للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


قصة بقرة بني إسرائيل
ليس فيها معجزة

حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الغراء،
دام بقاه.
بعد السلام، رأيت فيما أوردتموه بالعدد الرابع من المجلة في تفسير قوله
تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (البقرة: ٧٣) تفسير الأستاذ الأكبر مولانا الشيخ محمد عبده أنه لم يستحسن
قول المفسرين الذين قالوا: إنهم ضربوا المقتول فعادت إليه الحياة، وقال: ضربني
أخي أو ابن أخي فلان إلى آخر ما قالوه، وقال: والآية ليست نصًّا في مجمله،
فكيف بتفصيله، والظاهر أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند
التنازع فيمن القاتل إذا وجد القتيل بين بلدين كما قدمنا ليعرف الجاني من غيره، فمَن
غمس يده في الدم وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برئ من الدم ومن لم يفعل ثبتت
عليه الجناية، ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء إلى آخره، على هذا ما
معنى استغراب بني إسرائيل الأمر بذبح البقرة كما تقدم في تفسير الأستاذ مع قوله:
(إنَّ ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء..) إلى آخره، وما الثمرة التي
نتجت من الضرب حتى أمر الله به، وما الذي منع الجاني من أن يغمس يده في الدم
حتى لا تثبت عليه الجناية؟ وقد سكت الأستاذ الإمام عن تفسير قوله تعالى:
{وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} (البقرة: ٧٣) فما معناه على هذا التأويل؟ فأرجوك أيها الأستاذ
الفاضل إرشادي إلى الحقيقة ودمتم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الإسكندرية
... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... مصطفى محمد الإسكندراني
(المنار)
وجه الاستغراب ظاهر، فإن الأمر بذبح بقرة لا علاقة له في بادي الرأي
بالفصل في قضية قتيل تنازع فيه طائفتان حتى كادت إحداهما توقع بالأخرى،
والظاهر أن هذه الواقعة كانت هي السبب الأول في اشتراع تلك الطريقة للفصل في
الدماء المتنازع فيها مثلها، وقد أشرنا إلى ذلك في تفسير الآيات. وأما الذي يمنع
الجاني من وضع يده في الدم، وتلاوة الدعوات فهو الإيمان والاعتقاد الذي يمنع
الجاني المؤمن من اليمين الكاذبة، فإن المؤمن إنما يُقْدِم على الجريمة ناسيًا أو مغلوبًا
بانفعال النفس ثم يرجع على نفسه باللائمة، ويصعب عليه أن يحلف بالله كاذبًا، وقد
كانت تلك الهيئة التي يأتيها بنو إسرائيل من اجتماع الشيوخ الأشراف ووضع أيديهم
في الدم وتلاوة الدعوات مؤثرة جدًّا حتى أن الجاني ليضطرب إذا أقدم عليها منكرًا
للحق وربما يظهر عليه الاضطراب، ولو كان شاكًّا في الدين. وكثيرًا ما يحتال
القضاة في كل زمان بالمؤثرات القولية والفعلية على حمل المجرمين على الإقرار
بجرائمهم فيقرون.
وأما تفسير {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} (البقرة: ٧٣) : فهو ظاهر، ولا أدري أكان
الأستاذ الإمام سكت عنه أم ذكره، ونسيته أنا أو ذهلت عنه لظهوره. السائل يعلم أن
لفظ الآيات يطلق على ما ينزله الله تعالى من الأحكام فتوهَّمه أن معنى (الآيات)
في هذا المقام (المعجزات) مبني على اعتقاده بأن هناك معجزة ظهرت، ومن
المصادرة أن يلزم من لم ير ذلك بأن يفسر الآيات هذا التفسير. وإننا نذكِّره بقرن
القرآن مثل هذا التعبير بآيات الأحكام الشرعية من سورة البقرة نفسها. قال تعالى
- بعد ذكر أحكام الصيام -: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (البقرة: ١٨٧) وقال - بعد بيان تحريم الخمر والميسر -:
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (البقرة: ٢١٩) وقال - بعد بيان
أحكام النساء في الطلاق وغيره -: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (البقرة: ٢٤٢) .