للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مضار البغاء ومفاسده

للزنا مضار ومفاسد كثيرة في الصحة والأخلاق والروابط الزوجية والحياة
الاجتماعية والاقتصادية والإنتاج؛ لأجلها كان محرمًا في الأديان فإن الله تعالى لم
يحرم على الناس شيئًا إعناتًا للناس ولا منعًا لهم من التمتع باللذات التي لا ضرر فيها
وإنما حرم عليهم كل ما هو ضارّ وأباح لهم كل ما هو نافع وما كان فيه نفع وضَرّ
فالترجيح في الشريعة لما فيه دفع المفسدة وحفظ المصلحة والمنفعة جارٍ على الطرق
الموافقة لنظام الفطرة وقوانين المنطق المعقولة، وأشدُّ الزنا ضررًا وأكثر مفاسد
البغاء المستباحُ الذي يتخذه العواهر حرفة تكون معروفة في البلد فكل مَنْ شاء ذلك
تيسر له متى شاء ما دام يملك أجرة البغي.
هذا الضرب من الفسق هو الذي يسرع إفساد الصحة والآداب وتقليل النسل
وإيقاع الشقاق في البيوت حتى تصل إلى درجة يستباح فيها أكثر الأعراض وتفشو
القيادة والدياثة حتى لا يوثق بنسل أحد إلا النادر من الناس وأكثر الشبان الجاهلين لا
يعرفون من أمر هذه المفاسد شيئًا فيقضي الفسق على حياتهم الجسدية والأدبية
والمنزلية من أول النشأة ولا يعرفون من أين جاءهم البلاء بل لا يدرون به إلا بعد
وصوله إلى حد اليأس ولا سيما في البلاد الصغيرة - كطرابلس الشام التي سرى
إليها البغاء الآن - التي ليس فيها مستشفيات تداوى فيها الأمراض والأدواء التي
تتولد من الزنا كالزُّهْرِي والسَّيَلان، ويَعتبر بما يرى فيها من العبر من كان لا
يعرف ذلك من الشبان.
أول رزايا البغاء وأسرعها حصولاً انتشار المرض الزُّهْرِيّ القتال ويا لَيْتَ
هؤلاء الشبان المساكين يعرفون شيئا من عواقب الزهري وما ينتهي إليه لَيْتَهم
يدخلون المستشفي في مثل الآستانة ومصر فيشاهدون بأعينهم بعض المصابين بهذا
الداء ومنه الذي فقد بصره وسمعه ومنهم من سقطت أسنانه وتآكل لسانه، ومنهم من
استؤصلت منه أعضاء التناسل، وأهونهم حالا من كان قريب عهد بالمرض وقد
انتشرت البثور على جسده ولم تصل سمومها إلى أعضائه الرئيسة، ويا لها من
مناظر تَشْخَص لها الأبصار وتَرْجُف لهولها القلوب.
يا ليت هذا الداء الخبيث لم يكن مُعْدِيًا إذًا كان يكون وباله على أولئك الفساق
وحدهم، وهم له مستحقون، ولكنه من الأدواء التي تسْري بضروب من العدوى لا
يعرف طرق التوقِّي منها إلا من لهم إلمام بعلم الصحة وهم في بلادنا قليلون، فيا
حسرة على أهل بيت يُغْوي الشيطان أحدهم فيقوده إلى تلك المواخير النجسة فيعود
حاملاً إلى أهله الأبرياء المساكين ذلك السم القتال فيلقح به امرأته وأولاده وإخوته
وأخواته وربما أصاب به والديه فإنه قد ينتقل بفضل الطعام وسؤر الشراب وبالتقبيل
واللمس إذا كان هناك جرح أصابه ذلك السم ولو جرح الخِلال في اللثة.
ومن رزايا هذه الفاحشة ومصائبها أن من افْتُتِنَ بها يصير يؤثر الحرام على
الحلال فإن كان أعزب تضعف داعية الزواج الشرعي في نفسه ولذلك يقل الزواج في
جميع البلاد التي يفشو فيها الزنا ومضار ذلك كثيرة منها قلة النسل ومنها الأيامَى
من النساء وذلك مدعاة لخروجهن من حظيرة العفة والصيانة حتى إن العوانس
والعذارى الأبكار يلجأن أحيان يلتمسن الأخدان في البيوت السرية، فكيف يكون حال
الأرامل؟ وإن كان متزوجًا يهجر امرأته ولو جميلة ويأوي إلى بَغِيّ دونها جمالاً
وفَتاءً وإن شاركه فيها من لا يحصى من أسافل الناس وبذلك يضعف غيرته على
العرض ويضيق ذرع امرأته ويخونها الاصطبار فتنتقم منه والجزاء من جنس
العمل.
يتوهم بعض المغرورين بأنفسهم أنه يسهل عليهم الجمع بين التهتُّك في الفسق
وبين صيانة نسائهم عنه وإن قل نصيبيهن منهم، وإنما ذلك هو الجهل والغباوة
وعدم الخبرة والتجربة فما ذكرناه من إفضاء تهتك الرجال في الفسق إلى فساد نسائهم
هو من القضايا المعقولة الثابتة بالتجربة المؤيدة بحديث (عِفّوا تَعِفّ نساؤكم) فإن
استبْعَدَتْه عقولهم الضعيفة فليعلموا أن المشاهدة والتجربة أقوى حجة من نظريات
الفلاسفة الحكماء، أفلا تكون أقوى من نظريات الجهلة الأغبياء؟ ، ولو كانت
النظريات المتبادرة إلى الرأي أقوى من علم المختبر للشيء والعالم به من المشاهدة
أو خبر التواتر عن المشاهدين والمجربين لكان من المردود بادئ الرأي ادعاء رغبة
الفاسق عن زوجته الجميلة الطاهرة المقصورة عليه إلى عاهرة دونها في كل شيء
ولكنه واقع، ومن أغرب وقائعه أن امرأة في مصر بحثت عن سبب هجر زوجها
لمضجعها زمنًا طويلاً فعلمت أنه يأوي إلى بعض مواخير الفسق الخفية فذهبت إلى
قوَّادة الماخور وأعطتها صورتها ورغبت إليها أن تعرضها في الصور اللواتي عندها
على فلان (الذي هو زوجها) فلما عَرَضت الصورة عليه جذب بصره حسن صورة
امرأته ولم يفطن لها لأنه لم يخطر في باله أن تعرف ذلك المكان أو تميل إلى
الفاحشة مثله وكانت أجمل من جميع النساء اللواتي يختلفن إليه فلما طلبها من القوادة
طلبت منه مالاً كثيرًا فوق ما كانت تطلبه عادة فبذله وبعد أن اجتمع بامرأته وهو لا
يعرفها وأظهر لها أنه كان أسعد الناس بلقائها وأنه ما سُرَّ في حياته بامرأة كسروره
بها تعرفت إليه ووبخته وقالت له: كيف تكون أسعد الناس بقربي في الحرام مع
الخسارة وبذل المال لهذه القوَّادة الملعونة ولا تكون أسعد الناس في الحلال مع حفظ
المال.
ألا فليعلم أهل طرابلس الشام ومن على شاكلتهم من المتعرضين لإنشاء البغاء
في بلادهم أنهم إذا لم يتداركوا هذا الأمر قبل ثباته واستقراره فإن أعراضهم على
خطر وأن ما عندهم من الغيرة والحماسة الآن سيكون في أول العهد بهذا البلاء سببًا
لسفك الدماء ثم تضعف الغيرة رويدًا رويدًا حتى تكثر القيادة والدياثة كما في جميع
البلاد التي فشا فيها البغاء والبشر متشابهون في الاستعداد لذلك والعلل مربوطة
بمعللاتها والأسباب موصولة بمسبباتها.
إن الغيرة على الأعراض في مثل طرابلس الشام شديدة عند جميع طبقات
الناس حتى إن أجهل الجاهلين وأفسقهم ليندفع إلى قتل من يعلم أنه اعتدى على
عِرْض أيَّة امرأة من عشيرته بلا مبالاة ولا حذر من العاقبة فإذا استقر أمر هؤلاء
المومسات اللواتي فتحْنَ باب البغاء في هذه البلدة وترتب على ذلك أثره الطبيعي من
فساد البيوت وابتذال الأعراض فلابد أن يكثر سفك الدماء فيها، فهل تفكر العلماء
والفضلاء وأهل الغيرة والنجدة في هذه العواقب ولم يبالوا بها أم هم عنها غافلون؟
يغلب على ظني أنه لو جمع بعض العقلاء فتيان البلد الشجعان (الأبضايات)
وبين لهم أن هذه الفتنة ستكون سببًا لتهتك الأعراض وسفك الدماء وفساد الصحة
وإضاعة الأموال لسبقوا العلماء إلى السعي في منعها وتلافي شرها قبل تمكنها
ورسوخه.
إنما أخرت الإشارة إلى ذهاب المال لأنه في نظر أهل وطننا دون العرض
والنفس ولكنهم إذا اعتادوا هتك العرض يرجحون المال فإن البلاد التي فشا فيها الزنا
كلها قد كثرت فيها القيادة والدياثة لأجل المال حتى إن الرجل لَيَتّجر بعرض امرأته
وبناته، وهذا مما يعده أكثر بلادنا من المحال الذي لا يتصور وقوعه منهم لظنهم أن
شدة الغيرة صفة من صفاتهم الطبيعية التي لا تتغير وكان غيرهم يظنون هذا الظن
الباطل ولم يشعروا ببطلانه إلا بعد موت الغيرة بفشو الفسق على أن المال عزيز
عند كل الناس في كل مكان وزمان والمحافظة على الثروة هي أساس قوة الأمم
وعِزَّتها في هذا العصر، ولست أعني بإضاعة الفسق للثروة وذهابه بالأموال ما
يتبادر إلى أذهان الأكثرين الذين أوجه إليهم هذا الخطاب من الشفقة على الشاب
الفقير الذي يضيع معظم كسبه بجعله من نصيب هؤلاء المومسات وإنما أعني ما هو
أعظم من الشفقة على هؤلاء الظالمين لأنفسهم أعني أن هذا البغاء يذهب بحظ عظيم
من مال الأمة إلى جيوب الأجانب الذين أذلوها وبَزّوا دولتها باستعلائهم عليها بالثروة
فإن معظم المومسات في الشرق من اليونان والرومانيات والنمساويات والفرنسيات
... إلخ، وهن يرسلن معظم ما يسلبنه من فساقنا إلى بلادهن فيكون نقصًا من ثروتنا
ومزيدًا في ثروة أممهن ودولهم ولولا ما يأخذه اليونانيون واليونانيات من مصر
وغيرها من البلاد الخارجية لاضمحلت دولتهم وضعفت أمتهم بالفقر المدقع.
إن مفاسد البغاء في بلاد إسلامية صغيرة مثل طرابلس الشام ستكون أعظم
وأكثر من هذه في البلاد التي آدابها غير إسلامية وفي البلاد الإسلامية الكبيرة التي
يسهل فيها إخفاء الفسق قبل أن يخِفّ وَقْعه على الجمهور بالاعتياد الذي يضعف
الدين ويفسد الفطرة، فلا يمكن بيان تلك المفاسد بالتفصيل في مقالة أو مقالات قليلة
وإني لأعجب من سكون حَمَلَة الأقلام في طرابلس عن ذلك وعن حفز الهمم لمقاومته
وحثها على تلافيه كما أعجب من ضعف العلماء والفضلاء في المطالبة بمنع هذا
المنكر.
هذا وإنني قد بلغت خبر ما حل بطرابلس مولانا شيخ الإسلام وهو الذي
عرفت منه النجدة والغيرة فإذا شكا أهل هذه البلدة إلى الحكومة الإدارية ولم تُشْكِهم
فليرفعوا الأمر إليه وأنا الضمين لهم بأنه يأخذ بيدهم ولعله عهد إلى نِظارة الداخلية
بوجوب الاهتمام بسماع شكوى الأهالي في مثل منع هذه المنكرات فيجب على أهل
طرابلس أن يكونوا قدوة صالحة لغيرهم في الخير ولا يكونوا قدوة سيئة لهم
بالسكوت على مثل هذا المنكر الذي سيحل بهم مثلهم والله الموفِّق والمعين.