للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجامعتان الإسلامية والشرقية
دعوة السيد الأفغاني إليهما، تأثير دعوته بعد جيل كامل في الشعوب
الأعجمية، جمود جزيرة العرب واضطراب العراق وسورية، الإنكليز مثيرو الفتنة
وعليهم تقع تبعتها.
كانت فكرة الجامعة الإسلامية خيالاً لاح في أذهان بعض رجال السياسة في
أوروبا فطفقوا يبحثون فيه، ويصورون لأقوامهم قوادمه وخوافيه، حتى صار
الكثيرون منهم يحسبون أنه حق لا ريب فيه.
أثار هذا الخيالَ في تلك الأدمغة كثرةُ التفكر في تاريخ الشعوب الإسلامية التي
أسرعت أوروبا في ثَلِّ عروشها، واستعباد أمرائها وملوكها، والتمتع بخيرات
بلادها، فإن المطَّلع على ذلك التاريخ الفيَّاض بما كان لها من العزة والبأس في
الحرب، والعلم والحكمة وإقامة العدل جدير بأن يحسب لانتقاضها على المستذلِين
لها ألف حساب، وإن استحوذ عليها الجهل، وحرقتْ نسيجَ وحدتها العداوات
الجنسية والمذهبية، فصار بأسها بينها شديدًا، وقيادها للأجانب لينًا سلسًا، ولئن
نبهت مباحث أولئك السياسيين بعضَ الأذكياء إلى هذا الأمر العظيم، فلم يكن في
استطاعتها أن تحفز همة أحد من أمرائهم ولا من كبراء الهمم والعقول فيهم إلى
السعي له والدعوة إليه، ولئن وُجد أفراد - منهم السلطان عبد الحميد - أحبوا أن
يستفيدوا من حذر الأوروبيين منه بإيهامهم إياهم أنهم يعدون له عدته، ويتخذون له
أهبته، فقد كان من تأثير هذا الإيهام مبادرة أولئك الحازمين إلى قطع طرقه،
والإسراع بالقضاء على ما بقي لتلك الشعوب من ماء الاستقلال ورمقه.
إي وربي ‍‍! إن الشعوب الإسلامية لم تنجب من بعد الحروب الصليبية رجلاً
عظيمًا عالي الهمة، يسعى إلى جمع كلمة المسلمين وتوحيد قواهم المتفرقة، لدفع
عوادي الذل والاستعباد عنهم، لا بدعوة علمية اجتماعية، ولا بتأليف قوة عسكرية
عصرية، إلا (السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني) حكيم الشرق، وحافزه
لتحرير نفسه من الرق، فهو الذي اهتدى بذكائه ونظره البعيد وفكره الوقاد إلى
تدارك الإسلام وإنقاذ الشرق من الاستعباد، بالسعي إلى هذا الاتحاد، فطاف
لأجله البلاد، ونادى به على رءوس الأشهاد؛ فلم تكن دعوته في عصره صرخة في
واد، أو نفخة في رماد، بل كان في خلل الرماد وميض نار طار شرارها كل مطار،
حتى عم بعده الأقطار.
ألقى بذور دعوته الأولى بمصر وكانت عنايته فيها موجهة إلى إحياء الشعب
المصري لتكون مصر مركز الدعوة العامة، وتكون دولة وادي النيل هي الدولة
القوية التي تعتز بها الأمة، وتكون النواة لتنفيذ مذهبه السياسي في إعزاز الإسلام
وتقليص ظل الدولة البريطانية عن رءوس المسلين.
وبعد أن نُفي بتأثير الدسائس الإنكليزية من مصر، ومن أجل بث الدعوة ألَّف
جمعية العروة الوثقى، وأنشأ جريدتها في باريس للدعوة العامة إلى الوحدة تحت لواء
الخلافة الإسلامية، وكان جُل سعيه وعمله فيما وراء الغاية العامة الدفاع عن مسألة
مصر عقب الاحتلال، وقد عني عناية خاصة بجمع الكلمة والتأليف بين الشعبين
المتجاورين اللذين نشأ هو وكثير من آبائه وأجداده في بلادهما، أعني الشعب الأفغاني
والشعب الإيراني، وقد بيَّنتْ جريدة العروة الوثقى التي كانت تتجلى بها آراؤه بقلم
مريده وصديقه شيخنا الأستاذ الإمام (رحمهما الله تعالى) الغاية، وأشرعت السبيل
وبينت الوسائل، وأرشدت إلى إزالة الموانع، وكان من رأيه أن تكون مكة المكرمة
هي مركز الدعوة.
كان لهذه الدعوة تأثير عظيم في العالم الإسلامي حتى كان العقلاء وأهل الرأي
من قرائها في الأقطار المختلفة يعتقدون أنها لا تلبث أن تحدث انقلابًا عظيمًا في
الشرق. سمعنا هذا من شيخنا الشيخ حسين الجسر الشهير في طرابلس، ورواه لنا
محمد علي بك المؤيد عن الزعيم الكبير السيد سلمان الكيلاني نقيب بغداد في ذلك
العهد، بيد أن مصادرة الدولة البريطانية للجريدة، ومنعها من مصر والهند
وغيرهما من أقطار المشرق كانت سببًا لترك الاستمرار على إصدارها، فكان كل ما
صدر منها ١٨ عددًا، ولكنه لم يترك الدعوة والسعي إلى الغاية، بل بثها في البلاد
الفارسية ثم في القسطنطينية، ثم قضى السيد وما قضى منها وطرًا، ولم يقم بعده
أحد بالدعوة والسعي لها بمثل تلك القوة، بل ضعفت الرابطة الإسلامية، بما
تغلب عليها من العصبية الجنسية، ولا سيما في الشعوب الأعجمية، بيد أن القوي
في الضار قد يكون قويًّا في النافع، فهذه الشعوب التي كانت في غاية التعادي
الجنسي، وكانت قبل ذلك فيما هو أشد منه من التعادي المذهبي: هذا سُني وهذا
شيعي - ثابَتْ الآن إلى رُشدها، وعلمت كل منها أن الوحدة هي التي تحفظ جنسها
ودينها ومذهبها، فمد كل منها يده إلى الآخر يصافحه مصافحة الأخ لأخيه،
ويعاهده معاهدة الولي لوليه.
تعاقد الترك والفرس والأفغان، وشدوا معاقد حلفهم ببخارى وخيوة وأذريبجان،
وبنوا دعاية الولاية والبراءة في سائر الشعوب الإسلامية في الشرق، يؤيدها بالمال
والرجال مسلمو الهند، بل شدوا أواخيّ الجامعة الشرقية بوثنيي الهند ونصارى
الروسية البلشفية التي سخرها الله لجهاد تأليه الثروة والعظمة الأوروبية،
والغرض العام لهذه الأمم كلها تحرير الشرق من رق الجزيرة البريطانية، التي
طمحت باستعبادها له إلى منازعة الربوبية، وما يتلو ذلك من تحرير سائر الشعوب
المستضعفة.
كل هذا والشعب العربي الذي ضعفت رابطته الجنسية بتعاليم الإسلام،
ووحدته الدينية باختلاف المذاهب وتنازع الحكام مُصِرٌّ على تَفَرُّقِهِ غافلٌ عما يُرَاد
به، حتى في مهد الإسلام من جزيرته، وقد رأى سوء عاقبة ذلك في سلب الأجانب
لاستقلال أخصب بلاده، ومحاولة إنشاب براثنه في باقيها، والإحاطة بها من
أطرافها، وهو مع ذلك في غمة من أمره لا يدري كيف يخرج منها، وإنما الذنب
في ذلك على ملوكهم وأمرائهم الجاهلين بكُنْهِ تأثير دسائس أعدائهم، وتسخيرهم
لمنع الجامعات الإسلامية والشرقية والعربية جميعًا من حيث لا يشعرون، ولكن هذه
السياسة الخبيثة ستنتهي بالخيبة، ولن ينقذ الإنكليز من سوء عاقبة عداوتها للإسلام،
اصطناع بضعة رهط من زعماء العرب بعضهم لبعض عدو، وودهم كله سيبلى،
وهم عاجزون عن إقناع شعوبهم بصداقة الإنكليز لهم، مع احتلالها لأخصب
بلادهم وإلقائها للفتن بينهم، ولا هم قانعون بذلك فيقنعوا غيرهم، بل كل واحد منهم
يكابر نفسه ويتأول لها، ويخفي مودته ويتعذر عما ظهر منها، وإنما تنقذ الإنكليز
سياسة أخرى عَمُوا عنها وصَمُّوا وقد نُصحوا وأُنذروا، لا أقول سياسة الصدق
والوفاء للعرب ‍! بل التحول عن محاولة استعبادهم من حدود برقة إلى العراق
وعمان، وقتل الإسلام في مشرق نوره ومواطن حضارته، مع القضاء على بلاد
الترك أمنع حصونه وأمضى أسلحته، فإن كان الترك قد أفلتوا من الشرَك الذي وقع
فيه وحيد الدين، فسيفلت العرب مما وقع فيه أمثاله المخدوعين {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ
حِينٍ} (ص: ٨٨) .
* * *
] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا [[*]
من مقالات العورة الوثقى في الحث على الجامعة الإسلامية نشر منذ ٤٠
سنة [١] .
إن للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم، وثباتًا على يقينهم، يباهون
بها من عداهم من الملل، وإن في عقيدتهم أوثق الأسباب لارتباط بعضهم ببعض.
ومما رسخ في نفوسهم أن في الإيمان بالله وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم
كفالة لسعادة الدارين، ومن حرم الإيمان فقد حرم السعادتين، ويشفقون على أحدهم
أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء، وهذه الحالة كما هي
في علمائهم متمكنة في عامتهم، حتى لو سمع أي شخص منهم في أي بقعة من
بقاع الأرض - عالمًا كان أو جاهلاً - أن واحدًا ممن وسم بسمة الإسلام في أي قطر،
ومن أي جنس صبأ عن دينه، رأيت من يصل إليه هذا الخبر في تحرق وتأسف
يلهج بالحوقلة والاسترجاع، ويعد النازلة من أعظم المصائب على من نزلت به،
بل وعلى جميع من يشاركه في دينه، ولو ذكرت مثل هذه الحادثة في تاريخ
وقرأها قارئهم بعد مئين من السنين، لا يتمالك قلبه من الاضطراب ودمه من
الغليان، ويستفزه الغضب ويدفعه لحكاية ما رأى كأنه يحدِّث عن غريب أو
يحكي عن عجيب.
المسلمون بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة مطالبون عند الله بالمحافظة
على ما يدخل في ولايتهم من البلدان، وكلهم مأمور بذلك لا فرق بين قريبهم
وبعيدهم، ولا بين المتحدين في الجنس ولا المختلفين فيه، وهو فرض عين على
كل واحد منهم، إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام.
وحفظ الولاية: بذل الأموال والأرواح، وارتكاب كل صعب، واقتحام كل
خطب، ولا يباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في حال من الأحوال حتى ينالوا الولاية
خاصة لهم من دون غيرهم، وبالغت الشريعة في طلب السيادة منهم على من يخالفهم
إلى حد لو عجز المسلم عن التملص من سلطة غيره، لوجبت عليه الهجرة من دار
حربه، وهذه قواعد مثبتة في الشريعة الإسلامية، يعرفها أهل الحق، ولا يغير منها
تأويلات أهل الأهواء وأعوان الشهوات في كل زمان.
المسلمون يحس كل واحد منهم بهاتف يهتف من بين جنبيه يذكره بما تطالبه به
الشريعة وما يفرض عليه الإيمان، وهو هاتف الحق الذي بقي له من إلهامات دينه،
ومع كل هذا نرى أهل هذا الدين في هذه الأيام بعضهم في غفلة عما يلم بالبعض
الآخر، ولا يألمون لما يا لم له بعضهم، فأهل بلوجستان كانوا يرون حركات
الإنكليز في أفغانستان على مواقع أنظارهم ولا يجيش لهم جأش ولم تكن لهم نعرة
على إخوانهم، والأفغانيون كانوا يشهدون الإنكليز في بلاد فارس ولا يضجرون ولا
يتململون. وإن جنود الإنكليز تضرب في الأراضي المصرية ذهابًا وإيابًا تقتل
وتفتك ولا ترى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري مائهم، بل
السامعين لخريرها من حلاقيمهم الذين احمرت أحداقهم من مشاهدها بين أيديهم
وتحت أرجلهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
تمسُّكُ المسلمين بتلك العقائد وإحساسهم بداعية الحق في نفوسهم مع هذه الحالة
التي هم عليها مما يقضي بالعجب، ويدعو إلى الحيرة ويسوق إلى بيان السبب،
فخذ مجملا منه:
إن الأفكار العقلية والعقائد الدينية، وسائر المعلومات والمدركات والوجدانيات
النفسية وإن كانت هي الباعثة على الأعمال، وعن حُكمها تصدر بتقدير العزيز العليم
- لكن الأعمال تثبتها وتقويها وتطبعها في الأنفس وتطبع الأنفس عليها، حتى يصير
ما يعبر عنه بالمَلَكَة والخُلُق وتترتب عليه الآثار التي تلائمها.
نعم إن الإنسان إنسان بفكره وعقائده، إلا أن ما ينعكس إلى مرايا عقله من
مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكرًا، وكل
فكر يكون له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل ثم يعود من العمل إلى الفكر،
ولا ينقطع العقل والانفعال بين الأعمال والأفكار ما دامت الأرواح في الأجساد،
وكل قبيل هو للآخر عماد.
إن للأخوة وسائر نسب القرابة صورة عند العقل، ولا أثر لها في الاعتصاب
والالتحام لولا ما تبعث به الضرورات، وتلجئ إليه الحاجات، من تعاون الأنسباء
والعصبة على نيل المنافع، وتضافرهم على دفع المضار، وبعد كرور الأيام على
المضافرة والمناصرة تأخذ النسبة من القلب مأخذًا يصرفه في آثارها بقية الأجل،
ويكون انبساط النفس لعَوْن القريب وغضاضة القلب لما يصيبه من ضَيْم أو نكبة
جاريًا مجرى الوجدانيات الطبيعية، كالإحساس بالجوع والعطش، والري والشبع،
بل اشتبه أمره على بعض الناظرين فعده طبيعيًّا، فلو أهملت صلة النسب بعد ثبوتها
والعلم بها، ولم تدع ضرورات الحياة في وقت من الأوقات إلى ما يمكن تلك الصلة
ويؤكدها، أو وجد صاحب النسب من يظاهره في غير نسبه، أو ألجأته ضرورة
إلى ذلك، ذهب أثر تلك الرابطة النسبية، ولم يبق منها إلا صورة في العقل تجري
مجرى المحفوظات من الروايات والمنقولات، وعلى مثال ما ذكرنا في رابطة
النسب - وهي أقوى رابطة بين البشر - يكون الأمر في سائر الاعتقادات التي لها
أثر في الاجتماع الإنساني من حيث ارتباط بعضه ببعض. إن لم يصحب العقد
الفكري ملجئ الضرورة أو قوة الداعية إلى عمل تنطبع عليه الجارحة وتمرن عليه
ويعود أثر تكريره على الفكر حتى يكون هيئة للروح وشكلا ًمن أشكالها - فلن يكون
منشأ لآثاره، وإنما بعد في الصور العقلية له رسم يلوح في الذاكرة عند الالتفات إليه
كما قدمنا.
بعد تدبر هذه الأصول البينة، والنظر فيها بعين الحكمة، يظهر لك السبب
في سكون المسلمين إلى ما هم فيه مع شدتهم في دينهم، والعلة في تباطؤهم عن
نصرة إخوانهم، وهم أثبت الناس في عقائدهم، فإنه لم يبق من جامعة بين
المسلمين في الأغلب إلا العقيدة الدينية مجردة عما يتبعها من الأعمال، وانقطع
التعارف بينهم، وهجر بعضهم بعضًا هجرًا غير جميل. فالعلماء وهم القائمون
على حفظ العقائد وهداية الناس إليها لا تواصُل بينهم ولا تراسل، فالعالم التركي في
غيبة عن حال العالم الحجازي فضلاً عمن يبعد عنهم، والعالم الهندي في غفلة عن
شئون العالم الأفغاني، وهكذا بل العلماء من أهل قطر واحد لا ارتباط بينهم، ولا
صلة تجمعهم إلا ما يكون بين أفراد العامة لدوعٍ خاصة من صداقة أو قرابة بين
أحدهم وآخر، أما في هيئتهم الكلية فلا وحدة لهم، بل لا أنساب بينهم، وكل ينظر
إلى نفسه ولا يتجاوزها، كأنه كون برأسه.
كما كانت هذه الجفوة وذاك الهجران بين العلماء كانت كذلك بين الملوك
والسلاطين من المسلمين، أليس بعجيب أن لا تكون سفارة للعثمانيين في مراكش
ولا لمراكش عند العثمانيين؟ ‍! أليس بغريب أن لا تكون للدولة العثمانية صلات
صحيحة مع الأفغانيين وغيرهم من طوائف المسلمين في المشرق؟!
هذا التدابر والتقاطع وإرسال الحبال على الغوارب عم المسلمين حتى صح
أن يقال: لا علاقة بين قوم منهم وقوم، ولا بلد وبلد، إلا طفيف من الإحساس بأن
بعض الشعوب على دينهم، ويعتقدون مثل اعتقادهم، وربما يتعرفون مواقع
أقطارهم بالصدفة إذا التقى بعض ببعض في موسم الحجيج العام. وهذا النوع من
الإحساس هو الداعي إلى الأسف وانقباض الصدر إذا شعر مسلم بضياع حق مسلم
على يد أجنبي عن ملته. لكنه لضعفه لا يبعث على النهوض لمعاضدته.
كانت الصلة كجسم عظيم قوي البنية صحيح المزاج فنزل به من العوارض ما
أضعف الالتئام بين أجزائه فتداعت للتناثر والانحلال، وكاد كل جزء يكون على
حدة وتضمحل هيئة الجسم.
بدأ هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة
العلمية عن رتبة الخلافة وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يحوزوا
شرف العلم والتفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما كان الراشدون
رضي الله عنهم، كثرت بذلك المذاهب، وتشعب الخلاف من بداية القرن الثالث
من الهجرة إلى حد لم يسبق له مثيل في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة الخلافة
فانقسمت إلى أقسام: خلافة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية
في أطراف الأندلس. تفرقت بهذا كلمة الأمة وانشقت عصاها، وانحطت رتبة
الخلافة إلى وظيفة الملك فسقطت هيبتها من النفوس، وخرج طلاب الملك والسلطان
يدأبون إليه من وسائل القوة والشوكة ولا يرعون جانب الخلافة.
وزاد الاختلاف شدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده،
وتيمورلنك وأحفاده، وإيقاعهم بالمسلمين قتلاً وإذلالاً حتى أذهلوهم عن أنفسهم
فتفرق الشمل بالكلية وانفصمت عرى الالتئام بين الملوك والعلماء جميعًا، وانفرد
كل بشأنه وانصرف إلى ما يليه، فتبدد الجمع إلى آحاد، وافترق الناس فرقًا كل
فرقة تتبع داعيًا إما إلى ملك أو مذهب، فضعفت آثار العقائد التي كانت تدعو إلى
الوحدة وتبعث على اشتباك الوشيجة، وصار ما في العقول منها صورًا ذهنية
تحويها مخازن الخيال، وتلحظها الذاكرة عند عرض ما في خزائن النفس من
المعلومات، ولم يبق من آثارها إلا أسف وحسرة يأخذان بالقلوب عندما تنزل
المصائب ببعض المسلمين بعد أن ينفذ القضاء، ويبلغ الخبر إلى المسامع على
طول من الزمان، وما هو إلا نوع من الحزن على الفائت كما يكون على الأموات
من الأقارب، لا يدعو إلى حركة لتدارك النازلة ولا دفع الغائلة.
وكان من الواجب على العلماء - قيامًا بحق الوراثة التي شُرِّفُوا بها على لسان
الشارع - أن ينهضوا لإحياء الرابطة الدينية ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في الملك
بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين، ويجعلوا معاقد هذا الاتفاق في مساجدهم
ومدارسهم، حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطًا لروح حياة الوحدة، ويصير
كل واحد منها كحلقة في سلسلة واحدة إذا اهتز أحد أطرافها اضطرب لهزته الطرف
الآخر، ويرتبط العلماء والخطباء والأئمة والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضهم
ببعض، ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة يرجعون إليها في شئون وحدتهم،
ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعوا أطراف
الوشائج إلى معقد واحد يكون مركزه في الأقطار المقدسة - وأشرفها معهد بيت الله
الحرام - حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان، والقيام
بحاجات الأمة إذا عرض حادث الخلل، وتطرق الأجانب للتداخل فيها بما يحط من
شأنها ويكون كذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الأفهام وصيانة الدين من البدع، فإن
إحكام الربط إنما يكون بتعيين الدرجات العلمية وتحديد الوظائف، فلو أبدع مبدع
أمكن بالتواصل بين الطبقات تدارك بدعته ومحوها قبل فشوها بين العامة، وليس
بخافٍ على المستبصرين ما يتبع هذا من قوة الأمة وعلو كلمتها، واقتدارها على
دفع ما يغشاها من النوازل.
إلا أنا نأسف غاية الأسف إذ لم تتوجه خواطر العلماء والعقلاء من المسلمين
إلى هذه الوسيلة وهي أقرب الوسائل، وإن التفتت إليها في هذه الأيام طائفة من
أرباب الغيرة، ورجاؤنا من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحمية والحق أن
يؤيدوا هذه الفئة، ولا يتوانوا فيما يوحد جمعهم ويجمع شتيتهم، فقد دارستهم
التجارب ببيان لا مزيد عليه، وما هو بالعسير عليهم أن يبثوا الدعاة إلى من يبعد
عنهم، ويصافحوا بالأكف من هو على مقربة منهم، ويتعرفوا أحوال بعضهم فيما
يعود على دينهم وملتهم بفائدة، أو ما يخشى أن يمسها بضرر، ويكونون بهذا العمل
الجليل قد أدوا فريضة وطلبوا سعادة، والرمق باقٍ والآمال مقبلة وإلى الله المصير.