للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نساء المسلمين
تابع المحاورة الأولى بين فاطمة علية هانم كريمة جودت باشا
وبعض نساء الإفرنج
ذكرنا في آخر ما أوردناه في الجزء التاسع عشر أن مدام ف ... سألت مؤلفة
المحاورات عن رواتب الخدم، وكيفية انتخاب رئيستهن، وعن كيفية ابتياعهن،
ووعدنا بالجواب عن الأخير لفائدته، أما الانتخاب والراتب فأخبرتها أن ربة البيت
تختار أمهر الجواري وأذكاهن لرياسة الخدم، وأن سيدهن يعطيهن رواتب شهرية
زيادة على مؤنتهن، ويجهز الجارية التي تشب وتريد التزوج بجهاز لائق، وربما
اقترن هو بها، أما الابتياع فقد أجابت عنه بما كتبته وهو: (أن ثمن الجارية يُدفع
للبائع فلا تستفيد هي منه؛ وإنما هو لسيدها الأول أو أقاربها، والدين الإسلامي
جعل للجواري علينا حقًّا يجب أداؤه، ولذلك نكافئهن بما علمت) .
(ف..: يظهر أن الجواري من نوع الخوادم.
أنا: نعم إنهن يشبهن اللواتي يخدمن بالمشاهرة أو المسانهة؛ وإنما تكون
الخادمة بأجرة معينة إلى أجل محدود؛ لأن الإجارة تكون فاسدة مع الجهل بالأجرة
أو مدة العمل، وأما الجارية فإن مدة خدمتها غير معلومة، وكذلك ما ينفق عليها في
أثنائها فهي شبيهة بالإجارة الفاسدة؛ ولكن التعامل جرى بهذا وما ينفق عليها يكون
بحسب سعة سيدها وصدقها في الخدمة، فهي قيمة تعرف بالعُرْف والعادة المتبعة،
والشريعة توجب علينا عتق الجارية بعد تسع سنين في حال السعة وبيعها في حال
الحاجة من ذي مروءة يعتقها [١] ، على أن العرف والعادة قضيا بالعاب والذام على
الذين يمسكون الجواري بعد سبع سنين ولا يعتقونهن.
أما أهل المروءة والدين من ذوي البيوتات فلا يمسكون الجارية أكثر من سبع
سنين؛ لأن في الدين أسبابًا كثيرة تقضي بعتق الرقيق، فمن ذلك أن من يقول: إذا
أصبت كذا فعلي أن أعتق عبدًا، فيصيب ذلك، يجب عليه العتق وفاء بالنذر، ومن
الناس من تصيبه النعمة فيعتق قيامًا بفضيلة الشكر، ومن ذلك أن من أفسد صوم
يوم واحد من رمضان وجب عليه أن يعتق عبدًا إذا قدر، فإن لم يستطع فعليه أن
يصوم شهرين متتابعين - وفي كلامها ٦١ يومًا - ومن العادات المتبعة عندنا أن
الجارية التي تخدم الطفل الصغير يعتقها سيدها في اليوم الذي يُرسل فيه ذلك الولد
إلى المدرسة، وأكثر الصغار يرسلون في السنة الرابعة، فكأن مدة رق المربيات
أربع سنين.
ف: ما أحسن ما تقولين إلا أن الخادمة تخدم حيث تشاء، والجارية مكرهة
على البقاء في منزل سيدها وإن كان ظالمًا.
أنا: إن تبرمت الجارية من منزل وأرادت تركه يكفي في ذلك أن تقول
بيعوني فيجاب طلبها، وقد جرت العادة بأن لا تُباع لمن لا يلائمها، وأما الشرع
فإنه أوصى بالأرقاء وحسن معاملتهم، وحرَّم الظلم والجفاء، فمن ظلم رقيقه فالحاكم
الشرعي يجازيه بما تفرضه العدالة متى وصل الأمر إليه.
ف: يستفاد من هذا أنه لا فرق بين الجواري والخوادم.
أنا: كلا إنه ليس للخوادم علينا من الحقوق مثلما للجواري، فليس للخادمة إلا
أجرها الشهري، وإذا استغنينا عنها نأذن لها بأن تذهب حيث تشاء، وهي التي تُعِدُّ
لنفسها الجهاز إذا أرادت الزواج، وإذا فارقها زوجها فلسنا مكلفين بها، فهي التي
تبحث لنفسها عن منزل تخدم فيه لتعيش، والجارية التي يفارقها زوجها تعود إلى
دار سيدها كأنه بيت أبيها، وهو يختار لها الزوج الملائم كما أنه يتولى أمر أولادها
ويربيهم ويعلمهم، ومن يظلمها زوجها ترجع إلى سيدها ليدافع عنها وينصرها،
وإذا توفي زوجها ولم يترك لها ما يكفيها ترجع بأولادها إلى بيت سيدها كهذه
الجارية التي ترينها من الكَوّ (النافذة الكبيرة) آخذة بيد ولدها الصغير طائفة به في
فناء الدار، وكفالة المعتوق إذا عجز عن القيام بأمر نفسه واجبة شرعًا على سيده
يُلزمه بها القاضي إذا هو امتنع، وفي مقابلة هذا إذا مات العتيق عن مال يكون
للمعتق نصيب منه فهو إذن معدود من أهل البيت وأفراد الأسرة - فات الكاتبة أن
تذكر هنا حديث: (مولى القوم منهم) والمولى: العتيق، ويُطلق على السيد وهو
الأصل - وإننا فوق هذا كله نأتمن الجواري على مفاتيح صناديقنا ولا نأتمن الخوادم
إلى هذا الحد؛ لأن شدة صلة الجارية بسيدها تمنعها من الخيانة كما لا يخون الأولاد
والديهم إلا نادرًا، ولهذه العناية لم يتفق أن جارية أَبَقَتْ تاركة كنف سيدها ولجأت
إلى أهلها، مع أنهن مطلقات السراح يذهبن حيث شئن.
مدام ف..: لا جرم أن هذا لنفورها من أهلها الذين باعوها.
أنا: عفوًا أيتها المدام فإن سمحت أنبأتك بالحقيقة.
ف..: عجبًا تستأذنين في شيء أنا أرجو بيانه بكل رغبة؛ فإن ما سمعته
منك في الأرقاء يباين ما كنت أعلمه من كل وجه، فأرجوك أيتها السيدة مواصلة
الحديث.
أنا: إذا وُلد للجراكسة بنت جميلة ينوّمونها بالهمهمة والتغريد، وأغانيهم
لهؤلاء البنات مشتملة على ذكر مستقبلهن في الآستانة كقولهم (إنك ستكونين في
الآستانة زوجة لأحد الباشوات فلا تنسي الأهل والأقربين) كطريقة الإفرنج في ذلك
إذ يُسمعون أطفالهم لقب (جنرال ومارشال) لينشئوهم على حب الجندية، ومتى
صارت البنت الجركسية تفهم القول يملأون سمعها بذكر سعادة عمتها وخالتها في
الآستانة فيشتغل خيالها بذلك، ويكون قلبها متعلقًا بقرب يوم السعادة الموعود حتى
إذا قاربت الإعصار أو الإرهاق، وصارت تستحي من الكلام مع والديها بذلك
تكاشف به والدتها وأترابها شاكية من إرجاء إرسالها إلى الآستانة، فكل من البنت
والوالدين ينتظر ذلك اليوم الذي يظفرون فيه بخاطب لا يكلفهم نفقة ولا جهازًا، بل
هو الذي يمطر على تلك الغادة الحلي والجواهر، ويغمرها بالسعادة والنعيم،
فتفيض على أهلها من فضل نعمتها ما تفيض، فهي تنفصل منهم ببسالة وشهامة
ولسان حالها يقول بعزة وصلف: (إنني لا أحملكم عناء في اختيار زوج لي؛ فإن
جمالي البارع الذي أراه في المرآة هو الذي يختار لي، وسترون كيف أكافئكم على
عنايتكم بي إلى أن بلغت هذا الطول) وظاهر أيتها المدام أنهم إذا لم يرسلوها إلى
الآستانة؛ فإنها تكون لهم عدوًّا وحزنًا.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))