميتة. أما عدد الكريات الحمراء في الجسم، فهو ٥ ملايين كُرية في كل ملليمتر مكعب من الدم تقريبًا، وأما البيضاء فهي من سبعة آلاف إلى عشرة، وسيأتي في فصل التنفس الكلام على وظيفة الكريات الحمراء. وإذا خرج الدم من العروق تجمد، وتجمده يحصل هكذا: ينفصل من مائية الدم مادة تسمى (الفبرين) أو (الليفين) لأنها كخيوط الليف؛ فتحيط هذه الألياف بالكريات البيضاء والحمراء، وتنقبض عليها وتكوِّن الجزء المتجمد الذي يسمى بالعربية العلقة [٣] (clot) ، وما بقي من ماء الدم يسمى المصل. وفي الدم مواد زلالية وسكر (جلوكوز) وأملاح عديدة، ومواد دهنية، وماء وغير ذلك أما مائية الدم إذا خففت بماء أكثر أو قلَّ، زلالها فتسمى اللمف. ومما تقدم يُعلم أن الدم في دورته يحمل معه جميع المواد المغذية التي يحتاجها الجسم، وكذلك يأخذ معه من الجسم المواد التالفة التي تخلفت عن الاحتراق الجثماني؛ ليوزعها على الأعضاء المختصة بإخراجها من الجسم كالجلد والكُليتين، وأهم هذه المواد التالفة البولينا، وحامض البوليك والكرياتينين وغير ذلك. حكم تحريم شرب الدم في الشرائع الإلهية: (أولها) : أن الدم عسر الهضم جدًّا، حتى أنه إذا انصب جزء منه في المعدة تقيأه الإنسان، أو يخرج مع البراز بدون هضم على صورة مادة لزجة سوداء، والسبب في عسر هضمه هذا هو وجود المادة الحمراء الحديدية التي فيه، وفي أثناء مرور الدم في القناة الهضمية يتحلل ويتعفن؛ وبذلك يضر الجسم أيضًا ومسألة عسر هضمه المذكورة هنا مشاهدة كثيرًا كلما انصب دم في المعدة بسبب جرح أو غيره. (ثانيها) : أن الدم - كما سبق - يحمل كثيرًا من المواد المتخلفة عن الجسم وهي فضلات له، فلا يصح إعادتها إليه، مع أن الطبيعة اقتضت خروجها منه، نعم قيل إن البولينا نافعة في السل الرئوي؛ ولكن ذلك لم يثبت إلى الآن، وهي ليست موجودة وحدها، بل معه أشياء أخرى ضارة. ولعله إذا ثبت أن البولينا نافعة يكون ذلك أحد أسباب شرب العرب بول الإبل، وهو يختلف بعض الاختلاف عن بول الحيوانات آكلة اللحم؛ فلهذا ربما كان نافعًا في بعض الأمراض كما ورد في بعض الأخبار النبوية. وأعظم اختلاف بين هذا البول وبين الأبوال الأخرى أنه هو وغيره من أبوال آكلات النباتات قلوي التأثير، مشتمل على كثير من الكربونات، وهي لا شك نافعة للمعدة وغيرها، مدرة للبول. (ثالثها) : أنه في كثير من الأمراض العفنة المعدية يوجد في الدم ميكروبات ضارة جدًّا، وكذا سمومها القتالة؛ فإنها تدور في الدم، فإن قيل لم لا يطبخ الدم ويؤكل بعد قتل هذه الميكروبات بالغلي، قلت: ١- إن الغلي يجمد جميع المواد الزلالية التي في الدم؛ وبذلك تصير أشد عسرًا مما كانت. ٢- إن من هذه السموم ما لا يتغير بالغلي تغيرًا يجعلها صالحة للجسم. ٣- إن بعض الميكروبات إذا تجمد ما حولها من المواد الزلالية التي في الدم وقتها من فعل النار؛ لأنها موصلة رديئة للحرارة، وأيضًا فإن حبيبات (أي بزور) الميكروبات تقاوم درجة الغليان بضع دقائق، فإذا لم تمت نمت في جسم آكل الدم وأمرضته. أما حقن دم الحيوان في وريد الإنسان، ففيه أنه قد ينقل المرض إليه، أو يجمد الدم في عروقه، فإن اتقينا هذا وذاك بالطرق العلمية انحلت كريات الدم الحمراء لاختلاف كثافة الدمين ولغير ذلك ونزلت حمرة الدم في البول وذلك ضياع له. ولذلك لا يحقن الأطباء الآن الدم، ويحقنون عادة محلول ملح الطعام، على أن حقن الدم خارج عن موضوع التحريم. اللمف والأوعية اللمفاوية: إذا خرجت مائية الدم من الأوعية إلى أنسجة الجسم عادت إلى الدم ثانية بطريق الأوعية اللمفاوية، وهذه الأوعية عبارة عن قنوات دقيقة شعرية منتشرة في جميع أجزاء الجسم، وفيها صمامات عديدة؛ فتحمل جميع مائية الدم التي خرجت منه وتعيدها إليه. أما هذه المائية المخففة [٤] والمالئة لجميع أجزاء الجسم، فهي المسماة (بالمادة اللمفاوية) و (لمفا) كلمة لاتينية معناها الماء. وجميع الأوعية اللمفاوية التي في الذراع الأيمن، ونصف الصدر الأيمن وما حوى، ونصف الرأس والعنق الأيمن، وأعلى سطح الكبد كلها تجتمع وتصب في قناة واحدة تسمى (القناة اللمفاوية اليمنى) وهذه تصب في أحد الأوردة التي في داخل الصدر من أعلى الجانب الأيمن. أما الأوعية اللمفاوية الباقية فتصب في قناة أخرى عظيمة تسمى (القناة الصدرية) ، وهي أيضًا تصب في أحد الأوردة في أعلى الصدر من الجهة اليسرى. ويوجد في طريق جميع هذه الأوعية اللمفاوية غدد من مادة مخصوصة تسمى (الغدد اللمفاوية) ، ووظيفتها تكوين كريات بيضاء للدم وتصفية جميع المادة اللمفاوية المارة بها من كل ما فيها من الميكروبات وغيرها، فإذا أصاب أحد أصابع اليد جرح مثلاً فسد؛ بسبب وجود ميكروبات فيه أحس الإنسان بانتفاخ وألم في إبطه، وذلك ناشىء من كبر حجم هذه الغدد وانفعالها انفعالاً شديدًا لقتل الميكروبات الواصلة إليها، فإن تغلبت عليها وإلا تحولت إلى خُرَّاج بسبب موت كثير من الكريات البيضاء التي فيها من عراكها مع الميكروبات كما سبق. وهذه المادة اللمفاوية تندفع نحو القلب بسبب ضغط المواد اللمفاوية المتجددة خلفها، وبسبب حركات العضلات، وأيضًا بسبب انقباض بعض هذه الأوعية اللمفاوية على ما فيها وغير ذلك، ويمنع رجوع هذه المادة إلى الأنسجة ما في هذه الأوعية من الصمامات العديدة. ويوجد في بعض الحيوانات التي تحت رتبة الإنسان (وهي الواطئة) كالضفادع مثلاً قلوب لتحريك هذه المادة اللمفاوية كقلب الدم الموجود في الإنسان وغيره. دم الحيض: ينشأ دم الحيض من تمزق في أوعية الدم الموجودة في الغشاء المخاطي المبطن للرحم في كل شهر قمري مرة على الغالب، ويختلط هذا الدم في أثناء نزوله بمواد مخاطية وأحماض وغير ذلك من مفرزات الرحم وغيره، ولا يعلم سبب هذا التمزق الشهري إلى الآن، ومن ذلك يُفْهَم أنه ليس دمًا صافيًا نقيًّا، بل مختلطًا بمفرزات الرحم والمبيضين وغيرهما، وتأثيره في ورق عباد الشمس يدل على حموضته؛ وإنما حُرِّم الجماع في زمن الحيض للأسباب الآتية: ١- إن تهييج أعضاء الأنثى بالجماع في هذا الوقت قد يحدث احتقانًا، فالتهابات رحمية أو مبيضية أو حوضية تضر بصحتها ضررًا بليغًا، وربما نشأ عن هذا الالتهاب تلف في المبيضين أو مجاري البيوضة يؤدي إلى العقم، وأيضًا فإن تعريض الأنثى للهواء في هذا الوقت يضر بأعضائها الداخلية وقد يحدث فيها التهابًا. ٢- إن دخول مواد الحيض في مجرى قضيب الرجل قد يحدث فيه التهابًا صديديًّا في بعض الأحيان، وهذا الالتهاب يشبه السيلان، وقد يمتد إلى الخصيتين فيؤذيهما وربما نشأ عن ذلك أيضًا عقم الرجل. فجملة القول: أن الجماع في المحيض قد يُحْدِث عقمًا في الذكر والأنثى، ويؤدي إلى التهاب أعضائهما الذي يفسد صحتهما، وكفى بذلك ضررًا؛ ولذلك تجد أطباء العالم المتمدن الآن ينهون عن الجماع في ذلك الوقت، كما نهى القرآن عنه، فإنه لا شك أذى للرجل والأنثى. النزف والنزيف: النزف معناه: خروج الدم من أوعيته (الشرايين والأوعية الشعرية والأوردة) والنزيف: هو الدم المنزوف، والنزف ثلاثة أنواع: ١- نزف إلى خارج الجسم كأن ينصب الدم على الأرض مثلاً. ٢- نزف في تجاويف الجسم كأن ينصب في البطن. ٣- نزف في داخل الأنسجة كأن ينصب تحت الجلد، أو في العضلات وهذا النوع الأخير هو المسمى بالرض، أو الكدم كما سبق. وسبب النزف هو تمزق العروق بسبب ما كحادث يقطع العرق، أو مرض يفجره كالدرن أو الزهري أو مرض القلب. أما النزيف الذي يكون خارج الجسم، أو في تجويفه فالغالب أنه ينتهي بالموت إذا كان غزيرًا، بشرط أن لا يعوقه عائق يسد العرق الذي يخرج منه الدم، ففي هذه الحالة لا يموت الشخص، وإنما يصاب بدوار شديد واصفرار، وبعد ذلك تعود إليه صحته شيئًا فشيئًا كلما تجدد دم بدل الجزء المفقود. وأما النوع الثالث وهو الذي ينسكب في أنسجة الجسم، فهذا في الغالب لا يورث ضررًا كبيرًا؛ لأن كمية الدم تكون عادة قليلة بسبب ممانعة أنسجة الجسم للنزيف، وقد يحدث في مكان الدم خُرّاج. أما في الحالة الأولى والثانية؛ فإذا فُقِدَ دم كثير من الجسم اشتد الدوار والاصفرار كما قلنا، ويصاب الإنسان بما يسمى في علم الطب بالهبوط (أو الهمود) فيغمى عليه، ويضعف نبضه، ويصاب الجسم بعرق بارد، وتبرد الأطراف، وبعد ذلك يموت الشخص، وقد يتشنج جسمه قبيل الموت. وأما في النزف داخل الأنسجة؛ فيزرق الجلد إذا كان الدم المنسكب قريبًا منه، وبعد بضعة أيام تأخذ هذه الزرقة في التلاشي تدريجيًّا، حتى يعود الجسم كما كان ذلك بأن يمتص الدم المنسكب شيئًا فشيئًا، حتى يعود إلى العروق، وإن كان منحلاًّ إلا أنه يتركب مرة أخرى في البنية فإن عناصره لم تفقد. المعالجة: إذا قُطع عرق انكمش بسبب مرونته، وانقبض فمه بسبب الألياف العضلية الموجودة في جداره، فيمتنع بذلك النزف إذا كان العرق المقطوع صغيرًا، أما إذا كان عظيمًا فلا بد من عمل الإنسان لإيقاف النزيف، وإلا هلك الشخص. ويوجد عدة طرق لإيقاف النزيف بعضها مؤقتة، وبعضها دائمة. أما المؤقتة فتنحصر في الضغط على المكان الذي يخرج منه الدم، أو ربط العضو ربطًا شديدًا، مثال ذلك أنا إذا رأينا رجلاً طُعن بسكين في ذراعه، وشاهدنا دمًا كثيرًا ينزف منه وجب علينا في الحال أن نبحث في الجرح عن مكان خروج هذا الدم، ونضغط عليه ضغطًا شديدًا بأصابعنا أو بيدنا أو نربط الذراع فوق الجرح. ولا يترك الضغط أو الربط حتى يحضر الطبيب لإيقاف النزيف بالطرق العلمية، ولا ضرر إذا استمر الضغط بضع ساعات؛ فإن العضو لا يموت من الضغط إلا إذا امتنع عنه الدم فوق أربع أو ست ساعات. وأما الطرق العلمية لإيقاف النزيف فأعظمها، وأهمها ما يأتي: ١- أن يمسك العرق المفتوح بجفت مخصوص لذلك (أي مقبض) [٥] ، ويربط العرق بخيط من حرير أو نحوه مطهرًا تطهيرًا تامًّا بالغلي في الماء. ٢- أن يمسك العرق بالجفت، ثم يلوى الجفت عدة مرات، حتى ينقطع العرق وبهذه الوسيلة يقف النزيف ما لم يكن الشريان عظيمًا فيفضل ربطه. ٣- أن يمسك العرق إن كان صغيرًا بالجفت، ويترك عليه بضع دقائق، ثم يرفع الجفت؛ فيقف أيضًا النزيف. ٤- وما يُستعمل في الأوعية الشعرية أو الصغيرة جدًّا هو أن يوضع على مكان النزف قطعة من الثلج أو شيء آخر بارد؛ فتنكمش الأنسجة، والعروق فيبطل النزيف. ٥- أن يوضع على مكان النزف ماء حميم (شديد الحرارة) أو يكوى بشيء محمي بالنار، وقد كان القدماء يوقفون النزيف في الأعضاء المبتورة بوضعها في الزفت حينما يغلي، ولكنها طريقة وحشية. ٦- أن يحشى المكان الذي ينبعث منه الدم حشوًا جيدًا بقطن أو قماش، ويربط ربطًا شديدًا، وهذه الطريقة تستعمل كثيرًا في إيقاف الأنزفة من الأعضاء الغائرة التي لا يمكن ربط عروقها كالرحم مثلاًَ. ٧- أن يوضع على الجرح مواد قابضة، إما مسحوقة، أو محلولة بالماء أو بغيره كالشب، والقرض، ومغلي الشاي، ومغلي الرمان، والعفص، وماء الجير وأملاح المعادن كالحديد والنحاس، وغير هذا كثير، وهذه الطريقة قَلَّ أن تستعمل الآن إلا في الأوعية الصغيرة أو الشعرية. ٨- إذا كان النزف من داخل الأحشاء كالرئة أو المعدة، يجب أن يستلقي المريض على ظهره، ويمتنع عن كل حركة حتى الكلام، ويوضع الثلج على العضو الذي ينزف منه الدم، ثم يستدعى الطبيب في الحال. وأحسن ما يعطيه الطبيب في مثل هذه الأحوال هو مركبات الأفيون والجويدار (وهو مادة فطرية تسلقية تنمو على نوع من الشعير يسمى الشيلم) وكلوريد الكلسيوم وغيرها، وهذه الأدوية توقف النزيف، إما بإضعاف ضربات القلب، أو بقبض أوعية الدم، أو بجعل الدم أقرب إلى التجمد مما كان. أما النزف في داخل تجاويف الجسم كالبطن مثلاً إذا تمزق عضو فيه؛ فيعرف ذلك بحصول هبوط شديد عقب الإصابة مباشرة أو بعدها بقليل، واصفرار زائد في جميع الجسم، وصغر في النبض، ومعنى ذلك أن يشعر الإنسان المتمرن بأن الأوعية الدموية ليست بممتلئة بالدم كالمعتاد، وإذا جس البطن في مكان الإصابة وجد فيه انتفاخًا وألمًا وأصمية يعرفها الطبيب عند القرع، وإذا كانت المعدة أو الأمعاء هي المصابة تقيأ الشخص دمًا أو وجد في برازه؛ وإذا كانت الإصابة في الكُلية وما يتبعها بال الشخص دمًا. فهذه العلامات وأمثالها تدلنا على النزيف الداخلي، فالإسعاف الواجب في مثل هذه الحالة أن يُلقى الشخص على الأرض، وترفع كل الوسائد من تحت رأسه وتدفأ أطرافه السفلى، ويؤمر بالامتناع عن كل حركة حتى الكلام، ولا بأس من وضع شيء بارد على البطن إذا كانت الإصابة فيه. ثم يستدعى الطبيب في الحال، ولا حيلة للطبيب في مثل هذه الحالة إلا عمل عملية عظمى بأسرع ما يمكن، وفيه يفتح البطن وتربط الأوعية النازفة، وتخاط جميع الجروح، وينظف البطن من الدم الذي انسكب فيه. أما علاج النزف تحت الجلد، أو في العضلات فيكون بوضع أشياء مبردة على موضع الإصابة؛ فإنها تقبض الأوعية، وتعوق النزف أو تمنعه، وإذا لم توجد هذه الأشياء المبردة، فالأحسن ربط العضو فإن ذلك أيضًا يوقف النزف بسبب الضغط، ويجب إراحة العضو المرضوض كمال الراحة. ومن الخطأ وضع الأشياء الدافئة على المكان المرضوض والدلك في أول الأمر؛ فإن ذلك مما يزيد في النزف، ولا بأس من وضع الأشياء الدافئة بعد مضي عدة أيام لمساعدة امتصاص الدم المنسكب. أما علاج البنية بعد إيقاف النزيف فيكون كما يأتي: يوضع الشخص بحيث يكون الرأس منخفضًا عن باقي الجسم، ويدفأ تدفئة تامة، وتدلك أطرافه، ويستحسن أن تلف بلفائف من أسفل إلى أعلى، والغرض من ذلك كله دفع الدم إلى الدماغ، ثم يُعطى كميات كبيرة من المرق أو اللبن أو الماء ليشربه، وتعطى له أيضًا بعض المنعشات، وأحسنها الخمر والقهوة والشاي أو محلول النوشادر المخفف (من ١٠ إلى ٢٠ نقطة) أو الأثير (من ١٠ إلى ٣٠ نقطة) ويحترس من تصاعد الأثير في الهواء؛ فإنه إذا وصلت إليه النار أحدث فرقعة عظيمة خطرة، وكذلك إذا استنشقه شخص بمقدار عظيم تحصل له غيبوبة تامة. وللطبيب في هذه الحالة أن يحقن المصاب تحت الجلد بمادة الإستركنين (بمقدار مليجرام إلى ثلاثة) أو بسترات القهوين أو البنين (بمقدار ربع أو نصف جرام) ويحقن أيضًا بمحلول ملح الطعام بنسبة سبعة جرامات ونصف في كل لتر (أي قدر ملعقتين صغيرتين في رطلين من الماء تقريبًا) ، ويحقن برطلين إلى ثلاثة فأكثر من هذا المحلول تحت الجلد، أو في الشرج أو في الأوردة، والغرض من هذا الحقن ملء أوعية الدم بسائل بدل الدم المنزوف؛ ليستمر القلب في عمله، وليتغذى الدماغ بما بقي من الدم في الجسم، ويسمى ذلك المحلول بمحلول الملح الطبيعي أو بالمصل الصناعي. ويجب الاحتراس من عمل هذه الأدوية المنعشة، والحقن المالئة للعروق قبل إيقاف النزيف بالطرق العلمية السابقة، وإلا فإن النزف يعود ثانية إذا امتلأت العروق بالسوائل وانتعش القلب، ويكون في هذه الحالة أشد خطرًا على الشخص. ويقسم النزف باعتبار وقت حصوله إلى ثلاثة أقسام: ١- ابتدائي: وهو الذي يحصل من الإصابة نفسها. ٢- انتعاشي: وهو الذي يحدث بعد انتعاش الجسم إذا لم تربط الأوعية. ٣- ثانوي: وهو الذي يحصل بعد مضي ٢٤ ساعة من حصول الإصابة؛ بسبب أن الطرق التي أجريت لإيقاف النزيف لم تكن محكمة، أو كانت عفنة، أو كان الشخص مصابًا بالزهري أو غيره، فيُفَك الخيط الذي رُبط به الشريان أو يسقط، أو يتقرح الشريان المربوط بسبب عدم تطهير الخيط، أو يحدث غير ذلك غالبًا، ولا يتدفق النزف الشرياني، ولون الدمين مختلف، فالشرياني أحمر، والوريدي يميل إلى السواد، ويعالج قبل حضور الطبيب بربط العضو من أسفل الجرح، لا من أعلاه، وباقي العلاج هو كما في النزف الشرياني. الرعاف: الرعاف نزف يحصل من باطن الأنف وأسبابه عديدة تنحصر في نوعين: ١- أسباب عرضية: وهي التي تحدث من إصابة الأنف بصدمة أو غيرها تجرحها أو تكسر عظامها. ٢-أسباب مرضية: وهي أيضًا نوعان: أ- موضعية وهي إصابة الأنف نفسه بمرض كالزهري أو الدرن أو التهاب غشائها المخاطي التهابًا حادًّا شديدًا (وهو المسمى بالزكام) . ب - عمومية: وهي كثيرة منها أمراض الدم كالإسكربوط [٦] والأرجوانية (الفرفورة) [٧] والصفار (الأنيميا) وبعض الحميات العفنة (مثل الحمى الراجعة) وكأمراض القلب والكبد والكُلى. وقد يحصل الرعاف في الأطفال والفتيات والفتيان، ولا يُعلم له سبب سوى رقة أنسجة أجسامهم، فكثيرًا ما تشاهد بعض البنات في سن البلوغ يحصل لها رعاف كثير، ويتكرر ذلك عدة سنين حتى إذا كبرت زال من نفسه. وفي جميع تلك الأحوال السابقة سواء أكانت موضعية أم عامة يحصل النزف بتمزق شريان، أو وريد صغير في غشاء الأنف المبطن له، ويكثر تمزيق عرق صغير يُشاهد في الجزء الأمامي الأسفل الحاجز بين المنخرين. المعالجة: تختلف باختلاف سبب النزيف - ففي الرعاف العادي للأطفال والشبان يجلس الشخص، وتُرفع ذراعاه حتى تكون أعلى من رأسه، ويوضع الثلج على قفاه، ويستنشق الماء البارد، أو أي محلول قابض كالشب أو مغلي الشاي باردًا وغير ذلك كثير، فإن تعاص الرعاف بعد ذلك يحقن الراعف بشيء قليل من خلاصة الجويدار تحت الجلد، أو يحشى الأنف حشوًا جيدًا بالموصلي (الشاش) المغموس في شيء قابض كالدّرمتول [٨] أو الشب وغيره، وإذا لم يوجد شيء من ذلك، وكان النزف من جزء قريب أمكن إيقافه بالضغط على الأنف نفسه، أو بإدخال قطعة من القطن بجفت أو نحوه والضغط بها على العرق النازف. *** جهاز التنفس الغرض من التنفس دخول هواء صالح إلى الرئتين ليتحد أكسجينه بالدم فيهما؛ فينصلح بذلك، وبخروج بعض أشياء ضارة منه أهمها غاز ثاني أكسيد الفحم. فإذا دار الدم في الجسم حمل إليه هذا الأكسجين؛ فإنه ضروري جدًّا للاحتراق اللازم لحياة الجسم. ومجاري الهواء هي الأنف، ثم الحلق، ثم الحنجرة، ثم القصبة الهوائية، ثم الشعبتين، ثم الشعب الكبيرة، ثم الشعب الصغيرة، ثم التجاويف القمعية، فالخلايا الهوائية، أو الحويصلات الرئوية. وإنما بدأنا بالأنف؛ لأنه هو المسلك الطبيعي للتنفس لا الفم، وذلك لأن في الأنف شعرًا ينقي الهواء من بعض قاذوراته، وميكروباته، وفيه أيضًا أجزاء مخصوصة ممتلئة بالدم؛ فتسخن الهواء قبل وصوله إلى الرئتين، وأما إذا كان التنفس من الفم؛ فإن الهواء يكون حاملاً لكثير من الميكروبات والقاذورات الضارة بالرئتين وبالجسم كله، ولا يسخن الهواء بمروره من الفم كسخونته إذا مر بالأنف فيكون أبرد؛ فيحدث سعالاً إذا وصل إلى الرئتين، أو التهابًا في الحنجرة أو الشعب الرئوية. ولذلك يجب حتمًا تعويد الناس عدم التنفس إلا من الأنف خصوصًا وقت نومهم في الليل. أما الحلق أو الحلقوم: فهو تجويف متصل بالأنف والفم والحنجرة والمريء (البلعوم) وموضعه خلف تجويف الفم، ويمر به الطعام والشراب وهواء التنفس. وأما الحنجرة فهي جهاز الصوت، وموضعها في أسفل الحلقوم وفي الجزء الأمامي من العنق، وهي محاطة بغضاريف تحمل حبلين يسميان (الحبلين الصوتيين) وهما أقصر في النساء منهما في الرجال، وبينهما فتحة ضيقة لمرور الهواء منها، وفي أعلاها قطعة كاللسان تشبه الغطاء تسمى (لسان المزمار) تساعد على منع دخول أي شيء في الحنجرة أثناء البلع. والحبلان المذكوران هما اللذان يُحْدِثان الصوت؛ بسبب اهتزازهما إذا اندفع الهواء من بينهما، ويتنوع الصوت بمروره في تجويف الحلق والفم والأنف، والكلام عبارة عن تقطيع هذا الصوت المتولد من اهتزازهما؛ فيتقطع بالشفتين واللسان وغيرهما، وهذا الاهتزاز يحدث تماوجًا في الهواء [٩] يتصل إلى طبلة الأذن فيسمعه الإنسان. ونجد في أسفل الحنجرة القصبة الهوائية، وهي منفصلة عن المريء انفصالاً تامًّا، وتمتد من الفقرة الخامسة العنقية إلى نقطة أمام الفقرة الثالثة الظهرية، وهناك تنقسم إلى قسمين لكل رئة قسم، وهما الشعبتان. وكل شعبة منهما تمتد إلى الرئة، وتنقسم إلى عدة أقسام، وكل قسم إلى أقسام أخرى كالشجرة، إلى أن تنتهي بشعب صغيرة جدًّا، وهذه الشعب الصغيرة تنتهي بتجاويف صغيرة قمعية الشكل، وهي المسماة بالتجاويف القمعية، وفي حيطان هذه التجاويف أبواب للخلايا الهوائية، أو الحويصلات الرئوية، ومن هذه الأبواب ما يوصل إلى خلية واحدة، ومنها ما يوصل إلى عدة خلايا مجتمعة معًا وهو الأكثر. وجميع المجاري التنفسية مبطنة بغشاء مخاطي لخلاياه السطحية أهداب (ما عدا الحويصلات والتجاويف القمعية) تتحرك من أسفل إلى أعلى، ووظيفتها طرد ذرات التراب وغيره إلى الخارج، ومن التجاويف القمعية تتكون فصيصات الرئة. وصف الرئتين: الرئة اليسرى مكونة من جزأَيْنِ عظميين يسميان الفصين، واليمنى مكونة من ثلاثة فصوص كبيرة، وهذه الفصوص مركبة من الفصيصات المذكورة. وكل رئة مغطاة بغشاء مصلي يسمى (البليورا) كأنه كيس مختوم من جميع جهاته انبعج بدخول الرئة فيه؛ ولذلك يغطى سطحها بطبقة منه، والطبقة الأخرى تغطي الضلوع، والبليورا كلمة يونانية معناها الجنب. أما الدم فيصل إلى الرئتين بواسطة الشريان الرئوي الذي سبق ذكره، وهناك ينقسم الشريان إلى عدة فروع، حتى تصير شعرية، وهذه الأوعية الشعرية منتشرة في حيطان جميع الحويصلات الرئوية والتجاويف القمعية، وليست متصلة بالهواء، وإنما يصل إليها الأكسجين، ويخرج منها غاز ثاني أكسيد الفحم وغيرهما بطريقة الإندوسموز، والإكسوسموز، وقد سبق تفصيلهما (في صفحة ٢٤من هذا الكتاب) [**] فإذا انقطع ما بين الدم الذي في هذه الأوعية الشعرية والهواء حدث نزف رئوي. واعلم أن الرئتين في الصدر كأنهما في صندوق مغلق من جميع جهاته ما عدا فتحة واحدة وهي الحنجرة المتصلة بالفم والأنف، ولبيان كيفية حصول التنفس نقول: إذا فرض أن هذا الصندوق كان كيسًا من جلد أو نحوه، وشُدَّت جوانب هذا الكيس حتى اتسع تجويفه دخل الهواء بقوة الضغط الجوي؛ ليملأ هذا التجويف المستجد، فإذا حال بينه وبين إتمام غرضه شيء آخر تمدد أمام الهواء، وإلا انفجر، وهذا هو عين ما يحصل في الصدر؛ فإنه يتسع فيدخل الهواء إلى الرئتين فيمددهما في أثناء الزفير (وهو جذب الهواء إلى الصدر) فإذا انتهت حركة الزفير عادت الرئة إلى حجمها الأصلي بسبب مرونتها فخرج الهواء منها، ويسمى خروجه منها بالشهيق. كيفية تمدد الصدر واتساعه: اعلم أن الضلوع متصلة بالعمود الفقري من الخلف، ومتجه كل منها إلى الأمام والأسفل، فإذا انقبض ما بينها من العضلات ارتفعت هي والقفص؛ فاتسع بذلك تجويف الصدر من جميع جوانبه. وهناك عضلة شهيرة تفصل الصدر عن البطن تسمى (بالحجاب الحاجز) وهي مقعرة من أسفلها ومحدبة من أعلاها كالقبة. فإذا انقبضت هذه العضلة تحول تقعيرها إلى مسطح، ونزلت إلى البطن فضغطت على الأحشاء كالكبد والطحال والمعدة، وبذلك يتسع الصدر في قطره الرأسي. ومما تقدم يُفْهَم أن الصدر في التنفس يتسع من جميع جهاته بارتفاع الضلوع وبانخفاض الحجاب الحاجز فيضغط الهواء - كما قلنا - على الرئتين فيتسعان أمامه. فترى من هذا أن الرئتين لا تتسعان بنفسهما، بل بحركة الصدر، فإذا فُرض أن الصدر اخترق من أحد الجنبين مثلاً، بطل عمل رئة هذه الجهة لدخول الهواء من الخرق، فإذا اخترق الجنبان مات الشخص في الحال بانطباق الرئتين، وبطلان التنفس. وحركة التنفس هذه وإن كانت تابعة للإرادة، إلا أن لها أعصابًا تفعلها بدون إرادة الإنسان أو علمه، ومركز هذه الأعصاب هي (البصلة أو النخاع المستطيل) وهي الجزء الذي بين النخاع الشوكي والمخ، ويسمى هذا المركز بمركز الحياة، وتنبعث إليه منبهات في هذا المركز فتجري في الأعصاب المحركة لعضلات الصدر، ولذلك نرى أنه إذا صُب الماء البارد على الجسم اشتدت حركة التنفس، وكذلك إذا مس الهواء جسم الطفل المولود ابتدأ تنفسه. أما الذي يحمل مركز التنفس على العمل الدائم في الحالة الطبيعية فأمران: ١- حالة الدم، فإذا كثر أكسجينه استراح المركز من العمل، وإذا زاد في الدم غاز ثاني أكسيد الفحم تهيج المركز للعمل، وقيل: إن الذي يهيجه هو نقص الأكسجين من الدم، وهذا القول الأخير هو الراجح الآن عند علماء الفسيولوجيا. ٢- تمدد الرئتين بالهواء يحمل هذا المركز على إيقاف عمله؛ فترتخي العضلات، وارتخاء العضلات الذي يتبعه هبوط الرئتين يحمل المركز على العمل؛ فتنقبض عضلات التنفس وهلم جرّا. وهذا وما قبله هو السبب في حصول التنفس، ولو كان الإنسان نائمًا أو مخدرًا بالكلوروفورم أو غيره. ومما تقدم يُفهم معنى الحديث القائل: (ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً، فثلث لطعامه وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسه) . فإن امتلاء المعدة يعوق نزول الحجاب الحاجز، ويضغط عليه، وعلى القلب وبذلك يحصل عسر في التنفس، وضيق في الصدر، وخفقان في القلب. أما عدد مرات التنفس في الدقيقة الواحدة فيختلف من ١٤ إلى ١٨ مرة في الشبان، وحركة التنفس تختلف في الأطفال عنها في الرجال وفي النساء، ففي الأطفال يحصل تنفسهم على الأكثر بنزول الحجاب الحاجز؛ فيضغط على الأحشاء؛ وبذلك يرتفع البطن، ويسمى هذا الضرب من التنفس (بالتنفس البطني) ، أما في الرجال فأكثر حركة التنفس تُشاهد في الجزء الأسفل من الصدر مع بروز البطن أيضًا، وفي النساء تشاهد الحركة على الأكثر في الجزء العلوي من صدرهن. ويختلف أيضًا عدد مرات التنفس باختلاف الأعمار وبالراحة والتعب وبالصحة والمرض، فيكون في الصغار، وفي الحميات وغيرها أكثر، وكذا بعد التعب الجسماني أو الانفعال النفساني. (يتبع) ((يتبع بمقال تالٍ))