للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نهضة آسيوية

كتب المستشرق المجري (فامباري) الأستاذ في جامعة (بودابست) [١] في
مجلة القرن التاسع عشر في عدد إبريل (نيسان) من هذه السنة بحثًا مسهبًا تحت
عنوان (المسلمون والبوذيون) طعن فيه بالنهضة الآسيوية عمومًا وبالحركة
الإسلامية خصوصًا وهو الذي كتب مقالات ضافية في مجلة القرن التاسع عشر هذه
على إثر خلع السلطان عبد الحميد بسط فيها آراءه في ذلك الخليع وفي رجال الدولة
العثمانية كافة، وتوسع في نقد عادات الأتراك وسلاطينهم وطعن بهم وبوزرائهم
أقبح طعن، ونسب إلى السلطان عبد الحميد الجهل والتعصب وفساد الأخلاق وسوء
التربية ومما قاله عن سعيد باشا الصدر السابق أنه كالثعلب آية في الاحتيال
والمخادعة.
وقد كانت عربت جريدة (الأفكار) التي تصدر في البرازيل مقاله هذا في حينه،
وعلقت عليه تعليقًا وصفت فيه ذبذبة هذا الرجل الطائر الصيت وذكرت غشه
وخداعه وتناقضه، وقالت فيه مجلة (المقتطف) وقتئذ: إن عمل الأستاذ هذا مُحط
بقدر العلم ومخل بشرف العلماء.
وقالت (الأفكار) في عدد ٦٢٨ الذي نلخص عنه هذه المقدمة ونتبعها بنقل مقالته
الآنفة الذكر عنها - قالت:
(أمامنا الآن مثال آخر على رياء ذلك المستشرق وخداعه الرأي العام،
ونعني طعنه الحاضر بالنهضة الآسيوية عمومًا والحركة الإسلامية خصوصًا، وهو
الذي كان سابقًا يؤيد المسلمين ويتظاهر بمصادقة عموم الآسيويين قائلاً بوجوب
مساعدة زعمائهم المفكرين ورجالهم الناهضين. فما باله الآن يكتب قائلاً: (اقطعوا
البرعم قبل أن يزهر ويثمر) اهـ.
الحق أن أمثال هذا المستشرق في السياسيين والدينيين كثير في أوروبة،
ولكن قلَّ أن يوجد مثله في رجال العلم بمخادعته وتناقضه.
على أن ذنب الشرقيين عمومًا والمسلمين خصوصًا الوحيد أمام أوروبة
السياسية والدينية هو أننا نريد أن نحيا، فنحن مؤاخذون بهذا الذنب، ولو لم يصل
إلى حيز الفعل بل قبل أن نعد وسائله، فالويل لآسية من يوم عصيب إذا لم تنهض
نهضة المستميت وتتدارك ما فات من التقصير، وإلا فإنها واقعة في حبائل أوروبة
الاستعمارية لا محالة وهذه هي مقالة (فامباري) وفيها مثال واضح من حب الإنسانية
وخير البشر! ! العبرة لمن يعتبر قال:
***
المسلمون والبوذيون
العجم، وطرابلس الغرب، ومراكش
(ثلاثة مراكز إسلامية هوجمت بوقت واحد. فما هو سبب هذا الهجوم يا
تُرى؟ أَعَارِضٌ فُجائي هو أم ضربة سياسية مدبرة؟ بالحقيقة، إن الصليب لم
يضرب الهلال ضربة أشد من هذه الضربة الحاضرة، ولم يقتحم خطرًا شبيهًا
بالخطر الحالي.
كان الغرب منذ مئات من السنين يحارب الشرق حروبًا طبيعية لا مفر منها
وصار الشرق مغلوبًا من بدء القرن التاسع عشر وما برح مغلوبًا حتى الآن
والمسلمون يزيدون جهلاً وفقرًا وذلاًّ مما أطمع بهم الأعداء. ورغمًا من قيام عدد من
المفكرين فيهم فإن السواد الأعظم عندهم مازال حتى الآن غارقًا في بحار الجهل
والأوهام ومصابًا بداء الفقر العضال مما حمل الناهضين منهم على اليأس، فقطعوا
الرجاء من الإصلاح، وجلسوا بحياء ممزوج بامتعاض وغضب على مجالس
الأوروبي يتعلمون منه مبادئ العلوم العصرية، وهم على جانب عظيم من الذكاء
والمهارة. ولكن الأمم كالأفراد؛ لأنها مجموعة أفراد. والفرد لا يتغير فجأة بل
عليه أن يطرح الثوب العتيق، ويؤهل ذاته لِلُبْسِ ثَوْب جديد يليق بالهيئة الحديثة.
والمسلمون عمومًا يصعب بل يتعذر عليهم التحول الفجائي؛ لأن عليهم أولاً نبذ
اعتقادات وعادات قديمة، ومِنْ ثَمَّ تَهْيِئة ذواتهم وتكييف طباعهم لِقَبُول تعاليم جديدة
وأوروبة ترى هذه المحاولة من جانب المسلمين منذ مئة سنة وشعوبها تقف
متفرجة مسرورة من ذلك النهوض في الأمم الشرقية، ولكن الحكومات تقف مذعورة
منها فتضع العراقيل، وَتَزِيد الصعوبات، وكأنها تقول: يا شرق! ابق خاملاً جامدًا
فقيرًا إلى ما شاء الله.
تقف حكومات أوروبة مذعورة تجاه نهضة الشرق هذه، فتعد المعدات السرية
لخنقها وهي تتظاهر بوجوب حفظ الأمن في تلك الأماكن الناهضة أو بوجوب
تمدينها وحمايتها. والصحيح هو أن أوروبة لا يهمها من التمدين ولا من شيء، بل
همها الوحيد هو مثلث الأركان، أي امتلاك واستعمار بلاد جديدة أولاً. وفتح أسواق
جديدة لمصنوعاتها ثانيًا. ومد نفوذها الأدبي وسطوتها السياسية ثالثًا. ولولا تحاسدُ
الدول الأوربية ووقوف بعضها بالمرصاد للبعض الآخر لكانت آسية في قبضة
أوربة منذ مئة سنة.
وقد نجح بعض دول أوروبة فتحين فرصًا مناسبةً، وقبض بيد من حديد على
قليل من تلك الأملاك الآسيوية السائبة فامتلكها أو احتلها أو استعمرها. ولما تقوى
البعض الآخر من دول أوروبة، ورأى أن تلك الغنيمة على وشك الفرار من يده
فيما إذا صبر حتى يتحين فرصة -قد لا تجيء مطلقًا- قام فوثب بَغْتَةً على
أملاك إسلامية من دون حجة ظاهرة أو عذر مقبول قائلاً بلسان حاله: إنكم
أيها المستعمرون السابقون الْتَهَمْتُمْ كثيرًا فاتركوا لغيركم شيئًا من الفريسة المعدة
للاقتسام. هذه هي الأسباب الحقيقية لغزوة العجم وطرابلس الغرب ومراكش ولا
صحة لما تتبجح به أوربة قائلة: إن العالم الإسلامي بربري همجي وليس فيه شيء
من الأمن والنظام، وعلينا تمدينه وحفظ الأمن فيه.
بَيْدَ أننا لسوء الحظ لا نقدر على إنكار شيء من هذه الحجج، وأعني وجود
خلل في الأمن والنظام ووجود الجهل والتأخر في مراكش كما في العجم وطرابلس
الغرب. ففي مراكش أراضٍ خصبة ومعادن كثيرة ولكن سكانها لا يعرفون كيف
يستثمرونها ولا خلاف في أن دولة متمدنة مثل فرنسة تعرف كيف تنفع وتنتفع من
هذه الخيرات الطبيعية الجزيلة في بلاد المغرب. وفي طرابلس الغرب أيضًا كان
الجهل والفقر ضاربين أطنابهما، ولكن هذا مهما كانت حقيقته واضحة فإن الرأي
العام لم يبرر عمل إيطالية بغزوتها تلك الولاية العثمانية، بل أجمع على تقبيحه
فدعا عمل إيطالية قَرصنة وخيانة وخرقًا لحرمة المعاهدات الدولية واعتداء على
حقوق الأمم الضعيفة والمستضعفة.
قد كان بالإمكان إسعاد حالة الطرابلسيين تحت حكم تركية الدستورية الجديدة،
ولكن من الواضح أن حالة تركية الاقتصادية والسياسية لا تؤهلها لترقية تلك الولاية
بالسرعة المطلوبة كما هو المأمول من دولة أوروبية مثل إيطالية (قالت الأفكار من
هنا بدأ الأستاذ بالتحيز الأعمى إلى جانب أوربة) وإذا راجعنا التاريخ نعلم أن
حالة إفريقية الشمالية كلها كانت على زمن الرومانيين القدماء أفضل بكثير مما هي
اليوم على زمن الحكم الإسلامي فيها.
وأينما سرت في شمالي إفريقية من مصر شرقًا إلى مراكش غربًا ترى
الخراب والدمار وسائر نتائج الإهمال والفساد. وعند ذلك لا بُدَّ لنا من أن نتساءل
قائلين: ألم يحن الوقت للقضاء على تعصب العرب وبربريتهم قضاءً مبرمًا وسريعًا
حتى نستريح من عوامل التخريب هذه؟
وماذا نقول عن العجم أيضًا؟ كان الأعجام فيما مضى آيةً في الحذق والفطنة
فصاروا في القرون الأخيرة على غاية من الانحطاط والفقر؛ بسبب فساد حكومتهم
وجهل حكامهم. وحيثما سرت في بلاد فارس ترى الفوضى والقلاقل والثورات.
ولا هَمَّ للحكام إلا مشاركة اللصوص وقطاع الطرق بابتزاز أموال الناس وإزهاق
أرواح العباد. وإنني لا أزال أرتجف حنقًا من ألم الذكرى التي طبعت في مُخَيِّلَتِي
بعدما سِحت في بلاد فارس , ورأيت فيها من الفظائع ما تقشعر منه الأبدان. وها
إن (ملكوم) خان سفير العجم سابقًا في باريز وإبراهيم بك الفارسي كتبَا ما يؤيد ما أنا
بصدده الآن من فساد الحكام وجهل الرعية , وهدم كل مباني العدالة والرقي في تلك
الديار الخصيبة الواسعة.
أليس من العدل إذن أن تُغير أوربة على بلاد مختلة معتلة كهذه؟ فمجرد
وجود دولة أوربية في بلاد فارس كافٍ لوجود الأمن والنظام فيها وَلِجَعْلِ أهليها
يتنشقون هواء الحرية , فينهضون من سُبَاتهم العميق , ويزيحون من أمام تقدمهم
وإسعادهم كل عثرة كالتعصب الديني الذي كان وما برح عندهم من أكبر عوائق
التمدين والترقي. وحكومات أوروبة العالمة هذه الأمور صار لها نحوًا من مئة سنة,
تسعى للدخول إلى الممالك الإسلامية تدريجًا ونزع استقلالها. وهكذا أصبحت كل
البلدان الإسلامية تحت رحمة أوروبة , ولا أستثني منها الحكومة العثمانية أيضًا؛
لأن الامتيازات الأجنبية الموجودة في تركية هي وحدها كافية للدلالة على أن تركية
مغلولة الأيدي , وتحت مطلق تصرف الدول , وليس استقلالها إلا اسميًّا ظاهريًّا.
وأمير الأفغان , ولئن كان متمتعًا الآن بلقب (صاحب الجلالة) ولكنه هو
ذاته أدرى من الغير بأن إنكلترة لم تدعه يتلذذ بهذا اللقب إلا من باب المجاملات
السطحية التي لا معنى حقيقيًّا لها على الإطلاق.
دَرى المسلمون هذه الحقائق فشرع المتنورون منهم يرفضون التمدن
الأوربي الذي أدخلته إليهم الدول بحد السيف , ويقولون: إنهم يؤثرون الاستبداد
والظلم والفساد الوطني على التمدن والنظام والعدل الإفرنجيّ وها إن أفضل
المفكرين منهم وخصوصًا الأتراك جهروا بأفضلية حكم وطني - ولو كان أقبحَ من
حكم عبد الحميد - على الحكم الأوربي مهما كان حسنًا نافعًا.
وخطة الأتراك هذه معقولة؛ لأنهم وهم عنصر قليل في الأمة العثمانية قاموا,
فنادوا بالجامعة الوطنية , ولا يسعهم إلا الضرب على وتر الدين الحساس أولاً حتى
يتقووا بانضمام المسلمين العرب والأكراد إليهم. والعرب الذين حكموا العالم قرونًا
عديدة باسم الدين الإسلامي يعسر عليهم الاقتناع بوجوب نبذ الجامعة الدينية جانبًا ما
لم تجبرهم أوروبة على ذلك الإقناع بحد السيف وقنابل المدفع.
***
نهضة عامة في كل آسيا
(ولما دَرى عقلاء المسلمين عِظم الصعوبات التي أمامهم قاموا أخيرًا يفتشون
على مخرج لهم من ذلك المأزق الضيق الذي وضعتهم أوروبة فيه. وظهرت بوادر
شروره عليهم في الآونة الأخيرة باكتساح العجم وطرابلس الغرب ومراكش ,
ومضايقة حزب تركية الفتاة لدرجة متناهية , فالتجأوا إلى الجامعة الشرقية الوطنية,
وهكذا اضطر المسلمون آخرًا إلى مصافاة أعدائهم السابقين , وإلى الاتحاد مع أبناء
آسيا عمومًا ناسين الأحقاد القديمة , ونابذين الضغائن السالفة التي كانت السبب
الأكبر في تضعضع الشرق وضعف الشرقيين. وأول مظهر من هذه المظاهر
السياسية كان اتحاد المسلمين مع البوذيين في بلاد الهند.
إن الدين المحمدي يقسم الناس إلى قسمين: المجوس , وأهل الكتاب. فأهل
الكتاب بِعُرْفِهِ هم النصارى واليهود , وهؤلاء لهم حق الحماية والرعاية ضمن
الشروط. أما المجوس وعبدة الأوثان , فليس لهم ذلك الحق مطلقًا؛ ولذلك كان
سلاطين المغول المسلمون في الهند يستحِلُّون أموالَ البوذيين ولبراهمة وأرواحهم
وأعراضهم , ولم ينتفِ هذا الأمر إلا بعد أن احتلت إنكلترة الهند , وامتلكتها أخيرًا
بحد السيف. ولذات السبب عينه هجر العجم فريق كبير من سكانها المجوس القدماء
فقطنوا الهند حيث عرفوا باسم بارسي , وكانوا أقوى نصير للإنكليز في تثبيت
قدمهم ببلاد المغول الهندية المسلمة انتقامًا من مسلمي العجم , وإنني في كل سياحتي
ببلاد العجم وسائر آسيا المسلمة لم أسمع من أتباع محمد سوى ذم المجوس , وتحليل
قتلهم وتعذيبهم؛ ولذلك فلا غرابة إذا كان فريق البارسي قد أيد إنكلترة في الهند ,
وكان لها عونًا في الحروب.
ومسلمو القوقاس وتركستان وخيوى والصين وبخارى على ذات العقيدة ,
وهؤلاء كانوا يدعون اليابانيين والصينيين أيضًا مجوسًا وعبدة أوثان , ويضمرون
لهم البغضَ والاحتقارَ , وبعد هذه المقدمات ألا ينذهل القارئ عندما يعلم أن كل
أولئك المسلمين يبدون الآن عطفًا على أهل اليابان والصين والهند كافة , ويقولون:
إنهم هم وأتباع بوذة وبرهمة وكونفوشيوس إخوان؟ حقًّا , إن هذا الاتحاد الجديد
والانضمام الغريب يقضي بالعجب العجاب. ولكنه اتحاد حقيقي لا رَيْبَ في وجوده
تعرفه حكومات أوربة الآن ويتهامس به وزراؤها وراء جدران مجالسهم حاسبين
له ألف حساب.
أَوَ تَدْرون ما سبب هذا التفاهم الجديد في أهل آسيا؟ سببه انتصار اليابان
الأخير على روسيا.
كانت اليابان قد انتصرت سنة ١٨٩٥ على الصين , فلم يعرها العالمُ
الإسلامي ولا الآسيوي على روسيا أقل اهتمام , ولكن انتصار اليابان على روسيا
الأوربية سنة ١٩٠٥ كان له وقعٌ عظيم في نفوسهم استفزّهم إلى النعرة الوطنية
فبدءوا في الهند والصين كما في العجم وتركية يتداولون. ويقولون: فلننبذ كل
شقاق داخلي , وكل خلاف ديني من بيننا , ولنقتدِ بأختنا اليابان , وإلا داستنا
أوربة بأقدامها , وأفنت استقلالنا ومحقت كياننا. والفضل الأكبر في هذه النهضة
الوطنية الآسيوية الجديدة يعود إلى المسلمين. فإن المسلمين هم الذين بدءوا بإيجادها
وأفلحوا رغمًا عن الصعوبات الجيوغرافية , وعن المسافات الشاسعة التي تفصل
بينهم وبين أملاك آسيا المشتتة البعيدة. , وإنني لا أنسى كيف كانت تتغنى الصحف
التركية والعربية والفارسية والهندية المسلمة بمديح طوغو ونودجي وكوركي
وغيرهم من قواد اليابان الذين انتصروا على روسية , ولا أنسى أيضًا أن بعثة
إسلامية سافرت إلى اليابان للتبشير بدين محمد.
واليابانيون المشهورون بالحُنكة والدهاء حاولوا أن يربحوا من هذه الحركة
الإسلامية نحوهم , ولكن السلطان عبد الحميد كان أشد حنكة وأكثر دهاءً منهم , فلم
يقع ولا بفخ من الفخاخ السياسية العديدة التي نصبها ساسة اليابان له , ولما غرقت
البارجة العثمانية (أرطغل) بكل من كان عليها من البحارة العثمانيين على شواطئ
اليابان منذ سنوات قليلة أبدت اليابان مشاركة حاسات وروح أخوة نحو تركية جعل
قصر يلدز يومئذ أن يشعر بوجود جامعة أو صلة تربط تركية باليابان. وأوربة
تعرف جيدًا أن مخابرات كثيرة جرت ببين طوكيو والآستانة والأرجح أنها لا تزال
جاريةً إلى الآن بطرق سرية وغير رسمية. وإنني عالم بسفر عدد كبير من شيوخ
المسلمين إلى الصين واليابان ومعهم مبالغ طائلة من المال ليصرفوا بسخاء على
إخوانهم المسلمين في أقصى أقطار الشرق , ويحملوهم على التآخي مع جيرانهم
البوذيين , وعلى اتخاذ الآستانة مقر الخليفة أمير المؤمنين كعبةً لهم وملجأً إليهم.
ومن جملة سياحهم الشيخ سليمان شكري أفندي من علماء الأناضول الذي عاد
سنة ١٩٠٧ من سياحته في الهند والصين واليابان , فنشر كتابًا في بطرسبورج
سماه (سياحتي الكبرى) ضمنه الطعن بالحكومة الإنكليزية نظرًا لما رآه من
صرامتها وعجرفتها التي لا تطاق , وقال: إن حكومة الصين أفضل وأكثر اعتدالاً
وتسامحًا من حكم المستعمرين الإنكليز , ونصح الصينيين بالانضمام إلى المسلمين
حتى يرفعوا عنهم نيِّر الإفرنج الثقيل , وقد ظهرت بوادر الاتحاد وَالتَّفَاهم بين
المسلمين وأهل الصين, وكانت أسبابه الجوهرية نفورهم المتبادل من شدة وطأة
الحكم الأجنبي والسيطرة الأوروبية الثقيلة عليهم. وبعد الحرب الروسية اليابانية
صار الفريقان يجهران بهذا الاتحاد , وقد كانا أولاً يتهامسان به سِرًّا فيما بينهما.
ولما نشبت الثورات الأخيرة في الصين وفي شرقي تركستان ومقاطعة يونان
كان الصينيون يحسنون معاملة المسلمين لدرجة قصوى. وفي ثورة البوكرس
الأخيرة التي أقلقت بال أوربة قاطبةً كان للمسلمين الصينيين اليد الكبرى في
الهجوم على الإفرنج والأسبقية في إظهار بغضهم نحو كل ما هو إفرنجي. وقد
تمادت حكومة الصين في مناصرتها للمسلمين حتى إنها لم تقتصر على تأييدهم
ومساعدتهم فقط , بل إنها أصدرت لهم جريدةً في مدينة إيلي لا تزال تطبع إلى اليوم
باللغة التركية , وخطتها حث المسلمين الصينيين على الاشتراك مع إخوانهم في
الوطن وسائر الصينيين عمومًا ضد الإفرنج. وقد قرأت تلك الجريدة آخرًا وهاك
مثالاً على ما تنشره:
(إن أوربة قد أصبحت معتديةً وكثيرة التطلب منا. وطلبها مقرون بوقاحة
وبغطرسة. وقصدها الوحيد هو نزع استقلالنا وقتل حريتنا. فعلينا بالاتحاد وإلا
فنينا , وعلينا باقتباس العلوم الحديثة حتى نتقوى ونثري ونستغني عن مصنوعات
الإفرنج كلها) اهـ.
وقد اتضح آخرًا أن المسلمين هرعوا في الصين إلى نصرة زعماء الحرية
في إمبراطورية ابن السماء , فكانوا من أقوى العاملين على إلغاء الحكم
الإمبراطوري , وطرد عائلة المانشو المالكة , وإنشاء حكم جمهوري دستوري ,
يبشر بالحرية والمساواة؛ ولذلك فلا عجب إذا قال زعيم النهضة الصينية الجديدة
الدكتور (صن يان صن) في حديث صحافي له في ثغر مرسيليا ما يأتي:
(إن الصين سوف لا تنسى ما فعله نحوها إخواننا المسلمون الصينيون من
التأييد والمساعدة في سبيل إعادة الأمن والحرية إلى بلادنا. حقًّا إن أوربة تخطئ
نحو الإسلام , فتحسب أن الجامعة الإسلامية كالخطر الأصفر كابوسًا ثقيلاً على
صدرها) اهـ.
(ولم تنفرد الصين بالائتلاف مع المسلمين بل جاراها بذلك القسم الأكبر من
أهل الهند الإنكليزية وأعني البوذيين. وهذا التفاهم والتقرب بين هاته العناصر
الشرقية يجب أن تعرفه أوربة , فتعد له العدة وتحسب له الحساب. أما من حيث
خطر الجامعة الإسلامية فهو قليل على ما أرجح , ولكن خطر الجامعة الآسيوية أو
الجامعة الشرقية فهو كبير ووجود تلك الجامعة أمر راهن لا ريب فيه.
صرفت سنوات عديدة في قصر يلدز وأشرفت عن كثب على حركات عبد
الحميد وأعوانه فعلمت كل مساعيهم التي بذلوها في سبيل إنشاء الجامعة الإسلامية،
وقرأت بعض التقارير التي قدمها بشأنها رسل عبد الحميد إلى سائر أنحاء العالم
الإسلامي. فتحققت أن إنشاء جامعة تجمع كل مسلمي الأرض تحت لواء واحد
وغاية واحدة هو ضرب من المحال. وما التخوف الذي تبديه أوروبة من هذه
الجامعة سوى تخوف وهمي. وكيف يعقل أن جميع المسلمين من سائر الأجناس
والأماكن يتحدثون على شيء واحد وهم متشتتون متباغضون متحاسدون؟ نعم , إنه
يعقل عندنا إنشاء جامعة صقلية في البلقان تحت حماية روسية كما يعقل اتحاد
إيطالية وألمانية , ولكن لا يعقل قط اتحاد مسلمي مراكش بمسلمي العجم , ولا يتم
اتفاق أتباع محمد في الأفغان مع أتباعه في تركية , وقس على ذلك استحالة اتحاد
مسلمي إفريقية مع مسلمي آسيا , وَهَلُمَّ جَرّا.
إن مسلمي الهند وعددهم ٦٠ مليونًا لهم تأثير محسوس عند ما ينصب الميزان
فيرجحون الكفة التي ينحازون إليها، ولكن سوء حكم المغول المسلمين في الهند
سابقًا مع وفرة عدد الهنود غير المسلمين يكفل لنا مَحق النفوذ المحمدي هناك ,
وخصوصًا إذا أحسنَّا سياسة المئتي مليونًا من الهندوس والبراهمة والبارسي
والبوذيين، وفضلاً عن ذلك فإن الحكم الإنكليزي العادل في الهند جعل مسلميها
مسروري الخاطر , مرتاحي البال فصار يصعب عليهم مقاومة الإنكليز ومعاداتهم ,
وأما المسلمون الموجودون تحت حكم إفرنجي غير الإنكليز فهم قلال العدد فقراء
ضعاف لا يحسب لهم حساب.
بَيْدَ أنني أوجه أنظار أوروبة إلى شذوذ واحد فقط , وهو حالة أتباع محمد في
القطر المصري، فإن النهضة المصرية الأخيرة , وتكاثر عدد المسلمين في إفريقية
تكاثرًا متواصلاً مستمرًّا مما يجعل المسألة الإسلامية في تلك القارة شديدة الخطر
وخصوصًا لأن القاهرة أصبحت مبعث العلوم والآداب العربية، وها إن إسماعيل
غصبر نسكي وهو من أقوى المفكرين المتنورين بينهم لم يقدر على جعل الآستانة
العلية مركزًا للمؤتمر الإسلامي العام الذي سعى في إنشائه منذ بضع سنين , بل
جعل القاهرة ذلك المركز المرغوب، نعم إن تركية قالت يومئذ: إنها لا تسمح
للمؤتمرين بالاجتماع في عاصمتها حذرًا من (ظنون سياسة) , ولكن إسماعيل
وأعوانه صرحوا بحذف كل مادة ترمي إلى غرض سياسي من لائحة مؤتمرهم ,
وجعلوا تلك اللائحة مقتصرة على الأبحاث التعليمية والدينية فقط.
والخلاصة أن أوروبة مدركة سر تفوقها على المسلمين , فهي لا تحسب
لجامعتهم حسابًا. ولو كان أتباع محمد يتفقون حقيقةً لو اجتمعوا للبحث والمداولة
لكانوا اتفقوا منذ زمن طويل في مكة والمدينة حيث تجمعهم فريضة الحج سنويًّا
بمئات الألوف ومن سائر الأقطار والأجناس والألسنة والعناصر , وحيث يسمعون
الأئمة يعظونهم قائلين لهم: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠) وعندي
أن على المسلمين نبذ هذه الفكرة , أي فكرة الجامعة المذهبية؛ لأنها لا يمكن أن
تتحقق , كما أنها لم تتحقق قط عند الأمم المسيحية كما ينبئنا التاريخ , وأفضل
نصيحة أقدمها إلى المسلمين هي وجوب اقتباسهم العلوم الحديثة حتى تتنور أذهانهم
وتزيد ثروتهم وتتحسن صناعتهم, فيصيروا قادرين إذ ذاك على مقاومة أوربة
عندما تنوي الدول مهاجمتهم واكتساح بلادهم عَنْوَةً واقتدارًا. ولكن المسلمين لم
يفعلوا ذلك الآن بل تراهم حتى اليوم ينشرون التعاليم الدينية؛ لأجل مقاومة التعاليم
الزمنية ومحاربة العلوم العصرية. ولا أنكر أن الحماس الديني في العالم الإسلامي
في الوقت الحاضر قد بلغ أشده. وأنك إذا زرت أقصى مدن آسيا وأشرفت على
حالة المسلمين فيها ترى الجرائد التركية والفارسية في بيت كلٍّ منهم , وترى
الإعانات المالية ترسل تباعًا من الآستانة والقاهرة وقازان وبومباي إلى إخوانهم
الفقراء في أقصى سيبيرية والصين! ! وأمير بخارى الحالي المير حليم الذي درس
في أحسن جامعة روسية لم يقوَ على إدخال العلوم العصرية إلى بلاده؛ لأن
الصحافة الدينية في بلاده قاومته واتهمته بالكفر والزندقة , وتمثلت (الأفكار) بقول
الشاعر:
فالشر كل الشر ما ... بين العمائم والقلانس
ولما نشبت الحرب العثمانية الإيطالية الأخيرة صرت ترى الإعانات المالية
ترد متوالية إلى الآستانة من التتر والتركمان والأفغان والهنود والقوقازيين والعرب
وسائر الجنسيات التي دخل إليها الإسلام. واهتمام الصحافة المسلمة قاطبة بهذه
الحرب أشدّ بكثير من اهتمامها بالحرب الروسية التركية سنة ١٨٧٧ , ولما قابلت
مؤخرًا بين مجموع التبرعات التي أرسلها أتباع محمد في الحرب الروسية العثمانية
مع مجموعها الأخير في الحرب الحاضرة اعترتني دهشة وذهول؛ لأنني وجدت
الفرق بين المجموعين جسيمًا جدًّا , وهذا يعني وجود نهضة إسلامية كبيرة لا يمكن
أيّا كان إنكارها أو التقليل من أهميتها.
وهذه النهضة ولئن قلت بعدم الاعتداد بها من الوجهة الدينية لكنني أكرر
التحذير من عواقبها من الوجهة الوطنية. أي إن المسلمين في الهند بعد اتحادهم
الديني عقدوا اتحادًا آخر وطنيًّا مع البوذيين، وهم يحاولون الآن الائتلاف والتفاهم
مع البراهمة. وكلما زادت غطرسة الإفرنجي عندهم وكثرت مطالبه منهم كلما
زادت نار بغضهم له اشتعالاً. وبوادر الاتحاد ضد الحكم الأجنبي عندهم قد ظهرت
في حوادث عديدة. فالصين التي كانت تحارب مسلمي مقاطعة يونان عندها صارت
اليوم تصدر لهم جريدة تركية على نفقة خزينة الحكومة، والصين التي كانت تكره
ذكر محمد أصبحت اليوم تبني الجوامع وترمم الزوايا من مال الخزينة إرضاءً
لرعيتها المسلمة، وهذه صارت تجهر علنًا بِكُرْهِ النصارى وخصوصًا الإفرنج منهم
وبالاختصار أقول: إن كل الجنسيات والأديان في آسية قد اتفقت آخرًا ضد عدو
واحد هو أوربة، أي إن الشرق ناهض وعلى الغرب أن يستعد لمقابلته في ساحة
العِراك، وأمام أوروبة اليوم مسألة هامة هي هذه:
أليس من الحكمة أن ندبر ضربةً قويةً قاضيةً تخمد أنفاس هذه الحركة
الآسيوية الحديثة ونقطع البرعم قبل أن يزهر ويثمر، أم التحرش المستمر والتملك
المتواصل بفترات متقطعة مما يكفل لنا خنق هذا الطفل وهو في مهده.
أما رأيي أنا فهو: (اقطفوا البرعم قبل أن يزهر فيثمر) قالت الأفكار:
هذا مطابق لما تقوله العرب: (اخنقوا الطفل في مهده) .