أسئلة من صاحب الإمضاء في (العطف) من ٥ - ١١ بسم الله الرحمن الرحيم فضيلة الأستاذ الأوحد منشئ المنار المنير، السيد محمد رشيد رضا، شاد اللهُ به منار الدين. السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد فإني سائل فضليتكم عن أمور أشْكلَتْ عليَّ مؤمِّلاً إسعافي بأجوبتها لِمَا أني لا أرى لذلك ممن أعرف أهلاً سواكم: (١) لماذا حمل الأستاذ الإمام أخذ الكتب في القيامة بالأيمان وبالشمائل مِنْ وراء الظهور على أخذها بنشاط وسرور أو بضد ذلك مع إمكان الحمل على الظاهر الذي تمتنع مخالفته بلا دليل؟ واستبعاد تصوير وراء الظهر بما صوره به لا يوجب رفض الظاهر، فلِمَ لا يقال يأخذ الكافر كتابه بشماله من وراء ظهره حقيقةً، ولا يزداد على ذلك؟ ويجعل النشاط والسرور سببًا للأخذ باليمين وضد ذلك سببًا للأخذ بالشمال من وراء الظهر؟ (٢) هل يحلّ التداوي بالخمر - إذا ظن نفعها بخبر طبيب - أخذًا من آية {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: ٧٨) ، ومن القاعدة المتفق عليها: الضرورات تبيح المحظورات. وإذا جوّزتم فما ترون في حديث: (إنها داء وليست بدواء) أو كما ورد. (٣) هل الخمر نجسة، وما دليل نجاستها إن قلتم بها؟ فإني لم أَرَ دليلاً شافيًا بعد شدةِ البحث. (٤) ما جواب مجوّزي سماع الملاهي عن حديث تحريم سماع المعازف الذي في البخاري. (٥) ما درجة حديث النهي عن تعليم النساء الكتابة وهل له معارض؟ وما رأيكم في هذا التعليم؟ والحديث المشار إليه ذكره في فتح البيان عن البيهقي والحاكم وابن مردويه وسكت عليه، فهل ذكر الحاكم له يفيد صحته. (٦) ما درجة حديث جابر في خلق النور المحمدي قبل الأشياء؛ فقد أنكر الشيخ عبد العزيز جاويش صحته مع ذكره في كتب جمّة كشرح الهمزية لابن حجر، لكن لم أَرَ مَنْ صححه بعد شدة بحث في كثير من كتب السنة. (٧) لم شرَطتم على المفتي ذكر دليل الحكم للعامي مع أن كثيرًا من الأدلة يصعب جدًّا تفهيمه إيّاها فالتكليف به حرج شديد؟ وإذا وَسِعَ العامِّيّ أن يثق برواية المفتي فلم لا يسعه أن يثق بأنه أخذ فتواه من دليل صحيح؟ فإنّا إذا نظرنا إلى احتمال خطأ العالم في أخذ الحكم أو فتواه بما لا يعلم - لزم أن ننظر إلى احتمال كذبه في الرواية أو في تفهيم مرويه، ولا إخالكم ترتابون في صعوبة تفهيم العامي بعض الأدلة لعلمكم بأن مأخذ الحكم قد يتركب من حديثين أو أحاديث أو من سنة وقرآن، ويحتاج تقريره إلى فطنة وإلمام بجملة علوم. هذه يا سيدي الأستاذ مسائل اشتدت حاجتنا إلى معرفة الحق فيها جدًّا، فلجأنا إليكم والأمل بتحقيق طلبنا ملء الفؤاد لا برحتم عضد الحق. خادم العلم الشريف م. ز - بالعطف *** (أخذ الكتب بالأيمان والشمائل) حمل الأستاذ الإمام الآية في سورة الانشقاق على الكناية؛ لأنه الأبلغ الذي يظهر به معنى الوعد والوعيد الذي وردت الآية في سياقه. والكناية لا تنافي الحقيقة، فيجوز أن يكون المراد هو ما فسر به الآية مع كون الأخذ بالأيمان وبالشمائل ممدودة إلى ما وراء الظهر يقع بالفعل؛ ولكن إرادة الحقيقة وحدها خبر مجرد ليس فيه ما في الكناية من الموعظة وبيان حسن حال من يأخذ كتابه بيمينه من قبل وجهه، وسوء حال من يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، وحمل كلام الله على أبلغ الوجوه العربية وأظهرها انطباقًا على مقاصد القرآن هو الأولى؛ بل المتعين، وقد أنزل الله القرآن هدًى وموعظةً وعبرةً وذكرى؛ كما هو مبين في عدة آيات. نعم؛ لا يجوز أن يتكلف المفسر في كلام الله تعالى معاني لا يسيغها الأسلوب العربي البليغ للهروب من معنى متبادر لا يوافق ذوقه أو رأيه. وقد عهد في الاستعمال العربي البليغ التعبير باليمين وبالأخذ باليمين عن اليمن والنشاط والعناية، وبالتعبير بالشمال عن ضد ذلك من الشؤم والكراهة. وسمَّت العرب اليد اليمين: اليمنى، والشمال: الشؤمى، وكانوا يتيمنون بالطير إذا مرت يمينًا ويتشاءمون بها إذا مرت شمالاً. فتقول العرب: أخذ فلان كذا بيمينه أو بشماله، قلّما يريدون إلا الكناية، فهو من الكنايات المشهورة بينهم؛ لأن إرادة الحقيقة قلّما تكون لها فائدة. وأما قول العلماء: إن الأصل في الكلام الحقيقة ولا يصار إلى المجاز أو الكناية إلا بدليل وقرينة، فلا يريدون به أن كل ما أمكن أن يراد به الحقيقة يحمل عليها مطلقًا، فإن من الكلام ما يجزم سامعه عند سماعه أنه مجاز أو كناية مع إمكان إرادة المعنى الحقيقي، ثم إن تحديد الحقيقة في كل مواد الكلِم والتمييز بينها وبين المجاز والكناية ليس من السهولة بحيث ينال من طرف التمام، ولعسره أنكر بعض النقاد المجاز من أصله وعدّ الجماهير كثيرًا من المجازات حقائق، وخلطت معاجمُ اللغة الحقيقة بالمجاز، ولم يعن بالتزييل إلا أفراد من الجهابذة؛ كالزمخشري في أساس البلاغة، وليس هذا المقام بالذي يتسع لبيان ذلك. *** (التداوي بالخمر) التداوي بالخمر لِمَنْ ظن نفعها؛ شيء. والاضطرار إلى شربها؛ شيء آخر. فأمّا الاضطرار فإنما يعرِض لبعض الأفراد في بعض الأحوال، وهو يبيح المحرم من طعام وشراب بنص قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: ١١٩) ، وينفي الحرج والعسر وغير ذلك من الأدلة. وقد مثّل الفقهاء له في شرب الخمر بمن غُصّ بلقمة فكاد يختنق ولم يجد ما يسيغها به سوى الخمر. ومثله من دنق من البرد وكاد يهلك ولم يوجد ما يدفع به الهلاك بردًا سوى جرعة أو كوب من خمر، ومثله أو أولى منه مَنْ أصابته نوبة ألم في قلبه كادت تقضي عليه؛ وقد علم أو أخبره الطبيب بأنه لا يجد ما يدفع عنه الخطر سوى شرب مقدار معين من الخمر القوية؛ كالنوع الحديث الإفرنجي الذي يسمونه (كونياك) فإننا نسمع من الأطباء أنه يتعين في بعض الأحيان لعلاج ما يعرض من مرض القلب ودفع الخطر وقد ثبت ذلك بالتجربة. وهذا النوع من العلاج لا يكاد يكون شربًا للخمر وإنما يؤخذ منه نقط قليلة لا تسكر. وأمّا التداوي المعتاد بالخمر لمن يظن نفعها ولو بإخبار الطبيب كتقوية المعدة أو الدم ونحو ذلك مما نسمعه من كثيرٍ من الناس فهذا هو الذي كان الناس يفعلونه قبل الإسلام ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ونص الحديث الذي أشار إليه السائل: (إنه ليس بدواء ولكنه داء) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي، وسببه: أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي عن الخمر - وكان يصنعها - فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقاله. وقوله: (ولكنه داء) هو الحق وعليه إجماع الأطباء، فإن المادة المسكرة من الخمر سم تتولد منه أمراض كثيرة يموت بها في كل عام ألوف كثيرة، والسموم قد تدخل في تركيب الأدوية، ولكن الذين يشربون الخمر - ولو بقصد التداوي بها - لا يلبثون أن يؤثر في أعصابهم سمُّها، فتصير مطلوبة عندهم فيتضررون بسمها، فلا يغترن مسلم بأمر أحد من الأطباء بالتداوي بها لمثل ما يصفونها له عادة، واللهُ الموفق. *** (نجاسة الخمر) ذهب جمهور الفقهاء إلى نجاسة الخمر، وروي عن ربيعة شيخ الإمام مالك القول بطهارتها، فأمّا نجاستها المعنوية فلا شك فيها، وأمّا النجاسة الحسية فلا تصدق على الخمر لغةً لأنها ليست قذرة، والنجس ما كان شديد القذارة، ولا قام عليها دليل من الكتاب ولا من السنة، وقد شرحنا ذلك في المجلد الرابع من المنار (ص ٥٠٠ و ٨٢١ و ٨٦٦) فليرجع إليه السائل إن شاء. وقد جمعتنا الأيام بعد كتابة ما كتبناه في ذلك المجلد بجماعة من أكابر علماء الأزهر في قطار خاص من قطارات سكة الحديد كان يحملنا إلى بلدة (ديروط) بدعوة قطب باشا قرشي - رحمه الله - للاحتفال بتأسيسه مسجدًا ومدرسةً فيها، فدار الكلام بيننا في هذه المسألة، فقال أحد علماء المالكية: إنه يريد أن يكتب رسالةً يثبت فيها نجاسة الخمر بالدليل فتكون ردًّا على المنار، قلت له: إذا جئت بدليل صحيح يقبله المنار وينشره في الأقطار، وإلا ردّ عليك ما تكتب، ويمكنك أن تذكر الآن ما عندك من الدليل، قال: (الإجماع) ؛ قلت: لم ينقله أحد بل نقلوا عن الإمام ربيعة التصريح بطهارتها، قال: (آية المائدة) قلت: إن لفظ (رجس) محمول فيها على الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، ولم يقل أحد من المسلمين بنجاسة الميسر والأنصاب والأزلام، فتعيّن أن يكون الرجس هو المستقبح عقلاً وشرعًا لضرره، والرجس يكون حسيًّا؛ وهو ما يدرك بأحد الحواس، ويكون معنويًّا وهو ما يعرف بالعقل والشرع مجتمعين أو منفردين، قال تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (يونس: ١٠٠) ، وقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} (التوبة: ١٢٥) ، وقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} (الحج: ٣٠) ، ولا يمكن إرادة النجاسة الحسية بشيء من ذلك. ولمَّا لم يستطع الأستاذ المالكي أن يقيم دليلاً، سأل أحد الحاضرين مفتي الديار المصرية - وكان يسمع المناظرة - عن رأيه في المسألة. فقال المفتي: ما مذهب الأستاذ؟ يعني كاتب هذا - قيل له: شافعي، فقال لي: ما المعتمد عند الشافعية في المسألة؟ قلت: المعتمد أن الخمر نجسة. قال: انتهى الأمر. قلت: لا، إننا نبحث في الدليل على نجاسة الخمر لا في نص المذهب. فإن كان لديك دليل فاذكره لنا. فلم يأت بشيء. ثم سكت الشيوخ وسكتنا. *** (سماع المعازف) قد شرحنا في الجزأين الأول والثاني في المجلد التاسع هذه المسألة؛ فذكرنا أدلة مجوِّزي السماع وأدلة حاظريه، وأقوى أدلة الحاظرين حديث البخاري الذي أشار إليه السائل؛ إذ لم يصح في الباب سواه، بل قال ابن حزم: لا يصح في الباب حديث أبدًا وكل ما فيه فموضوع. وبينا أجوبة المجوزين عن هذا الحديث: (فمنها) أنه منقطع الإسناد فيما بين البخاري. (ومنها) أن في إسناده صدقة بن خالد وقد قال فيه يحيى بن معين إنه ليس بشيء، والإمام أحمد: إنه ليس بمستقيم. (ومنها) أنه مضطرب المتن والسند بما بيناه هنالك. (ومنها) أن كلمة المعازف التي هي محل الاستدلال ليست عند أبي داود. (ومنها) إن لفظة يستحلون ليست نصًّا في التحريم، فقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي لها معنيين: أحدهما أن المعنى: يعتقدون أن ذلك حلال، والثاني: أن يكون مجازًا عن الاسترسال والإكثار من ذلك. (ومنها) أن لفظة المعازف مختلف في مدلولها والاختلاف يوجب الاحتمال المسقط للاستدلال. (ومنها) أن المعازف المنصوص عليها فيه هي ما كانت مقترنة بشرب الخمر كما يستفاد من بعض روايات الحديث. (ومنها) أن المراد بالحديث: يستحلّون مجموع ما ذكر فيه لا كل واحد منها. وحينئذ يستثنون المعازف بدليل كون الدف والغناء منها جمعًا بين الأدلة؛ إذ ثبت في الأحاديث المتفق عليها سماع النبي صلى الله عليه وسلم وإجازته لهما. وإذا أراد السائل أن يقف على تفصيل هذه الوجوه والأجوبة عنها وملخص ما قاله المجوزون والمحرمون في المسألة فليرجع إلى المجلد التاسع من المنار. والذي ظهر لي من مجموع ما ورد في هذا الباب ومن كلام العلماء المختلفين في المسألة: أن سماع الغناء وآلات اللهو ليست محرّمة لذاتها مطلقًا، ولكن الإكثار منها مكروه ولو لم تبعث على معصية، فإذا كانت مغرية بالفسق كما يقع كثيرًا حرمت لسدّ الذريعة. ولمّا كثر اللهو والفسق من المفتونين بالمعازف وصارت أغانيهم كلها غرامية خلافًا لِمَا كان عليه الناس في القرون الأولى وصارت بذلك من دواعي السكر والعشق المؤدي للفسق - أكثر علماء الدين من ذمها والتنفير منها والجزم بتحريمها - كما حرّموا إبداء المرأة لما ظهر من زينتها وكشف وجهها وكفيها خوف الفتنة، حتى منعوا النساء الصلاة في المساجد، وقالوا مثل ذلك في الأَمْرَدِ الجميل الصورة. وحديث البخاري - أي المسئول عنه - إخبار بالغيب عن حال هؤلاء الفساق، فلم يبعد عن الفهم من قال إنه في تقبيح حال هؤلاء الفسّاق في جملة أفعالهم، فرواية البخاري: (ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر [١] والحرير والخمر والمعازف) ورواية بعض السنن: (ليشربن ناسٌ من أمتي الخمر يسمّونها بغير اسمها يُعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات) وفي لفظٍ: (تروح عليهم القيان وتغدو بالمعازف) فالحديث مروي بالمعنى ولذلك اختلفت ألفاظه. ولا شك أن ما يؤخذ من تعدد ألفاظه يدل على استقباح النبي - صلى الله عليه وسلم - لمجموع فعل هؤلاء الفسّاق، ومنه عزف المغنيات لهم على شربهم وفسقهم، فهو مثل حديث (صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من ميسرة كذا وكذا) رواه أحمد ومسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة. فأما الرجال الذين يضربون الناس بسياط كأذناب البقر فهم أعوان الحكام الذين ابتدعوا السياط التي تسمى الكرابيج وصاروا يعذبون الناس بها، وأما النساء الموصوفات بما ذكر فهن مشاهدات في زماننا، ولم يفهم المراد من وصفهن بما ذكر كثيرٌ من العلماء قبل وجودهن، وأنت ترى من وصفهن أنهن يضعن على رؤوسهم شيئًا مرتفعًا شبه سنام البخت من الإبل، وهذا بحد ذاته مباح بالإجماع، ولكنه مع سائر تلك النعوت يمثل حال طائفة من الفواسق الفواتن اللواتي يضللن كثيراً من الناس. *** (تعليم النساء الكتابة) لم يصح في النهي عن تعليم النساء الكتابة شيء، وليس كل ما يرويه الحاكم صحيحًا؛ بل صَحَّحَ في مستدركه على الصحيحين أحاديثَ جزموا بأن بعضها ضعيف وبعضها موضوع، ومنها هذا الحديث الذي يشير إليه السائل: (لا تسكنوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة) رواه في المستدرك من طريق عبد الوهَّاب بن الضحَّاك عن عائشة، وهو كذاب كما قال أبو حاتم، متروك كما قال النسائي، منكر الحديث كما قال الدارقطني: وقال الحافظ ابن حجر في الأطراف - بعد ذكر تصحيح الحاكم له -: بل عبد الوهاب متروك، وقد تابعه محمد بن إبراهيم الشامي عن شعيب بن إسحق، وإبراهيم رماه ابن حبان بالوضع. وابن حبان هو الذي روى حديثه هذا في كتاب الضعفاء، وقال الدارقطني فيه: كذّاب. وأخرج ابن حبان في الضعفاء أيضًا عن ابن عباس مرفوعًا: (لا تعلموا نساءكم الكتابة) وفي سنده جعفر بن نصر وهو متّهم بالكذب كما قال الذهبي. وهذه الروايات الواهية أو الموضوعة معارَضة بروايات صحيحة في مشروعية تعليم النساء الكتابة؛ منها حديث الشفاء التي علمت حفصة أم المؤمنين الكتابة، وقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - مرةً مازحًا: (ألا تعلمين هذه رُقية النملة كما علمتها الكتابة) رواه أحمد وأبو داود بسند رجاله رجال الصحيح، إلا إبراهيم بن مهدي البغدادي المصيصي؛ وهو ثقة كما قال: ابن القيم، ورواه النسائي والحاكم وصححه، وغيرهم، وقد صرّح كثير من العلماء بأن حديث الشفاء يدل على جواز تعليم وتعلم النساء الكتابة، وفي الأدب المفرد للبخاري: أن عائشة بنت طلحة كانت في حِجْرِ عائشة أم المؤمنين تكاتب الرجال، كانوا يكتبون إليها من الأمصار ويهدونها؛ لمكانها من أمِّ المؤمنين؛ فتأمرها أمُّ المؤمنين بأن تحييهم على كتبهم وتثيبهم على هداياهم. وعلى هذا جرى المسلمون فكان فيهم كثير من الكاتبات العالمات بالحديث والأدب والفنون. وهنَّ يدخلن في عموم خطاب الشرع في جميع أحكامه إلا ما خصص، ومن مقاصد الشرع إخراج الأمة من الأمية وتعليمها الكتاب والحكمة كما هو منصوص في كتاب الله تعالى. * * * (حديث جابر في أول الخلق) تجدون الكلام على هذا الحديث وما في معناه من كون نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان نبيًّا وآدم بين الماء والطين وغيره في (ص ٨٦٥-٨٦٩ من مجلد المنار الثامن) ولا عبرة بكلام مثل الشيخ عبد العزيز جاويش في إنكار حديث، ولا في إثابته فإنه ليس من علم الحديث في شيء، وهو جريء على القول في الدين بالهوى والرأي حتى إنه أنكر بعض أحاديث الصحيحين بغير علم، فهو ينكر ما لا يوافق عقله ورأيه. *** (ذكر المفتي للدليل) ليْتكم ذكرتم في السؤال عبارتنا التي استنبطتم السؤال منها فإننا لا نتذكر مسألة الشرطية ولا ننكرها، وإنما نذكر أننا كتبنا مرارًا أنه ينبغي للمعلم والمفتي في الدين أن يبين للناس نصوص الكتاب والسنة في المسائل ليعرفوا أصل دينهم، ومن أين أخذ الحكم الذي لقنوه أو أفتوا به، وهذا هو الواجب الذي أخذ على أهل الكتاب العهد أن يبينوه للناس ولا يكتموه، فإذا تعسّر أو تعذّر على بعضهم فهم الآية أو الحديث - بعد بيانه بقدر الاستطاعة - خرج المفتي من تبعة الكتمان. وأما المسائل التي لا نص فيها بعينها ويتعذر على السائل فَهْم مأخذها، كبعض مسائل المواريث التي يدخلها العول مثلاً، فلا بأس ببيان الحكم فيها بدون ذكر مأخذه. وأما تعويد الناس أخذ مسائل الدين بدون وصلها بأصلها من الكتاب والسنة فهو قطع لحبل الله ورسوله بين المؤمنين، وهو الذي فتح للباطنية وغيرهم من المضلين، باب إضلال المسلمين؛ إذ صارت العامة تَقْبل كل ما يقال لها إنه من الدين، فهذا سبب ما رأيتموه وسميتموه اشتراطًا، ولولا ضيق الوقت لراجعنا ما تشيرون إليه من مظانه، وأجبنا عنه بعينه، والخَطْب سهل إن شاء الله تعالى.