(مدرسة الشوربجي في كفر الزيات) الناس معادن والاستعداد للخير يظهر أحيانًا في أفراد لا يهتدي أحد من الناس إلى السر في ظهوره فيهم؛ لأنهم لم يمتازوا في تربيتهم امتيازًا يرفعهم عن قومهم فيسند إلى تلك التربية ما يندفعون إلى القيام به في الأعمال النافعة والمشروعات العامة. وإنما بتعلل علماء النفس والأخلاق في التعليل بأن ذلك الاستعداد جاء من الوراثة لأحد الأجداد السابقين وَفَاتَهُم أن لله في بعض البشر عناية أزلية، وفي بعض القلوب إلهامات خفية، وليس هذا وذاك من الشذوذ عن النواميس الفطرية ولكنه غير معروف بالتحقيق والتعليل الصحيح عند علماء النفس. مصطفى بك الشوربجي تربى في الحقول والمزارع لا في المكاتب والمدارس، وهو لا يقرأ الكتب والجرائد التي تُرغّب في إنشاء المدارس والمستشفيات، وقد وفق من سنين إلى إنشاء مستشفى ومدرسة للبنين والبنات في بلده (بمديرية البحيرة) وأوقف عليهما من الأرض ما يفي ريعه بنفقتهما ثم إنه لما صار يتردد إلى بلدة كفر الزيات (بمديرية الغربية) لمعاهدة أراض اشتراها فيها ورأى أنه ليس فيها مدرسة للمسلمين شرع في بناء مدرسة للبنين والبنات فيها وبناء بيوت بجانبها توقف عليها. وكان يوم الجمعة الماضي يوم الاحتفال بالتأسيس، وكان رئيس الاحتفال عدلي باشا يَكَن مدير الغربية حضره كثير من الوجهاء والفضلاء. وبعد أن وضع المدير الحجر الأول الأساس على الطريقة الأوربية الجديدة دعي كاتب هذه السطور إلى الخطابة فقام وقال ما فتح الله به من بيان حسنات العلم ومنافعه في الزراعة والصناعة والتجارة وكل أعمال الحياة الاجتماعية لا سيما جمع كلمة الأمة وتوحيد مصالحها ومنافعها الذي يتحقق به معنى الإنسانية، ثم بيان أن نشر العلم الذي له هذا الشأن في الحياة هو أفضل الفضائل على الإطلاق حتى إن إنشاء المدارس وبيان أن جميع طبقات البشر متقاربون في اللذات الحسية وإن أوهمت المظاهر الصورة خلاف ذلك فلم يبق من فائدة للاستزادة من جمع المال إلا الشرف، وكان في أيام الجهل محصورًا في الاتفاق على احتفالات الأعراض والمآثم ونحوه ولكن أهل هذا العصر لا يرون الشرف إلا في العلم والسعي في نشره والقيام بثمراته فينفع الناس، فعلى من يريد أن يكون شريفًا عزيزًا في الدنيا أن يسعى في إنشاء المدارس، وعلى من يريد أن يكون سعيدًا في الآخرة أن يسعى في ذلك أيضًا. ثم نبهتُ بعد هذا على إقبال القبط على تعميم التعليم وسَبْقهِمُ المسلمين فيه مبينًا أن العلم هو القوة الكبرى فإذا وجدت في فريق من الأمة دون آخر يرى الفريق العالم أنه الأحق بالسيادة والرفعة وينشأ عن ذلك التنازع والتغابن بينه وبين الفريق الجاهل فإذا كان هذا على نسبة قريبة منه في العدد والثروة يسرع إليه الغلب والتلاشي ويسود العلم على الجهل سريعًا كما يرشد إليه قوله تعالى: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: ١٠٥) أي: الذين يصلحون لعمارتها، والعمل بسنن الله في ترقيتها. وإذا كان للفريق الجاهل قوة من العدد والمال يكون النازع شديدًا، وخراب البلاد وشيكًا، والنتيجة أن خير البلاد في أن يكون أهلها متفقين على غمرانها ولينفقوا في العمل حتى ينفقوا في العلم بالمصلحة. وذكرت أيضًا العلم النافع وأنه ما يصلح العمل للدنيا أو الدين أو ما يصلح الاعتقاد ويقوّم الفكر. ثم ختمتُ القول بحث وجهاء الغربية الحاضرين على مجاراة وجهاء المنوفية في إنشاء المدارس وعلقت الرجاء بسعادة مدير الغربية وسعيه وبالله التوفيق، ثم قام إبراهيم بك الهلباوي المحامي الشهير فألقى خطابًا مفيدًا بيّن فيه أن العلم كان حلية وزينة في الزمن الماضي وصار ضروريًّا للحياة في هذا الزمن. وإن كانوا يمتازون بالسجايا الفطرية فصاروا يمتازون بالمعارف الكسبية، ولذلك صار العلم حياة حقيقية والجهل موتًا حقيقيًّا وضرب المثل بهنود أمريكا الذين انقرضوا؛ لأنهم لم يقدروا أن يعيشوا بجهلهم مع المستعمرين العالمين إلى غير ذلك من الفوائد التي اشتهرت بتنويه المؤيد بها. وقد ضم الخطيب صوته إلى صوتي في تعليق الرجاء بالمدير. ثم قام جندي أفندي إبراهيم صاحب جريدة الوطن الغراء فألقى خطابًا قال فيه: إن الذي حمله عليه هو ما قاله الخطيب الأول (صاحب المنار) في النسبة بين المسلمين والقبط، وقال: إنه موافق في القول وشاكر عليه. ثم ذكر بمآثر المصريين مشيدي الأهرام وذكر أن السبب في سبق القبط المسلمين في التعليم هو العناية بتعليم البنات وأطال في بيان فائدة تعليمهن فجعله أهم من تعليم الذكور. وكان من محاسن الاحتفال حضور بعض التلامذة والتلميذات من مدرسة الشوربجي في البحيرة فخطبوا وأنشدوا الأناشيد في مدح العلم ومؤسس المدرسة، ثم انصرف الناس داعين شاكرين. *** (المستقبل للإسلام) شغلنا معظم هذا الجزء بهذه الرسالة الجليلة ليحيط القراء بفوائدها مرة واحدة. وإذا كان هذا رأي شيخ عامة المسلمين في القطر وهم الصوفية وما تقدم في مقالات (الإسلام والنصرانية) هو رأي شيخ خواصهم من العلماء والكتاب. وقد اتفقا وبرهنا على أن المستقبل للإسلام والعاقبة للمتقين فلم يبق عذر للمسلمين في تقدير القول قدره، والعمل في تحقيق حسن العاقبة.