للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: رفيق بك العظم


الحكومة الإسلامية

كان رفيق بك العظم المؤرخ المشهور (رحمه الله تعالى) شرع في تأليف كتاب
باسم (تاريخ السياسة الإسلامية) ، لم يكتب منه إلا مقدمته، وهي في ملخص
السيرة النبوية، وقد طبعت في هذه الأيام مع بعض رسائله وخطبه، فرأينا أن نقتبس
منها هذا الفصل بمناسبة نشر الكتاب السخيف الذي نشر في هذا العام، في
الطعن في حكومة الإسلام، وهو:

ذكر شيء مما كان على عهده صلى الله عليه وسلم
أو نصت عليه شريعته، وترتب عليه نظام السلطنة الإسلامية
اعلم أن ما ظهرت آثاره في الإسلام من ترتيب الدول، وتنظيم شؤون
الحكومة، واتخاذ شعائر الارتقاء، إنما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وما لم يكن في عهده فمنصوص عليه في شريعته الطاهرة، وسنته الباهرة،
وذلك: كالإمامة، والوزارة، والولاية، وإمارة الجيش، والقضاء، والخطابة،
والكتابة، والسفارة، والترجمة، والحسبة، والمعاهدات، والأعطيات - أي:
مرتبات الجند - والحجابة، والحراسة، وإمارة الحج، والرسائل، والإقطاع
والديوان، والزمام، وكتابة الجيش، والعقود، والفرائض؛ أي: قسمة المواريث،
وغير ذلك من آثار الفضل في ترتيب الحكومات الإسلامية، مما كان على عهده
صلى الله عليه وسلم، واقتفى أثره به الخلفاء الراشدون، ثم أخذ يتوسع به من
بعدهم من الخلفاء والسلاطين، ويقررونه على أوجه مضبوطة، وقيود وتراتيب لا تخرج عن صفة ما سبق إلا بنوع الترتيب، أو بما فيه الاستزادة من أبهة الملك
وسطوة السلطان. ولكن لما بلغت دول الإسلام أقصى غايات الرفاه، واختلطت
على الخلفاء والسلاطين الأمور باختلاط العناصر الداخلة في الإسلام؛ أخذت تتحول
تلك الأنظمة والتراتيب إلى أعجمية تارة، وهمجية أخرى، حتى اختل بسبب ذلك
نظام الملك، واستحال حال الدول في بعض العصور إلى ما يشبه ضلال الساري في
ليلة مظلمة، يود سلوك الطريق المنجية فلا يجدها، والعاقبة للمتقين.
وها نحن (أولاء) نورد لك طرفًا من تلك الوظائف والتراتيب بوجه إجمالي،
معززًا بما يؤيده من الكتاب والسنة، ونبدأ من ذلك بالإمامة؛ لأنها المنصب
النبوي المهم فنقولك:
الإمامة
الإمامة هي رئاسة عامة في الدين والدنيا، تنتهي إلى صاحبها خلافة النبوة
في حراسة الدين وسياسة الدنيا، بدليل أن رسول الله - صلى عليه وسلم - لما ثقل
عليه المرض وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، وصلى أبو بكر - رضي
الله تعالى عنه - بالناس نيابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذها
الصحابة دليلاً على استنابة أبي بكر في الخلافة العامة، فأقاموه خليفة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثم استمر الحكم في الخلافة هكذا، حتى إذا استغرق
الخلفاء بالترف، واستكانوا وراء الحجب، واستثقلوا الظهور للناس والاختلاط
بعامتهم، استنابوا عنهم بالصلاة أولي الكفاءة من أئمة الدين، واكتفوا بمباشرة أمور
السياسة. وقد ثبت أن نصب الإمام واجب على الأمة بالشرع وجوبًا كفائيًّا؛ أي: هو
فرض كفاية إذا قام به البعض - وهم أهل الحل والعقد - سقط عن الباقين.
وقد اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: تنعقد البيعة للإمام بمن حضرها
من أهل الحل والعقد.
ومنهم من قال: لا تنعقد إلا برضا عامة الناس. ولهم بهذا الصدد أبحاث
طويلة ليس هذا موضع ذكرها، فليرجع إليها في كتب العقائد (وكتاب الأحكام
السلطانية) للماوردي [*] ... ... ...
ومما لا اختلاف فيه وجوب الطاعة للإمام لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) ، فإن طاعة
الإمام العادل واجبة؛ ليتمكن من الأخذ بمقتضى العدل في تنفيذ الأحكام، وتوزيع
الضرائب، وفصل الخصومات، وإقامة الحدود، وتجهيز الجيوش، وسد الثغور،
وقهر المتغلبة، وبالجملة سائر ما يعود على المجتمع الإسلامي بالخير والمصلحة.
قالوا: ومتى استقرت الخلافة العامة لمن هو لها أهل، فلا بد من استنابته في
بعض الوظائف الموكولة إليه أناسًا ذوي كفاءة وعلم ودين: كالوزارة، والإمارة،
والجباية والقضاء، وغير ذلك من الوظائف التي لا يمكن مباشرة جميعها بنفسه،
والاستنابة فيها أصح في التدبير، وأدفع للخلل، وأجمع للنظام. وأهم الوظائف
التي يستنيب فيها هي الوزارة.
الوزارة
اعلم أن الوزارة مرتبة جليلة من مراتب الدولة التي ينتظم بها الملك، وتشاد
عليها دعائم الدولة؛ لهذا اشترط العلماء في الوزارة ما اشترطوه في الخلافة من
الأحكام الجامعة لأوصاف العدل: كالأهلية، والكفاءة، والعلم، والصحة، والعقل.
وروي عن عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أنه قال: (إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره،
وإن ذكر أعانه. وإن أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره،
وإذا ذكر لم يعنه) ، وقالوا: إن الوزارة على ضربين، وزارة تفويض (للحكومات
المعتدلة) ووزارة تنفيذ (للحكومات المطلقة) .
فأما وزارة التفويض فهي: أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور
برأيه وإمضاءها على اجتهاده. وهذه بمثابة ما يسمونه الآن الوزارة المسؤولة في
الحكومات المعتدلة؛ لأن للوزير فيها - متى استكملت فيه الشروط المعتبرة في
وزارة التفويض - أن يحكم بنفسه، وأن يقلد الحكام، وأن ينظر في المظالم أو
يستنيب فيها، وأن يتولى الجهاد بنفسه، وأن يقلد من يتولاه، وأن يباشر الأمور
التي دبرها أو يستنيب فيها [١] .
وبالجملة فقد قالوا في هذه الوزارة: إن كل ما صح عن الإمام صح عن
الوزير إلا ثلاثة أشياء: (أحدها) ولاية العهد، (والثاني) أن للإمام أن يستعفي
الأمة من الإمامة، وليس ذلك للوزير، (والثالث) أن للإمام أن يعزل من قلده
الوزير، وليس للوزير أن يعزل من قلده الإمام. وما سوى هذه الثلاثة فحكم
التفويض إليه يقتضي جواز فعله، على شرط أن يطالع الإمام بما أمضاه من تدبير
وأنفذه من ولاية؛ لئلا يستبد بالأمر دون الإمام، وللإمام أن يتصفح ما يعرضه عليه
الوزير؛ ليقر منه ما وافق الصواب، ويستدرك ما خالفه، إلا الحكم في حق فإنه
ينفذ على وجهه، أو في مال وضع في حقه، فإنه ليس للإمام استرجاعه.
ووجه جواز هذه الوزارة في الإسلام، مأخوذ من قوله تعالى في القرآن حكاية
عن موسى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي *
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه: ٢٩-٣٢) فإذا صح مثل هذه الوزارة في النبوة فإنها
في الخلافة أولى.
وأما وزارة التنفيذ فإن النظر فيها مقصور على رأي الإمام وتدبيره، بحيث
يكون الوزير كالواسطة بين الإمام والرعية، ينقل إليه ما وقع، ويؤدي عنه ما أمر،
ويمضي عنه ما حكم، وينفذ ما ذكر. وهذه الوزارة بمثابة ما يسمونه الآن
الوزارة المقيدة في الحكومات المطلقة، ومعنى تقييدها رجوعها في كل عمل إلى
رأي السلطان وأمره فيما يراه، ويشترط في هذه الوزارة أوصاف الأمانة والصدق
والفطنة كي لا يكذب فيما يبلغ، ولا يخون فيما يؤدي، ولا يدلس عليه، ولا يبعد
الصواب عنه، وينسب التساهل في أمور الناس إليه.
وقد رأيت كيف أن موسى الكليم - عليه السلام - طلب أن يجعل الله له
وزيرًا من أهله وهو أخوه هرون، وأما نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فقد أشار
إلى فضل الوزارة وما فيها من الموازرة بقوله عليه الصلاة والسلام: (وزيراي من
أهل السماء جبريل ومكائيل، ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر) [٢] :
أي أن الملائكة توازره بالوحي من السماء، وأبو بكر وعمر يوازرانه في الرض.
وأما بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان أبو بكر يرجع في المشورة
إلى عمر وعلي وأكابر الصحابة رضوان الله عليهم. ولما كانت الحكومة الإسلامية
في صدر الإسلام أشبه بالحكومة الديموقراطية حذا حذو أبي بكر - في الرجوع إلى
استشارة أهل العلم والرأي من أكابر سائر المسلمين - الخلفاء الراشدين، ومن أتى
بعدهم من الخلفاء الأمويين، دون اتخاذ وزير مخصوص يسمى بهذا الاسم، أو
يعطى شارة الوزارة، حتى قيام الدولة العباسية، وكان أول خليفة منهم السفاح،
فاتخذ له وزيرًا أبا سلمة حفص بن سليمان، فكان أول من لقب بالوزير في دولة
الإسلام، ومن ثم أصبحت الوزارة من الرتب الخاصة التي تجري عليها القوانين،
وتدون لها الدواوين، على أشكال شتى كانت تترقى بترقي الدول الإسلامية، وتتدنى
بتدنيها.
***
القضاء
إن ولاية القضاء خطة سامية، تتلو الوزارة في الأهمية، ولها في الشريعة
الإسلامية شروط وأحكام، أفردت لها أبواب مخصوصة في كتب الفقه، لا مجال
لإيرادها في هذا المختصر، وقد قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه،
وقلد القضاء لعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل رضي الله
تعالى عنهم. وقد مر في هذه المقدمة ذكر الحديث الوارد بتقليد معاذ القضاء، ولم
يرد في شريعة من الشرائع ما ورد في الشريعة الإسلامية من البيان بشأن القضاء
وشروطه، وآدابه وأحكامه وحدوده، لهذا كان الخلفاء الراشدون يجلسون للقضاء
بأنفسهم ويستنيبون أحيانًا من عرف بالعلم والنزاهة، وتحققت فيه الأهلية والكفاءة،
وكذا من جاء بعدهم من الخلفاء الأمويين، وبعض الخلفاء العباسيين.
ولما كانت المنازعات في صدر الإسلام، إنما تنشأ عن أمور مشتبهة، يترافع
فيها الخصمان إلى القضاء ليوضحها الحكم، وتتعين فيها جهة الحق، فقد اقتصر
خلفاء السلف على فصل المنازعات، والتشاجر بين الناس بالحكم والقضاء، لالتزام
الناس جهة الحق، وانقيادهم إليه، ولما تجاهر الناس بالظلم، وتغالبت النفوس،
وتغلبت الأهواء، واحتيج في رد الحق وتنفيذ الأحكام إلى القوة الإجرائية؛ تفرعت
عن القضاء ولاية المظالم، فكان الخلفاء من بني أمية، منهم من جلس لرد المظالم
بنفسه، كعمر بن عبد العزيز، ومنهم من أفرد وقتًا مخصوصًا للنظر في رقاع
المتظلمين، ومنهم عبد الملك بن مروان، وهو أول من أفرد يومًا للنظر في
الظلامات، وتصفح قصص المتظلمين، فما احتاج فيه إلى حل مشكل أو حكم منفذ
رده إلى قاضيه أبي إدريس الأزدي، فكان هذا المباشر، وعبد الملك الآمر، ثم مع
التمادي والتدريج، احتاج الخلفاء إلى جعل ولاية المظالم ولاية خاصة تتفرغ عن
ولاية القضاء [٣] ، فكانوا يختارون لها ذوي الهيبة وأهل السياسة، لتنفذ بواسطتهم
قوانين العدل، وتستقيم طرق التناصف، وكان آخر من جلس بنفسه لرد المظالم
من الخلفاء العباسيين المأمون، وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
نظر في المظالم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام - رضي الله تعالى
عنه - ورجل من الأنصار، وحضره صلى الله عليه وسلم بنفسه.
***
الولاية وإمارة الحرب واللواء والجيش
قد استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإمارة كثيرين، منهم
عتاب بن أُسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، استعمله على مكة أميرًا سنة
ثماني من الهجرة وولاة إمارة الموسم والحج بالمسلمين، وذكر الزمخشري في
الكشاف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل عتاب بن أُسيد على أهل
مكة وقال: (انطلق فقد استعملتك على أهل بيت الله) ، فكان شديدًا على المريب،
لينًا على المؤمن، ومنهم باذان استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على
اليمن، وكان أميرًا عليها من قبل ملوك الفرس، وذكر المؤرخون أن باذان أول
أمير أسلم من العجم، وأول أمير في الإسلام على اليمن.
***
مطلب إمارة الجيش
وأما إمارة الجيش فقد استعمل لها النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرين
أيضًا في سراياه التي كان يبعث بها لقتال المشركين، وأولها في السنة الأولى من
الهجرة سرية عبد الله بن جحش، فقد ذكر المؤرخون وأرباب السير أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا عبيدة بن الجراح أن يتجهز للغزو، فلما أراد
المسير بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث مكانه عبد الله بن
جحش وآخرها جيش أسامة الذي أعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
للمسير إلى الشام وعليه مولاه أسامة بن زيد، وتوفي صلى الله عليه وسلم قبل
مسير الجيش، فسيره بعده أبو بكر رضي الله تعالى عنه.
***
مطلب اللواء
وأما اللواء فقد قال أرباب السير: إن أول راية عقدت في الإسلام عقدها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن قصي
في ستين أو ثمانين راكبًا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وممن حمل
راية النبي - عليه الصلاة والسلام - ليقاتل بها أبو بكر وعمر وعلي، وحمل رايته
عليه الصلاة والسلام عام الفتح الزبير بن العوام. وذكر أهل السير في أخبار غزوة
بدر الكبرى أنه كان أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رايتان سوداوان
إحداهما مع علي بن أبي طالب، والأخرى - وهي راية الأنصار - كانت مع سعد
بن معاذ، وكانت راية النبي - صلى الله عليه وسلم - الخصوصية سوداء تسمى
العقاب، وكان يحملها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد، فلم
يحضر بها حربًا إلا وكان الظافر فيها.
***
مطلب تقسيم الجيش
وأما الجيش فقد كان على عهده صلى الله عليه وسلم يقسم إلى خمسة أقسام:
المقدمة، والمجنبتان اليمنى واليسرى، والقلب والساقة، وكان لكل قسم رئيس
يسمى صاحبًا، كصاحب المقدمة، وصاحب الساقى إلخ، فقد تولى الساقة بين يدي
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فتح مكة أبو عبيدة بن الجراح، ويوم
حُنين خالد بن الوليد، وتولى بقية الأقسام غيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله
عليهم، وكان في وقت المصاف يقدم على الفرسان رئيسًا، وعلى الرماة وعلى
المشاة رئيسًا، فمن ذلك ما رواه البخاري أن عبد الله بن جبير كان في غزوة أحد
المقدم على الرماة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انضح الخيل عنا
بالنبل [٤] لا يأتوننا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من
قبلك) .
***
مطلب الحرس
كان يتولى جيشه عليه الصلاة والسلام في الليل بعض الحرس، فمن ذلك ما
روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قفل من غزوة بلغه أن رجلاً من
المشركين أصيبت امرأته فحلف ليتبعن أثر الجيش؛ ليهريق دمًا من المسلمين،
فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلاً فقال: (من يكلؤنا ليلتنا؟ فانتدب
رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، وهما عمار بن ياسر وعباد بن بشر) .
***
مطلب حرسه الخصوصي صلى الله عليه وسلم
وكان له صلى الله عليه وسلم حرس خصوصي يحرسونه إذا نام أو كان في
الغزو، وكان من حرسه سعد بن أبي وقاص وسعد بن معاذ وذكوان بن عبد الله
وهذان حرساه يوم بدر على باب العريش الذي بني له يومئذ، ويوم أُحد حرسه
محمد بن مسلمة الأنصاري، ويوم الخندق حرسه الزبير بن العوام وسعد بن أبي
وقاص وعباد بن بشر، وحرسه غيرهم من الصحابة، فلما نزل قوله تعالى:
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: ٦٧) ترك الحرس.
***
مطلب العرفاء
وكان عند العرب عرفاء للأجناد، وهم دون الرؤساء، بهم يتعرفون أحوال
الجيش، واستمر ذلك في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت
ذلك من حديث طويل رواه البخاري، وذلك في قصة وفد هوازن حين جاؤوه
مسلمين.
وقد كان للجيش في عهده - صلى الله عليه وسلم - عيون تأتي بأخبار العدو،
وطلائع تمهد له الطريق، وحملة سلاح، وغير ذلك من متعلقات الجيوش مما لا
يسع هذا الموجز بسطه، فليراجع في كتب السير والحديث.
***
كتابة الجيش والديوان والعطاء
قد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكتب الناس، وجرى
العمل بذلك في عصره صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري بسنده عن حذيفة
بن اليمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اكتبوا لي من يلفظ
بالإسلام من الناس) ، فكتبنا له ألفًا وخمسمائة رجل، فقلنا: نخاف ونحن ألف
وخمسمائة، فلقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف.
وأما العطاء فقد وردت في ثبوته أحاديث كثيرة، فمنها ما رواه أبو داود عن
عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان
إذا أتاه الفيء قسمه في يومه، فأعطى الآهل حظين، وأعطى الأعزب حظًّا،
فدعينا، وكنت أدعى قبل عمار، فدعيت فأعطاني حظين، وكان لي أهل، ثم دعا
بعمي عمار بن ياسر فأعطي حظًّا واحدًا. فثبت مما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم
أمر بكتابة الناس في الجيش، وأنه كان يعطي العطاء ويقسم الفيء.
وأن نوع الديوان كان موجودًا على عهده صلى الله عليه وسلم، وهذا لا
يخالف ما أطبق عليه أهل الأثر من أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -
أول من دون الدواوين، ورتب الأعطيات في الإسلام، فإنما كانت كتابة الناس في
عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإحصاء من تعين منهم في بعث البعوث،
ولم تكن في وقت معين ولا بمقدار معين، حيث لم يكثر الناس كثرتهم أيام عمر،
ولا جبيت الأموال، ولا تأكدت الحاجة إلى ضبطهم، وأما عمر فقد رتب الناس في
الدواوين، وقدر لهم الأعطيات، وأجرى عليهم الأرزاق على حدود معينة،
وتراتيب مقررة، بعد أن نصب الكتاب، ومسح البلاد والسواد، ونظم أصول
الجباية، لاتساع الحاجة باتساع الفتوح على الإسلام.
***
الكتابة والرسل
والسفارة والترجمة
كان يكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان
وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، فإن غابا كتب أبي بن كعب وزيد بن
ثابت، فإن لم يحضر أحد من هؤلاء الأربعة كتب من حضر من الكتاب وهم
معاوية بن أبي سفيان وخالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد والعلاء
الحضرمي وحنظلة بن الربيع، وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب الوحي
أيضًا فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، فلما فتحت مكة استأمن له عثمان بن
عفان وكان أخاه من الرضاعة، فأمنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسن
إسلامه.
وأما كتاب الرسائل والأقطاع فزيد بن ثابت وأبي عبد الله بن الأرقم الزهري،
وهذا كان مواظبًا على كتابة رسائل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك.
وأما العهود والمصالحات فكان يكتبها له صلى الله عليه وسلم علي بن أبي
طالب رضي الله تعالى عنه.
***
الرسل والسفارة
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى
الإسلام، فمن أرسله دحية الكلبي أرسله إلى قيصر، وكتب له كتابًا يدعوه فيه إلى
الإسلام كما رواه البخاري، وأرسل حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس،
وغيرهما لغير هؤلاء الملوك أيضًا، وبعث رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - رسولاً إلى ملك الحبشة ليبعث من عنده في بلده من المسلمين.
وأما تراجمة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ذكر أرباب السير: أن زيد
بن ثابت الأنصاري - رضي الله تعالى عنه - كان يكتب للملوك، ويجيب بحضرة
النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ترجمانه بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية،
تعلم ذلك بالمدينة من أهل هذه الألسن، وذكر ابن هشام في البهجة نحوًا منه.
وكانت ترد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب بالسيريانية، فأمر
زيد بن ثابت بتعلمها فتعلمها في بضعة عشر يومًا، وخرج الترمذي عن زيد بن
ثابت - رضي الله تعالى عنه - قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أن أتعلم كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتاب قال: فما مر بي نصف
شهر حتى تعلمته له قال: فلما تعلمت كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا
كتبوا إليه قرأت له كتابهم.
وفي هذا دليل على وجوب تعلم اللغات إذا كان في تعلمها فائدة للمسلمين.
هذا ما أردنا إيراده في هذا الفصل ملخصًا من (كتاب الإيجاز في سيرة ساكن
الحجاز) للعلامة المرحوم رفاعة بك المصري، وكتاب الأحكام السلطانية للماوردي،
وقد رغبنا حب الاختصار في هذا الموجز بالاكتفاء بما تقدم، وترك ذكر أشياء
كثيرة كانت على عهده صلى الله عليه وسلم: كالحجابة، والخطابة، والمحاسبة،
والجباية، والحسبة التي هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من
وسائل الترقي في الإسلام، فليرجع إليها في كتب السير والحديث اهـ.