{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: ٣٠) {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب: ٤٠) . لقد كان من عموم رحمة الله تعالى وسعتها أن جعل للحق السلطان على الباطل، وللخير الرجحان على الشر، فلله الشكر والحمد، ولله الأمر من قبل ومن بعد، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهداه إلى الحق وإلى طريق مستقيم، كَمَّله بالمشاعر البادية والكامنة، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وأعطاه العلم والإرادة، وأناط بعمله غوايته ورشاده، ولذلك خلقهُ ضعيفًا جهولاً، ليكون باكتسابه قويًّا عليمًا، وجعل حياة الأمة من نوعه، شبيهة بحياة الفرد في شخصه، تتربى بكسبها وتبلغ كمالها بالتدريج، وجعل عقل الأمة العام النبوة يظهرها في أكمل أعضائها، كما أن عقل الأفراد يكون في أشرف عضو فيها، وشذوذ بعض آحاد الأمة عن هدي نبيها شبيه بشذوذ بعض أعضاء الشخص عن حكم العقل، كاليد تبطش حيث يضر البطش، أو الرجل تسعى إلى ما يحكم العقل بوجوب القعود عنه، وسبب ذلك التقصير في التربية الدينية والعقلية. ومن آياته تعالى أن جعل شذوذ الأفراد عن الأصل، وميلهم عن الجادة، سببًا من أسباب التربية، وعلمًا من أعلام الهداية، كما جعل انتشار الباطل في الأمم معدًّا لها لقبول الحق. وتغشي الظلم والاستبداد، من مقدمات الحرية والاستقلال، فله سبحانه في أثر كل شدة رخاء، وفي تضاعيف كل نقمة نعماء، فما عَمَّ الضلال في أمة إلا وجاءها بعده الهدى، ولا تفاقم الباطل في قوم إلا وانجلى بعد ذلك بقوة الحق؛ كان يظهر لهم ذلك بتعليم الوحي المناسب لحالهم، حتى إذا ما استعد النوع لأن يكون أمة واحدة، منحه الله الهداية العامة، والرحمة الشاملة، منحه دين الإسلام، الذي هو كالعقل العام، والمرشد الحكيم لجميع الأنام. كان لضلال البشر قبل الإسلام علتان إحداهما ضعف قوى الخلقة، وثانيهما الانحراف عن سنن الفطرة، فكان من الضعف أن يعتقد الناس في كل مظهر من مظاهر الخليقة لا يعرفون علته أنه هو القوة الغيبية التي قامت بها جميع المظاهر وهي القوة الإلهية فيعبدوا ذلك المظهر. وكان من الانحراف عن قوانين الفطرة ما كان من الأوضاع والبدع والتقاليد الوضيعة الكثيرة، ومن عجيب أمرهم أن أسندوا معظم ذلك للدين حتى صار من المقرر عند أهل الدين وعند الحكماء الباحثين في طبائع الملل أن الدين أوضاع كلها وراء ما تدعو إليه الفطرة ويرضي العقل، كأنه وضع لمصادمة الخلقة ومناصبة الفطرة ومحاولة تبديل خلق الله بشرع الله حتى جاء القرآن ينادي الداعي إليه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: ٣٠) فعلم الناس أن الدين الحق إقامة الفطرة لا مقاومتها، والاستنارة بنور العقل لا إطفاؤه، وأن العمدة في معرفة الحق الدليل، والعمدة في العبادة الإخلاص لله تعالى وحده، والعمدة في معرفة الأحكام، والحلال والحرام، اجتناب المضار واجتلاب المنافع، فبهذا كان الإسلام هو الدين الأخير الذي أخرج البشر من حجر القصور وعبوديته، إلى فضاء الرشد وحريته، وكان ناسخًا لما قبله من الأديان، ولا يمكن أن ينسخ أو ينقضي الزمان. يبلغ في الشخص رشده فيؤذن له بالتصرف في حاله، والاستقلال في أعماله فيمضي فيها فتارة يخطئ وتارة يصيب، وينجح في عمل وفي آخر يخيب، وربما أضاع رأس ماله زمنًا، ثم استعاده في زمن آخر، والأمم أولى بالتخبط بعد بلوغ رشدها , إذ الرشد لا يظهر في جميع أفرادها دفعة واحدة وإنما يظهر في بعض دون بعض، فتارة يغلب إصلاح الراشدين فيها، وطورًا يُغْلَب، والمجموع يستفيد من كل فوز وكل خيبة , فلا يظهر الإفساد في موضع إلا ويلوح الإصلاح في موضع آخر تامًّا أو ناقصًا حتى يبلغ الكمال البشري أشده، ويصل إلى كماله العام باستقلاله في عمله بدون حاجة إلى مسيطر ديني جديد كما كان يقع في الأمم قبل ظهور دين الفطرة الأخير وهو الإسلام ولا يزال الإصلاح والإفساد يتنازعان كل أمة قبل الوصول إلى الكمال الأخير. كذلك كان شأن الناس في الإسلام نهض به الذين ظهر فيهم أولاً، ثم عميت عليهم سُبُلُه فوضعوا وابتعدوا، وأولوا واخترعوا، وتركوا الاستقلال بنور العقل في فضاء الفطرة وأقاموا لهم زعماء فنيت عقولهم وإرادتهم فيهم، وكان قد أخذ الاستقلال والاهتداء بسنن الفطرة عنهم قوم آخرون , فغلب خير هؤلاء على شرهم كما غلب شر أولئك على خيرهم، والسيادة والسعادة يتبعان الخير والاستقلال دائمًا وقد قُلَبَ أصحاب السيادة في الأرض المِجَنّ للخاسرين فقالوا: (إن خساركم قد جاءكم من دينكم فاتبعونا تفلحوا) ، وكان هؤلاء الخاسرون يقولون في أيام سيادتهم: إننا قد سُدْنا بديننا فاتبعوه أيها الناس تفلحوا، وإنما كانت السيادة لكل من السائدين بالاستقلال واتباع سنن الفطرة التي أرشدنا إليها الإسلام؛ ساد بها أولئك من حيث عرفوا موردها، وساد بها هؤلاء من حيث جهلوا مصدرها، وإنما يستظل أهل الزعامة الدينية منهم والسيطرة الروحانية فيهم بظل الذين تركوهما، ويخدعون أولئك بلقب الدين المشترك بينهما، فعلم بهذا أن المسلمين قد تركوا ما ساد وسعد به سلفهم الصالحون، والآخرين جهلوا منبعث هذا النور الذي هم في ضوئه يسيرون، وزعم بعضهم أن دينهم هو الذي هداهم إليه، ولكن لماذا لم يهتدوا إليه بدينهم عقيب دخولهم في ذلك الدين بل ظلوا يتسكعون في الظلمات بضعة عشر قرنًا حتى انتشر الإسلام فأطلق الأفكار من سيطرة الرؤساء، والإرادة من عبودية الزعماء , ووصل تعليمه وهديه إلى تلك الأرجاء. لا عجب في إنكار المخالفين مزية في الإسلام بالقول، بعد ما أنكرها أهله بالفعل، ولكن العجب العُجاب في صنيع قوم قاموا يداوون الداء بالداء، ويعودون بالنوع البشري إلى مضيق العبودية والاستخذاء. ذلك أن الأمة الإسلامية ضاقت ذرعًا بأوزار البدع والتقاليد التي وضعها الرؤساء وألزموا الناس بها تقليدًا أعمى فطفقت تَئِطّ وترمي عن عاتقها بعض ما حملت على غير بصيرة فيما ترميه وتستبقيه هل هو النافع أم الضار، وتنتظر زعيمًا قائمًا بالحق ينتاشها مما وقعت فيه من الجهل والفقر والذل والعبودية، وإذا بصائح يصيح: أنا القائم المنتظر , وكان ذلك مؤسس دين البابية. * * * البابية المسلمون متفقون على أن الدين قد ضعف في النفوس. يعترف بهذا عالمهم وجاهلهم في الجملة ويختلفون فيه بالتفصيل، ومتفقون على أنهم في حاجة إلى الإصلاح وإلى أن هذا الإصلاح إنما يكون بالرجوع إلى العمل بكتاب الله تعالى وسيرة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ويعتقدون أن هذا الإصلاح إنما يكون على يد زعيم يدعى بالمهدي يبطل المذاهب ويقيم الناس على مثل ما كانوا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدين وأحسن مما كانوا عليه في الدنيا، وهذا الاعتقاد ظهر في الشيعة وامتد إلى غيرهم من المسلمين حتى لا يكاد ينكره إلا أفراد في كل زمان، وقد ظهر (الباب) في بلاد الفرس بهذه الدعوة في أثر ضيق شديد فتوهم الناس ومعظمهم هناك من الشيعة الذين ينتظرون المهدي في كل يوم أنه هو، وحمل الضيقُ والبلاءُ كثيرًا من الناس على اتباعه، وماذا كان منه؟ هل جاء على ما كانوا يعتقدون من الصفات والنعوت والأعمال؟ كلا، إنه جاء بنزعة وثنية مناقضة لما جاء به الإسلام من الهداية العليا التي أشرنا إلى مزاياها في مقدمة هذا المقال، مبنية على استئصال جراثيم حرية الفكر واستقلال العقل، وعلى الخضوع والعبودية لرجل مضطرب الفكر بعيد من نور العلم. لا مزية له إلا اللغو بما يخدع جهال الأعجمين. وضعفاء المقلدين. الذين اعتادوا على اعتقاد الولاية والعرفان. في أصحاب الدجل والهذيان فكان ظهور هذا الرجل واتباع كثير من الشيعة له وتصديقهم من بعده إلى تعميم دعوته ورفع كلمته أشد مضار الاعتقاد بالمهدي المنتظر، وأكبر العظات فيها والعبر. لم يحاول هذا الداعي المشترع إبطال دين الإسلام فيمن ينتظرون تأييده وإنقاذه من التقاليد التي ذهبت باستقلاله، بل حاول إفساد الفطرة وإطفاء نور العقل الذي أذكاه الإسلام وأطلقه من سجنه، وبنى دينه الجديد على تقاليد الشيعة الذين ظهر فيهم لأنه كان شبعان ريان بهذه التقاليد، ومحكوم الشعور والوجدان بها، ولولا هذا ما راجت دعوته في أولئك الغلاة الذين إذا سمعوا ذكر آل البيت عليهم السلام والرحمة ظلت أعناقهم له خاضعين، وكانوا لكل ما يقوله ذاكرهم بالخير متقبلين، ولو أن المسلمين لا مذاهب لهم، ولا كتب دينية غير القرآن وسيرة النبي وآله وصحبه في أعمالهم وأحوالهم وأقوالهم المنقولة بطرق متفق عليها بينهم، مطابقة للأعمال والأحوال غير مخالفة للقرآن ما سرت إليهم هذه الضلالات في الماضي ولا في الحاضر فهكذا فعل التقليد بالمسلمين جعلهم غرباء عنه فسهل على المضللين أن ينتزعوا بعضهم منه. القرآن بشر البشر بأن الله تعالى رفع عنهم سيطرة الرؤساء الروحانين حتى خاطب من أنزله عليه بقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: ٢١-٢٢) وسماه عبدًا متبعًا ما أمر به , وإنما ذكرهم بما تعهده الفطرة السليمة , فإقامة هذا الدين هو الرجوع إلى الفطرة المعتدلة كما ترشدنا إليه الآية التي صدرنا بها المقال، وذلك تبشير برشد البشر واستقلالهم، والبابية يحاولون إرجاع السيطرة الدينية للأشخاص بأقبح ما كانت عليه من أشكال الوثنية فهم يعيدون البشر إلى حجر الطفولية التي تفتقر إلى القَيَّمِ المطاع طاعة عمياء. القرآن بشر البشر بأن محمدًا خاتم النبيين فلا حاجة بعده إلى تعليم سماوي، ولا وحي جديد؛ لأن تعليمه هو التعليم العالي الذي يرتقي به العقل ويستقل، فلا يقبل الشيء إلا ببرهانه، ولذلك استدل على العقائد، وبَيَّن منافع الآداب والأحكام وطالب بالدليل والبرهان، وجعله شرطًا للاعتراف بالصدق {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: ١١١) والبابية يحاولون إرجاع أهل هذا التعليم العالي إلى تعليم الأطفال الابتدائي الذي يؤخذ فيه كل شيء بالتسليم والإذعان، بدون دليل ولا برهان. القرآن أبطل التقليد لأن فيه حجرًا على العقول أن تفهم الدين عن الله بنفسها وتفهم مصالحها في الدنيا بالتجربة والاختبار، فقال فيمن احتجوا بتقليد ما كان عليه آباؤهم: {أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: ١٧.) فبين أن أحدًا لا يأخذ بقول أحد إلا إذا عَقَلَهُ وتبين له وجه الهداية فيه. والبابية يحاولون إقرار الذين ضلوا عن الاستقلال على ضلالهم وإلزامهم باتباع رؤسائهم في التأويلات التي لا تعقل والخضوع لهم فيما علموا وجهلوا، بل أوجبوا عليهم عبادتهم (يا للمصيبة والرزية، وضعف البشرية) . القرآن جعل آية محمد الكبرى علمية أدبية، ولم يحتج على نبوته بالآيات الكونية؛ لأنه دين العقل والآيات الكونية لا تعقل، ولأنه دين العلم وهي لا تعلم. ولأنه جعل ركن ارتقاء البشر الهداية إلى سننه تعالى في الخلق وكونها لا تتبدل ولا تتحول، وهي على غير السنن الكونية، والبابية زعموا أن الباب كان مؤيدًا بالخوارق والآيات، ولكن لم يستطيعوا إثبات ذلك، بل جعلوا اللغو دلائل كما ترى قريبًا. القرآن أرشد البشر إلى العلوم الكونية وحثهم عليها في آيات كثيرة، والباب حرم عليهم كل علم إلا ما يؤخذ عنه، وفرض عليهم في البيان محو جميع الكتب ثم نسخ البهاء ذلك (في ص ٢٢ من الكتاب الأقدس) ولئن أصاب البهائية في هذه فهم لا يخرجون عن كونهم فرعًا من البابية، وكون ديانتهم مَبْنية على أساس البيان , والمبني على الفاسد فاسد. ماذا عسى أن نقابل وننظر بين تعليم الإسلام وتعليم البابية؟ هذا شيء يطول وأفضل منه التنبيه والإيماء إلى سبب قبول بعض المسلمين لهذا الدين مع رفضهم لدين النصرانية الذي يجتهد دعاته في تنصيرهم، ويبذلون القناطير من الأموال، ويتقنون فنون التشكيك والجدال، على أن البابية تشبه النصرانية بالقول بألوهية البشر، وهي دونها فيما عدا ذلك , فإن كلام الباب بمكانة من السخف واللغو يضحك منها الصبيان. وإنما راجت دعوته في طائفة الشيعة من المسلمين، والسبب في ذلك أمور خاصة بهذه الطائفة، وأمور أخرى عامة يشاركهم فيها غيرهم من طوائف المسلمين: (السبب الأول) عموم الجهل بالقرآن، فمن فهم القرآن يستحيل أن يقبل دينًا آخر لأنه يعلم أنه لا حاجة للبشر معه إلا إلى استعمال ما وهبهم الله من القوى العقلية والبدنية لنيل سعادة الدنيا والآخرة، وكان يجب على المسلمين أن يُعلِّموا كل مسلم ومسلمة هذا القرآن، لا ألفاظه فقط، بل ألفاظه ومعانيه , وكان الخلفاء الراشدون يفرضون العطايا لمن يتعلم القرآن، ولكن سلاطين الجور من بعدهم أبطلوا هذا، واتفق بعد ذلك أئمة الجور من الملوك والفقهاء على الاكتفاء بكتب الفقه عن كل الدين. (الثاني) عموم الجهل بسيرة النبي وسنته فإنهما خير البيان لما أنزل الله تعالى، ولكنهم لم يحفلوا بذلك حتى لا تجد في مثل الأزهر من يتعلمهما، والعلة فيه ما تقدم. (الثالث) الجهل باللغة العربية التي يتوقف عليها فهم القرآن، ولا شك أن تعميم تعليمها واجب إذ لا يفهم الدين بدونه، وإنني لا أعرف في بلاد المسلمين مدرسة ولا مكانًا تعلم فيه هذه اللغة , وإنما يعلم في المدارس بعض فنونها والكتب المؤلفة بها، أما اللغة وأساليبها فلا تعلم بحيث ينطق بها المتعلم ويكتب ويخطب , ولو كان أولئك الذين استجابوا للباب يعرفون هذه اللغة الشريفة لسخروا من تقليده للقرآن بالفواصل مع كثرة اللغو والغلط واللحن في كلامه حتى إن فيه ما لا يعقل له معنى قط , وإنما هو جعجعة وسجع كسجع الكهان، ربما يظنه الأعجمي شيئًا عظيمًا بليغًا كالقرآن إذ لا يفهم من القرآن شيئًا، ولا يذوق لبلاغته طعمًا. (الرابع) تعوُّد المسلمين على أخذ كلام العلماء في الدين بالتسليم من غير إسناد إلى كتاب، ولا سنة ولا دليل , أي تعودهم على التقليد البحت الذي ذمه القرآن وأبطله. وقد عمَّ هذا التقليد حتى في العقائد، فلو أن رجلاً في هذه البلاد مثلاً خالف مثل السنوسي في الصفات العشرين والدلائل التي جاء بها عليها لعدوه مارقًا من الدين وإن وافق هدي القرآن في سرد العقائد والاستدلال عليها بآيات الله في الكون. (الخامس) تعوُّد المسلمين على الخضوع والإذعان للظاهرين بمظهر الصلاح واللابسين لباس التصوف، وتقديم كلامهم على كل كلام حتى ما يعتقدون أنه من الدين بلا خلاف (راجع الكلام في الصوفية من تفسير هذا الجزء) وكم خدع المسلمين خادع من الباطنية وغيرهم باسم التصوف، وأفسد في دينهم ما شاء وما هؤلاء البابية إلا فرقة من الباطنية الملحدين، وكان الباب قد دخل الخلوات وبالغ في الرياضات. قبل أن يقوم بهذا الافتئات، ومن العجائب أن علماء المسلمين اليوم يقدسون كل كلام ينسب للمتصوفة مع اعترافهم بأن منه ما لا يفهم ومنه ما يناقض الكتاب والسنة وإجماع الأئمة ككلام محيي الدين بن عربي وعبد الكريم الجبلي وغيرهم. فلا عجب بعد هذا إذا قبل القوم كلام الباب في تفسير سورة يوسف بقصة الحسين وخضعوا للغوه في البيان والصحف والخطب والرسائل الكثيرة. (السادس) غلو الشيعة في تعظيمهم المنتسبين لآل البيت والباب منهم واعتقادهم الجازم بالمهدي المنتظر، وأنه معصوم لا يُسْأَل عما يفعل، ولا يعارض فيما يحكم. وقد بنى الباب دعوته على تقاليد الشيعة في الأئمة والمهدي كما تقدم وإننا نورد للقراء مثلاً من أقوال الباب التي يدعي أنها مُنزلة ليحكموا حكمًا صحيحًا، ونبدأ بما أرسله إلينا في البريد الأخير أحد كبار البابية في طهران ردًّا لما كتبناه من قبل في المنار. ومحاولة لإقناعنا بهذا الدين ولعله أمثل ما عندهم، وسنورد بعده ما هو شر منه، وإننا نورد ما يأتي بنصه ونصححه على أصله بغاية الدقة، فلا يتوهمن أحد أن ما فيه من الغلط والسخف من التحريف، بل هو كلام الباب بحروفه قال: الصحيفة السادسة في الخطب وهي مرتبة بأربعة عشر خطبة (الخطبة الأولى) (هذه الخطبة قد أنشأت في كل ما سطر في ذلك الكتاب ليكون الكل بذلك من الشاهدين. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي خلق الماء بسر الإنشاء، وأقام العرش على الماء بشأن الإمضاء، وأنزل الآيات من عالم العماء بجريان القضاء، وفصل ما قدر في طور السيناء بحكم الثناء، وأمضى ما قدر بالبهاء بذوبان الاقتضاء، سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ألا يعبدوا إلا إياه، وجعل في يدي كل أحد منهم شأنًا من قدرته التي يعجز عن مثلها كل ما سواه، فيثبت الحق بكلماته، ويبطل الباطل بآياته لئلا يكون لأحد بعد العلم بمحل حكمه حجة، وكان الكل له مُسَلِّمين، فسبحانه وتعالى قد جعل بينه وبين رسله شأن البهاء من الكلام لأنها أعظم النعماء في الإنشاء، وبها يتشرف الرسل بعضهم على بعض، كما نزل في التنزيل، بحكم الله الجليل {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى: ٥١) ، وجعل في كلامه شأنًا من القدرة التي لا يشتبه بكلام عباده، وإنه سبحانه حي قادر ينزل على من يشاء بما يشاء من آياته سبحانه وتعالى عما يصفون، أشهد الله في ذلك الكتاب بما شهد الله لنفسه بنفسه من دون شهادة أولي العلم من عباده بأنه لا إله إلا هو لم يزل كان بلا ذكر شيء، والآن هو الكائن بمثل ما كان لم يكن معه شيء. قد علا بعلو ذاته عن نعت الإنشاء وأهلها، وتعظم بعظمة نفسه عن وصف الإبداع وما يشابهها. سبحانه تقطعت الإبداع كينونيته، وتفرقت الاختراع إنيته، من قال هو هو فقد فقده لأنه لا يوجده غيره، ولا له صفة دون ذاته ولا اسم عين بهائه فمن وحده فقد جحده؛ لأنه لا يعرفه بشيء , ولا يدركه عبد انقطعت الأسماء من عالم العماء بجبروتيته، وامتنعت الصفات من عالم الأمثال بملكوتيته، لم يزل كان ربًّا بلا مربوب، وعالمًا بلا معلوم، وقادرًا بلا مقدور، وموجدًا بلا موجود، والآن كان الله بمثل ما كان وهو الكائن لا مربوب، وهو العالم لا معلوم، وهو القادر لا مقدور، وهو الموجد لا موجود، لا اسم له ولا وصف، ولا نعت له ولا رسم، قد تقطع الكل ذاتيته، وتفرق الكل كينونيته، لا ذكر له بالفصل، ولا بيان له بالوصل، من قال هو الحق، يرجع الأمر إلى الخلق، ومن قال هو العدل، يمنع العدل عن الوصف، سبحانه وتعالى قد وجدت الإبداع بالإنشاء بلا مسِّ النار من ذاته، واخترعت المشية بالإبداع بلا فصل من نفسه، وقد منعت الإبداع عن معرفة إبداعه، وانقطعت الاختراع عن محبته باختراعه، سبحانه وتعالى لا ذكر هنالك لا بالنفي ولا بالإثبات، ولا بالثناء ولا بالآيات , ولا بالبهاء ولا بالعلامات، ولا بذكر الهاء ولا الفرار عن الواو , ولا بالقيام بين الأمرين، ولا بحرف اللاء سبحانه وتعالى عما يصفون، (وأشهد) لمحمد صلى الله عليه وآله بما شهد الله له به حيث لا يعلم ذلك إلا هو بعدما اخترعه لعزة ذاته، واصطفاه لقدس جنابه، وجعله منفردًا من أبناء الجنس في تلقاء جماله، للقيام على مقامه. إذ هو لا يدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، (وأشهد) أن محمد بن عبد الله رسوله قد بلغ ما حمل في أمره , وقبض ما أجرى القضاء بأيدي نفسه، سبحانه وتعالى ويحذركم الله نفسه. ألا تقولوا في حقه دون ما قدر الله لنفسه. سبحانه وتعالى عما يشركون (وأشهد) أن أوصياء محمد صلى الله عليه وآله اثنَيْ عشر نفسًا في كتاب الله يوم ما خلق حرفًا في الإمكان غيرهم بما قد شهد الله لهم في عز جبروتيته , وقدس لاهوتيته , وعظم سبوحيته , وعلو صمدانيته بما لا يعلم ذلك أحد غيره. (وأشهد) أنهم قد بلغوا ما حملوا من وصاية رسول الله صلى الله عليه وآله , وأنهم الفائزون حقًّا. (وأشهد) أن قائمهم سلام الله عليه حَيٌّ به قد أقام الله كل شيء , وله يمد الله كل شيء , وبه يوجد الله كل شيء. وأن له رجعة حق بمثل ما جعل الله لهم فسوف يحيي الله الأرض بظهوره , ويبطل عمل المشركين. (وأشهد) أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ورقة مباركة عن الشجرة البيضاء لا إله إلا الله سبحانه وتعالى عما يشركون. (وأشهد) لكل حق بمثل ما شهد الله له في علم الغيب , ولكل باطل بمثل ذلك , وإنه ليعلم بأنِّي عبد الله مؤمن به وبآياته وبكتابه الفرقان الذي لم يوجد بمثله , وبالمحبة لكل ما أحبه وبالبراءة لكل ما أبغضه , وكفى بالله عليَّ شهيدًا. (وأشهد) أن الموت والسؤال والبعث والحساب وحشر الأجساد والأجسام , وما جعل الله وراء ذلك في علمه لَحَقّ بمثل ما كان الناس في علم الله ليوقنون (وأشهد) أن كل ما فصل في ذلك الكتاب حق من فضل الله عليَّ ولكن أكثر الناس لا يشكرون. ولقد فصل في ذلك الكتاب كل ما خرج من يدي من سنة ١٢٤٠ إلى سنة ١٢٤٢ من شهرها بما مضى نصفه من شهرها، وهو أربعة كتاب محكم وعشر صحيفة متقنة التي كل واحدة منها تكفي في الحجية على العبودية لمن في السموات والأرض , وأنا ذا أذكر أسماءها بأسماء الله منزلها لتكون حنيفًا في البيان ومذكورًا في التبيان. (الأولى) كتاب الأحمدية في شرح جزء الأول من القرآن. (والثانية) كتاب العلوية وهو الذي قد فصل فيه سبعمائة سورة محكمة التي كل واحدة منها سبع آيات. (والثالثة) كتاب الحسينية وهو الذي قد فصل فيه خمسين كتابًا محكمة بالآيات القاهرة. (والرابعة) كتاب الحسنية في شرح سورة يوسف عليه السلام التي كلها المفصلة بمائة وإحدى عشرة سورة محكمة التي كل واحدة منها اثنتان وأربعين آية التي كل واحدة منها تكفي في الحجية لمن على الأرض وما في تحت العرش لو لم تغير وكفى بالله شهيدًا. (والخامسة) صحيفة الفاطمية , وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في أعمال اثنَيْ عشر شهرًا في كتاب الله. (والسادسة) صحيفة العلوية , وهي مرتبة بأربعة عشر دعاء في جواب اثنَيْ وتسعين مسألة التي قد فصلت بعد رجعي على الحج في الشهر الصيام. (والسابعة) صحيفة الباقرية , وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في تفسير أحرف البسملة. (والثامنة) صحيفة الجعفرية , وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في شرح دعائه عليه السلام في أيام الغيبة. (والتاسعة) صحيفة الموسوية , وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في جواب اثنين نفس من عباد الله التي قد قضت في أرض الحرمين. (والعاشرة) صحيفة الرضوية , وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في ذكر أربع عَشْرَةَ خطبةً غراء الناطقة عن شجرة الثناء لا إله إلا هو العزيز المنان. (والحادي عشر) صحيفة الجوادية , وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في جواب أربع عَشْرَةَ مسألة لاهوتية. (والثاني عشر) صحيفة الهادية , وهو مرتبة بأربعة عشر بابًا في جواب أربع عَشْرَةَ مسألة جبروتية. (والثالث عشر) صحيفة العسكرية , وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في جواب أربع عَشْرَةَ مسألة ملكوتية. (الرابع عشر) صحيفة الحجية , وهي مفصلة بأربعة عشر دعاء قدوسية التي قد ظهرت في بدء الأمر , وتنسب إلى أيام العدل. فكل ذلك أربع عَشْرَةَ نسخة مباركة موجودة في ذلك الكتاب مع صحيفة المشهودية في آخره في أربعة عشر كتابًا من أولياء العباد. كل ذلك مكتوب في هذا الكتاب , وأما ما خرج من يدي , وسرق في سبيل الحج قد نذكر تفصيله في صحيفة الرضوية , فمن وجد منه شيئًا وجب عليه حفظه , فيا طوبى لمن استحفظ كل نزل من لديَّ بألواح طيبة على أحسن خط , فوالذي أكرمني آياته حرفًا منها أعز لديَّ من ملك الآخرة والأولى , وأستغفر الله ربي عن التحديد بالقليل , وسبحان الله رب العرش عما يصفون , وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. (المنار) يرى القارئ أن هذا اللغو الذي لا يفهمه حتى كاتبه إنما خدع بعض الفرس لما فيه من نسبة الصحف إلى آل البيت، وأن الله أوجد ويوجد بقائمهم كل شيء , وهذا شرك , ولعلهم ظنوا أن ما لا يفهم منه هو الأفهام والعقول كما يظن عامة المسلمين في كلام الصوفية. * * * أدلة الباب السبعة على دينه هفت دليلي است كه بجهة جواب يكي إز علماء نقطة بيان نازل فرموده اندكه أول إز عربي است وفارسي هم تفسير الدامر قوم فرمود عند عربي إند أنوشتم [١] .
(بسم الله الأفرد الأفرد) إنني أنا الله لا إله إلا أنا قد خلقت كل شئ بأمري، وما جعلت لشيء من أول ولا آخر جودًا من لدنا , إنا كنا على ذلك لقادرين، وانتهيت كل ما قد خلقت إلى بديع الأول أمرًا من عندنا إنا كنا على كل شيء لمقتدرين. ثم انتهينا ما قد خلقنا من بديع الأول إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً من لدنا إنا كنا فاضلين. وربينا الذين أوتوا الفرقان في ألف وماتين ثم سبعين سنينا لعلهم يستبصرون , في دينهم ليوم ظهور ربهم وحين ما يعرفهم الله نفسه ليجيبون الله ربهم ثم لينصرون. وعلمناهم في الفرقان دلائل سبعة كل واحدة منهن يكفي كل العالمين. قل (الأول) : إن غير الله لن يقدر أن ينزل مثل الفرقان , وهل من خلق أعجب من هذا إن أنتم فيه تتفكرون، وأمهلنا الذين أوتوا الفرقان من يومئذ إلى حينئذ، حتى كل يوقنون بأنهم عاجزون، لعل الذين هم يستمعون آيات الله حين ظهور حجته بما آمنوا من قبل يؤمنون، انظر كيف قد سدد الله أبواب حجتهم، ولا يمن الله على أمم مثلهم , ولكنهم عن أمر الله غافلون. حين ماقدروا آيته لا سبيل لهم في دينهم إلا أن يقولون: هذا من عند الله المهيمن القيوم. وأن يقولون هذا من عند غير الله يكذبهم قول الله من قبل في الفرقان بأن غير الله لن يقدر أن يأتي بآية , وأنتم كلكم بذلك من قبل موقنون. قل (الثاني) : ما استدل الله في الفرقان بأمر محمد رسول الله إلا بعجزكم عن آيات الله إن أنتم قليلاً ما تتفكرون، ولم يكن عند الله حجة أكبر من هذا ليستدلن الله به , وأن مادونه ما أنتم لتذكرون كمثل ظلال عند الشمس أفلا تبصرون. وأنتم كلكم أجمعون. لتقولون: إن الفرقان أكبر آيات محمد رسول الله من قبل إن أنتم بذلك موقنون. كيف لا تستدلون يومئذ ولا به في دين الله تدخلون. قل (الثالث) : إن آيات الله أكبر عن آيات النبيين من قبل إن أنتم قليلاً ما تتفكرون. إذ لو لم يكن أكبر لا ينسخ الله بآيات الفرقان دين عيسى بعد موسى ثم النبيين قبل موسى , ولكنكم في حجة دينكم من قبل لا تتفكرون. لو لم يكن آيات الفرقان أكبر من عصى موسى ثم كل آيات النبيين من قبل موسى وبعد عيسى كيف ينسخ الله بها ما نزل من قبل أفأنتم في دلائل الله لا تتفكرون. أفأنتم في حجج الله لا تتأملون، ولو أنكم أنتم من قبل في الفرقان مستبصرون. حين سمعتم من آية لتعظمن في أفئدتكم أكبر عن خلق السموات والأرض وما بينهما، ولكنكم لا تتفكرون ولا تتذكرون. قل (الرابع) : إنما الآيات لا يكفين الذين أوتوا الفرقان من قبل ومن بعد إن أنتم بما أنزل الله من قبل لموقنون. قل: إن ذلك الدليل ليثبتن الكتاب بأنه حجة من عند الله ويكفين كل العالمين مثل ما نزل الله في سورة العنكبوت وأنتم بالليل والنهار لتقرءون. أولم يكفهم أنا أنزلنا إليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون. قل (الخامس) : دليل عقليّ مقطوع لو أراد أحد من النصارى أن يدخل في دين الإسلام أنتم كيف تستدلون. وهل يكن حجتكم بالغة بالكتاب أو أنتم بغيره تستدلون. لو تستدلون بغيره لن يقبل عنكم، وإن تستدلون به فإذا أنتم غالبون. سواء يقبل عنكم أو لا يقبل فإن حجتكم قد تمت وكملت عليه , هذا ما أنتم من قبل في الإسلام مستدلون. كيف لا تستدلون يومئذ في البيان وأنتم على الصراط بالحق لتمرون [٢] . قل (السادس) : قد أظهر الله قدرته في الآيات على شأن كل عنها عاجزون، ولا يحسبن أن هذا أمر خفيف , فإنه لا تقل عما في السموات والأرض وما بينهما، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ما خلق الله خلقًا أعز من الإنسان , وكل عند ذلك عاجزون. انظر كل بحروف الثمانية والعشرين متكلمون. وأن الله قد سخر تلك الحروف وركبها بشأن كل عنها يعجزون. هذا صنع الله كل به يخلقون، إن الذين يدعون من دون الله ما لهم دليل في كتاب الله , مثلهم مثل الذين هم كانوا من قبلهم لو شاء الله ليهديهم , وإن يشاء ليمهلنهم , وذلك نارهم عند الله ولكنهم لا يعلمون. ولكنهم لو يتفكرون أقرب من لمح البصر ليهتدون. قل (السابع) : كل موقنون بأن الله لن يعزب من علمه من شيء , ولا يعجزه من شيء لا في السموات ولا في الأرض ولا ما بينهما , وأنه كان بكل شيء عليمًا , وأنه كان على كل شيء قديرًا. فإذا نسب أحد نفسه إليه إن لم يكن من عنده فعلى الله أن يظهرن من يبطلن ذلك بدليل كل به يوقنون، فإن لم يظهر دليل أنه حق من عند الله لا ريب فيه كل به مؤمنون. انظر إن الأمر في ظهور البيان أعجب عما نَزَّل الله من قبل الفرقان وجعله آيه من عنده على العالمين، قل الله قد نزل الفرقان من قبل بلسان محمد رسول الله في ثلث وعشرين سنة، وكل يومئذ به لمدينون من الذين أوتوا الفرقان , ومن لم يؤمن به فأولئك هم عن صراط الله لمبعدون، ولكن الله لو شاء لينزلن مثل ما نزل من قبل في يومين وليلتين إذا لم يفصل بينهما إن أنتم تحبون فتستنبئون. فإنا كنا على ذلك لمقتدرين، انظر بآيه قل نزل الله من قبل في ذكر الحج في حول كم من خلق في حول الطين يطوفون، هذا عظمة أمر الله في آياته , وسيشهدن الذين هم يأتون من بعد في آيات البيان أكبر من ذلك , ولكن الناس هم لا يعلمون، هذا في شأن إنا كنا بلسان الخلق مستدلون، وإلا كيف نعرفن أنفسنا بآياتنا , وإنها هي خلق في كتاب الله تعرف بالله ربها , والله لا يعرف بها وإنا كنا على كل شيء لشاهدين، إن كنت في بحر الأسماء لمن السائرين. مامن إله إلا الله رب العالمين، له الأسماء الحسنى من قبل ومن بعد، كل عباد له وكل له عابدون، وإن كنت في بحر الخلق لمن السائرين، قد خلق الله كل شيء بأمر واحد , وجعل مثل ذلك الأمر كمثل الشمس إن تطلع بما لا يحصي المحصون، وإنها هي شمس واحدة , وإن تغرب بمثل ذلك إنها هي شمس واحدة، قل كل بالله قائمون، فإذا في كل الرسل أمر واحد، وفي كل الكتب أمر واحد، وفي كل المناهج أمر واحد، كل بأمر الله من عند مظهر نفسه قائمون، هذا معنى حديث أنتم في ذكر قائمكم لتذكرون، ليذكرن من بديع الأول إلى محمد، وليقولن من أراد أحد من أنبياء الله فلينظرون إليَّ، ولا يقولن: فلينظرن إلى غيري إذ كل فيه، وكل بأمر الله إذا يشاء ليظهرون. هذا معنى قول محمد من قبل في ذكر النبيين بأنهم إياي إذ ما في كل أمر واحد قد اتصل بمحمد رسول الله، ومن محمد إلى نقطة البيان , ومن نقطة البيان إلى من يظهره الله، وممن يظهره الله إلى من يظهر من بعد من يظهره الله إلى آخر الذي لا آخر له أنتم مثل أول الذي لا أول له لتستنبئون ثم لتوقنون [٣] . فاذا في كل ظهور فيه وكل ما يظهر من عنده يظهر ذلك معنى ما أنتم في بحر الأسماء تذكرون. سبحانك اللهم إنك أنت الأول ولم يكن قبلك من شيء وأنك أنت مؤل الأولين، قل: اللهم إنك أنت الآخر، ولم يكن بعدك من شيء وأنك أنت مؤخر الآخرين. قل: اللهم إنك أنت الظاهر فوق كل شيء ولم يكن فوقك من شيء وأنك أنت مظهر الأظهرين. قل: اللهم إنك أنت الباطن دون كل شيء، ولم يكن غيرك من شيء، وإنك أنت مبطن الأبطنين. سبحانك اللهم إنك أنت القادر على كل شيء لن يعجزك من شيء لا في السموات ولا في الأرض، ولا ما بينهما، تنصر من تشاء بأمرك إنك أنت أقدر الأقدرين. وإن كنت في بحر الخلق ناظرين. مثل ذلك في مرءات الأزل إنا كنا منزلين، إذ لا يرى في المرات إلا مجليها ذلك رب العالمين، فانظر من أول ما قد دخلت في دينك هل رأيت من نبي أو حجة إلا وقد شهدت الفرقان من عند الله رب العالمين، واستدللت به من غير أن تسكن فيه وكنت به لمن الموقنين. فلتنصفن حين ما قد رأيت الفرقان أو آيات البيان هل رأيت ما تحجبنك عن هذا أو توقننك في هذا إن كنت من المستبصرين، وإن ما تشاهدن غير قواعد النحويين والصرفيين , هؤلاء يستنبئون علمهم من كتاب الله , وما يتلى الكتاب من عند الله لا يستنبئ من علمهم فما لهؤلاء القوم لا يتفكرون ولا يتذكرون [٤] , وهذا دليل على أنكم توقنون بأن الله قد أظهر حجته من عند من لم يتعلم شئون علمكم لعلكم أنتم بذلك تستطيعون في دين الله توقنون، وإنا لو نشاء لننزلن مثل ما أنتم في قواعدكم مستدلون، مثل ما قد نزلنا كتبًا من قبل , وإن كنا على ذلك لمقتدرين، وإن الله في كل ظهور ليحبن أن يدخل الناس في دين الله بحجة ودليل , وعلى هذا لينصحن الرسل في كل ظهور كل عباد الله المؤمنين، وإلا إذا يبعث الله ذا طول عظيم ليدخلن الناس في دين الله سواء يحيطون علمهم بدليل أو لا يحيطون، مثل كل ما أدخل محمد رسول الله من قبل في الإسلام بجبر وقهر فإن أولئك هم سواء يطلعون بدليل أو لا يطلعون. ليدخلنهم الله في رضوان الدين بفضله سواء هم يعلمون أولا يعلمون. فلتتفكرن هل يكن حجة الذين أوتوا التورية بالغة على الذين أوتوا الزبور, كيف هم صبروا في دينهم، وما دخلوا في دين موسى ولا هم يتذكرون، يحسبون بينهم وبين الله بأنهم محسنون، بعدما أنهم عند الذين هم أوتوا التورية مسيئون، وكيف عند الله ولكن لا يعقلون، ثم انظر إلى الذين أوتوا الإنجيل لم يكن حجتهم بالغة على الذين هم أوتوا التورية كيف هم قد صبروا في دينهم ويحسبون بينهم وبين الله بأنهم محسنون، بعدما أنهم عند الذين أوتوا الإنجيل لمسيئون. وكيف عند الله ربهم ولكنهم لا يتذكرون , ثم انظر إلى الذين أوتوا الفرقان بأن حجتهم بالغة على الذين أوتوا الإنجيل كيف هم يحسبون بأنهم بينهم وبين الله محسنون. وأن ما وعدهم عيسى ما جاء , وهم يحسبون بينهم وبين الله ربهم بأنهم في دينهم مستبصرون. بعدما أنهم عند الذين أوتوا الفرقان لمسيئون وغير مبصرون. وكيف وعند الله ربهم , ولكنهم لا يعلمون، ثم انظر إلى الذين أوتوا الفرقان كيف حجة الذين هم آمنوا بأئمة الدين بالغة على الذين لم يؤمنوا بهم وهم يحسبون بأنهم محسنون، بعدما أنهم عند هؤلاء غير محسنون. ثم انظر إلى الذين أوتوا البيان فإن حجتهم بالغة على كل الأمم، وكل بينهم وبين الله يحسبون بأنهم محسنون في دينهم محتاطون ثم لمتقون. ولكنهم عند الذين أتوا البيان غير محسنون ولا متقون، وكيف عند الله وعند مظهر نفسه وعند شهداء مظهر نفسه ولكنهم لا يتفكرون ولا يتذكرون. ثم انظر إلى الذين هم أوتوا الكتاب من يظهره الله في القيامة الأخرى فإن حجتهم بالغة على الذين هم أوتوا البيان، ولكنهم يحسبون في دينهم بأنهم متقون ومحسنون. بعدما أنهم عند الذين أوتوا ذلك الكتاب غير متقون ولا محسنون، وكيف عند الله وعند من يظهره الله وعند أدلائه يا أولي البيان بالله تتقون. أن لا تفضحن أنفسكم مثل الأمم قبلكم بأنكم تحسبون بينكم وبين الله بأنكم متقون. وعند خلق آخر غير متقون ومحسنون. وكيف عند الله ربكم فلتنقطعن عن كل علمكم وعملكم , ولتستمسكن بمن يظهره الله ثم دليله وحجته , ثم بما يستدل المستدلون , وبأهوائكم لا تستدلون , ثم بما يرضى لترضون، ولا تجعلون رضائه بما ترضون بل تجعلون رضائكم بما يرضى، ولا تسألونه عن آيات غير ما يؤتيه الله فإنكم أنتم لا تستجابون. قد وصيناكم حق الوصية لعلكم في دينكم تتقون، وعلمناكم سبل الدلائل في الآيات لعلكم في البيان لتتقون ثم لتخلصون. ثم بالحق تستدلون. اهـ (المنار) الذي يمكن أن يفهم بالقرائن من مجموع هذا اللغو الطويل الذي أفرغ فيه الباب جعبة دلائله؛ أن أهل كل دين جديد يرون أنهم محقون ومهتدون وغيرهم مبطل , وهكذا يراهم غيرهم، وأن المسلمين الذين يؤمنون بالأئمة مع الذين لا يؤمنون بهم كذلك؛ فوجب أن يكون دينه كذلك. ولو نهض هذا دليلاً لجاز لكل أحد في كل يوم أن يخترع دينًا ويحتج به! ! ! . وقد جهل الباب أو نسي أن المسلمين الذين يحتج عليهم يعتقدون بأن الأديان قد ختمت بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. وأن الدليل عليها لم يكن التنازع والخلاف بين أهل الأديان بل كان دليلاً حقيقيًّا معقولاً. وقد بنت البهائية دينها على قوله: من يظهره الله , ولكن أي معنى لوجود شارع يضع دينًا، ولا يلبث أن ينسخ دينه في عصره، ويكتم كتابه قبل أن يعلم به الناس إلا قليلاً لا يعتد بهم , فإن البهائية يخفون (البيان) إذ وجد فيهم من أدرك أنه سخرية؟ ويا ليت هذا الدين الصبياني قد انقسم إلى دينين فقط. كلا , إنه انقسم إلى أربع فرق يكفر بعضها بعضًا في الغالب، وهي كما في خاتمة كتاب (مفتاح باب الأبواب) الذي نوهنا به من قبل , وقد تم طبعه الآن وسيصدر بعد أيام قال مؤلفه: * * * فرق البابية (الأولى البابية الخُلَّص) أي الذي اتبعوا الباب فقط، ولم يرضخوا لأوامر من قام من بعده مثل الميرزا يحيى صبح أزل وأخيه الميرزا حسين على البهاء وغيرهما، وهم يعملون بأحكام البيان، وينبذون جميع ما ألف، وكتب بعد الباب ظهريًّا , وهؤلاء يبلغون نحو مائتي نفس في البلاد الإيرانية دون غيرها , وفي أثناء وجودنا بطهران تقابلنا مع أناس منهم , وعلمنا منهم ما لا تعلمه البابية الأزلية والبهائية. (الثانية البابية الأزلية) وهم القائلون بخلافة أو أصالة الميرزا يحيى صبح أزل سجين قبرص الآن أي أن الأزل هو مصداق لما ورد في كتاب البيان (من يظهره الله أو من يريده الله) وهؤلاء يؤيدون مدعياتهم بكتب عديدة من الباب , والميرزا حسين عليّ إلى الميرزا يحيى، وهي موجودة عند الأزل , ويتمسكون ويستدلون بها على بطلان أمر البهاء وأتباعه وعددهم ألفان ونيف تقريبًا في البلدان الإيرانية وغيرها، وداعيتهم الأكبر وعميدهم الأعظم وهو الحاج الميرزا...... القاطن الآن بطهران هو وأنجاله وأناس آخرون منهم , ذكرنا أسماءهم في كتابنا (باب الأبواب) وهؤلاء يتظاهرون بالإسلامية، ويتبرءون من الباب والبابية ويعملون بالتَّقية، يصلون ويصومون ويقومون بجميع فرائض الدين الإسلامي في الظاهر , ويكفرون البهاء وأتباعه ويلعنونهم في الظاهر والباطن , ويستبيحون أموال وأنفس المسلمين والبهائية عند المقدرة , ويستعينون على قضاء حوائجهم هذه بالكتمان وشدة الحذر , ويسندون الخلافة من بعد الميرزا يحيى إلى الحاج الميرزا ...... المذكور , ولهم إشارات ورموز خاصة بهم لمعرفة بعضهم بعضًا. (الثالثة البابية البهائية) وهؤلاء على ما مر عليك من أخبارهم يعتقدون بربوبية وألوهية البهاء، وأنه هو الذي بعث الأنبياء والرسل، وأن زردشت وموسى وعيسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، والباب إنما كانوا يبلغون أحكامه ويبينون آياته فهم مظاهر أوامره , وبشروا به وبظهوره كما أن ابنه الأكبر عباسًا يكون كذلك من بعده وأن ليس لأحد أن يقوم بعده ويدعي بالأمر إلا بعد ألف سنة كاملة , وبعد ذلك يكون الأمر لمن يظهره الله (يعني لمن يظهره هو كما علمت من أقواله) وأن من يدعي أمرًا قبل ألف سنة يتحتم قتله لا محالة , ويبلغ عددهم نحو ثلاثة آلاف نفس في إيران , ونحو ألفي نفس في خارجها، ولا عبرة بما يدعونه من أنهم يبلغون الملايين من النفوس في البلدان الإيرانية ومئات الألوف في الممالك الروسية والإفرنجية والعثمانية , ومثلها في الممالك المتحدة الأمريكية؛ لأن الإطراء والإغراق والغلو هي ديدنهم، ودأبهم في تجسيم وتعظيم الأمور الراجعة إليهم كشأنهم في بقية المسائل المختصة بهم. (الرابعة البابية البهائية العباسية) هؤلاء هم البابية البهائية , ولكن يقدسون ويمجدون العباس كتقديسهم لأبيه البهاء بل البعض منهم يجعلون البهاء مبشرًا به , كما كان الباب مبشرًا بأبيه , وولد العباس في اليوم الخامس من جمادى الأولى ١٢٦٥ هجرية بطهران , ورافق أباه بالنفي إلى بغداد وأدرنه وعكا ولم يكن للبابية البهائية شأن يذكر قبل ترعرعه، ولما بلغ أشده واستلم زمام الأمور بكياسته المشهورة، نثر ونظم , عقد وحل , غَيَّرَ وبدَّل , ألَّف وصنَّف، وهو الذي أشار على أبيه بالاستقلال في الأمر والاستبداد بالرأي حتى فرق بين أبيه وعمه الأزل , وجعل للبهائية شأنًا يذكر , ولولاه لما قامت للبابية قائمة، وما قام بشخص يسقط بسقوطه ويزول بزواله إذا لا بقاء له بذاته. نعم، إنه كان يتظاهر أمام البابية أنه كأقل عبد متواضع خاشع للبهاء، ولكنه كان ماسكًا دفة الأمر بيد من حديد، يدبرها كيف شاء وأنى شاء، وكان يخاطبه أبوه بلفظة (آقا) ومعناها (السيد) , ولما مات البهاء آلت إليه الرياسة , وانفرد بالمحو والإثبات في الأحكام , فذعر من ذلك إخوته والخاصة من أصحاب أبيه مثل الميرزا آفاجان الكاشاني الملقب بخادم الله ومحمد جواد القزويني وجمال البروجردى وأصهار البهاء , فانضم هؤلاء إلى الميرزا محمد علي النجل الثاني للبهاء الملقب بغصن الله الأكبر , وأرسلوا الدعاة إلى البلدان , ونزغوا إلى الطغيان والعصيان، وألفوا كتبًا بالفارسية والعربية وطبعوها بالهند أظهروا بها مروق العباس وأشياعه في دين البهاء وكفروه وسلقوه بألسنة حداد (عندنا نسختان من الكتب المذكورة) ، ومن جراء ذلك انشقت البابية البهائية إلى قسمين: قسم سمي (بالناقضين) هم الميرزا محمد عليّ وأشياعه , وقسم سمي (بالمارقين) هم العباس وأشياعه , وقام كل منهم الآن يؤيد دعواه ويكفر من عداه , فاعتزلوا المعاشرة، وحرموا معاملة بعضهم لبعض، وعداوة كل منهم للآخر أشد من عداوتهم جميعًا للمسلمين وغيرهم , فهذا ما آل إليه أمر البهائية بعد موت البهاء. ولله الأمر من قبل ومن بعد