للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


(الدرس ٣٣)

عصمة الأنبياء عليهم السلام
(المسألة ٨٦) الدليل العقليّ على عصمة الأنبياء:
يؤخذ الدليل على عصمة الأنبياء من وجه الحاجة إليهم في الكمال الإنساني،
ومن وظائفهم المنطبقة على وجه الحاجة إليهم. وقد تقدم الكلام في ذلك، ومنه أن
الوظائف خمس وهي نوعان: نوع في بيان الاعتقادات التي ترقي العقل وتعتقه
من رق العبودية لمظاهر الطبيعة التي خلق مستعدًّا لتسخيرها والتصرف فيها فجنت
عليه الوثنية فسخرته لعبادة كل مظهر منها لا يعرف علته ولا يحيط بحكمته.
ونوع في تهذيب النفس وتزكيتها بالأخلاق الفاضلة والأعمال النافعة. ولا
يرتقي النوع الإنساني إلا بمجموع ما يندرج في هذين النوعين من التكاليف وبارتقائه
يكون خليفة الله تعالى في الأرض، وتلك غاية سعادته في هذه الحياة الدنيا التي
تستتبع سعادته في الحياة الآخرة الباقية التي جعلت هذه الحياة مزرعة لها كما ورد.
وبديهي أن العمدة في بيان النوع الأول صدق الخبر بحيث لا يحوم حوله
الشك والريب. والعمدة في الثاني صدق الخبر كذلك مع حسن الأسوة وصحة القدوة
بالمخبر؛ لأنه تربية وإنما التربية بالقدوة، والتعليم القولي مساعد للتأسي وأثره. ولا
تحصل الثقة القطعية بصدق الخبر إلا إذا كان المخبر معصومًا من الكذب والخطأ
في التبليغ. ولا تتم القدوة وتحسن الأسوة إلا إذا كان الإمام المقتدى به بريئًا من
النقائص، منتهيًا عما ينهى عنه، مؤتمرًا بما يأمر به، متخلقًا بما يرغب في التخلق
به إذًا لا تتم حكمة الله تعالى في إرسال الرسل إلا إذا كانوا بحيث ذكرنا من الصدق
والنزاهة.
والحكمة واجبة لله تعالى فوجب أن يكون الأنبياء المبلغون عنه سبحانه صادقين
معصومين {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: ٦) ولا يلزم من هذا إيجاب شيء على الله تعالى فيكون حجة للمعتزلة وإنما هو إيجاب الحكمة له كإيجاب العلم والقدرة.
***
(م ٨٧) الدليل النقلي على عصمتهم:
إن الله تعالى ما أرسل المرسلين إلا ليُتبعوا ويُقتدى بهم، وقد أمر باتباعهم
كقوله في خاتمهم عليه السلام: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: ١٥٨) فلو كانوا يخالفون ما يجيئون
به من الهدى لكان الله تعالى آمرًا بالشيء ناهيًا عنه في آنٍ واحد، وهو مُحال على
الله تعالى، ولو فعلوا الفاحشة لكان الله آمرًا بها من حيث أمر باتباعهم أمر تشريع
وأمر بالتأسي بالعظماء أمر تكوين بأن أودع ذلك في فطرة الإنسان. وقد قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (الأعراف: ٢٨) على أن الطاعة هي ما أمر الله
تعالى به فلو فُرض أن المرسلين يرتكبون المعاصي لكان معنى ذلك أن الطاعات
هي من المعاصي كما قال السنوسي في الكبرى وذلك تناقض لا يقول به عاقل.
وهذا الاستدلال لا يصح على أصول أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويجب أن
يكون أصلاً يرجع إليه جميع الأدلة التي يثبت هو بها فيكون ناقضًا لنفسه.
***
(م ٨٨) الشبه على العصمة:
يقولون: ورد في القرآن إثبات الذنوب للأنبياء والمرسلين إجمالاً
وتفصيلاً.
أما الإجمال فكقوله تعالى {لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح: ٢) وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (غافر: ٥٥) وقوله عز وجل:
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} (النصر: ٣) وأما التفصيل فكقوله: {وَعَصَى آدَمُ
رَبَّهُ فَغَوَى} (طه: ١٢١) وكقصة داود وسليمان عليهما السلام وكقصة إخوة
يوسف، ونحن نجيب عن ذلك بالتفصيل.
***
(م ٨٩) مغفرة الذنوب:
علمنا مما تقدم أن معنى عصمة الأنبياء في النوع الثاني (العملي) هو
نزاهتهم وبعدهم عن ارتكاب الفواحش والمنكرات التي بعثوا لتزكية الناس منها لئلا
يكونوا قدوة سيئة مفسدين للأخلاق والآداب وحجة للسفهاء على انتهاك حرمات
الشرائع. وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الضعف البشري من
التقصير في القيام بحقوق الله تعالى على الوجه الأكمل، ومن الخطأ في الاجتهاد
ببعض المصالح والمنافع ودرء المضار. كلا إن الإنسان خلق ضعيفًا، وما أوتي
من العلم إلا قليلاً، ولا يمكن أن يحيط بوجوده المصالح والمنافع ودرء المضار
والمفاسد إلا من هو بكل شيء عليم، ومن ليس له هذه الإحاطة قد يخطئ في اجتهاده
فيعمل العمل وهو يعتقد أنه الصواب والخير فيجيء بخلاف ذلك - ومثل هذا يسمى
ذنبًا من الكامل والمقرّب؛ لأن الإنسان مستعد لإدراك الصواب في تلك المسألة التي
أخطأ فيها، فإذا وقع عَرَضًا من الأنبياء يعاتبهم الله تعالى عليه ويغفره لهم ويأمرهم
بتبليغ ذلك لأمتهم؛ ليعرفوا الفرق بين الرب والعبد فلا يفضي بهم الغلوّ بتعظيم
أنبيائهم والإعجاب بفضائلهم ونزاهتهم إلى عبادتهم مع الله تعالى-.
ومن أمثلة ذلك اجتهاد نبينا صلى الله عليه وسلم في استمالة رؤساء
قومه وأغنيائهم إلى الإيمان الذي أدّاه إلى الإعراض عن ابن أمّ مكتوم لما جاءه يسأله
أن يعلمّه مما علّمه الله وكان يدعو صناديد قريش، فإنه كره أن يشتغل به عنهم لئلا
ينفّرهم، ولا يخفى أن أولئك النفر من كبارهم هم الذين كانوا يحادّون النبي ويناصبونه
ولو آمنوا أولاً لتبعهم سائر قريش، فهذا هو وجه اجتهاده صلى الله عليه وسلم في
العناية بهم والإعراض عن الأعمى إذ جاء يشغله عنهم.
فعاتبه الله تعالى على ذلك وردعه عنه بالقول الشديد كقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ
لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} (عبس: ٣) ، فلَْتُتْلَ الآيات في أول سورة (عبس) وذلك أن سنة
الله تعالى مضت في أن الأديان تقوم بالدعوة والاقتناع والرؤساء والمترفون أبعد
الناس عن معرفة الحق وعن الخضوع له إذا عرفوه، وقد جاء في هذا المعنى آيات.
ومن الأمثلة أيضًا عتابه في مسألة زيد وزينب (فلتراجع في ص ٦٣٠
و٧١٤ من المجلد الثالث) . ومنها: إذنه صلى الله تعالى عليه وسلم للذين استأذنوه
في التخلّف يوم الخروج إلى تبوك، وقد عاتبه الله تعالى على ذلك ألطف عتاب بقوله:
{عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} (التوبة: ٤٣) الآية. فكان الأولى أن لا يأذن
ليعلم الكاذب المنافق، من المؤمن الصادق، ومنها مسألة أخذ الفداء من أسرى بدر
اجتهد صلى الله عليه وسلم وشاور فاختلف أصحابه فوافق رأيه رأي أبي بكر بأخذ
الفداء فعاتبه الله تعالى عتابًا شديدًا حتى بكى وبكى أبو بكر، وذلك قوله تعالى: {مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ
يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} (الأنفال: ٦٧-٦٨) قال البيضاوي في تفسيره: والآية دليل على أن
الأنبياء يجتهدون وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يُقَرُّون عليه.
فهذه هي ذنوب الأنبياء وهم يستغفرون منها، وهي مغفورة لهم بفضل الله
تعالى لأنهم لم يريدوا إلا الخير والنفع وليس فيها قدوة سيئة، وإنما فيها فائدة
معرفة الناس أن النبي وإنْ جلّ قدره وعلت نفسه فهو بشر مثلهم ميزه الله تعالى
بالوحي وجعله إمامًا في الخير، وأنه على هذه الخصوصية يعاتب وينسب إليه
الذنب والتقصير، ويمنحه الله المغفرة دلالة على أن له أن يغفر له وله أن يعاقبه {قُلْ
فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ
جَمِيعا} (المائدة: ١٧) وعلى أنَّ توقع نزول العقوبة بأصحاب المعاصي التي تنتهك
فيها الشرائع ويخالف الدين عمدًا - وهو ما لا يقع من الأنبياء - أقرب، وأنهم أولى
بالخوف منه وأجدر بالتوبة. وأن الكمال المطلق لله تعالى وحده فلا رب غيره ولا
معبود سواه.
((يتبع بمقال تالٍ))