الإمام محمد بن إدريس الشافعي (رضي الله تعالى عنه) نذكر شيئًا من سيرة هذا الإمام الجليل بمناسبة احتفال العلماء في هذه الأيام بما يسمونه: (مولد الإمام) وقد احتفلوا قبل ذلك بأيام احتفالاً غير هذا يسمونه: (الكنسة) وهو اجتماع يكنسون فيه الضريح ويقسمون الكناسة بينهم للتبرك بها، والموالد في هذه الديار كثيرة جدًّا، تكاد تستغرق أيام السنة، ولذلك كان السيد عبد الله نديم الكاتب المصري يقول: للإفرنج في كل عام كرنفال ولنا في كل يوم كرنفال [*] ولا يتولى العلماء بأنفسهم الاحتفال في مولد منها إلا مولد الإمام الشافعي، وإن كان لا يخلو منهم مولد من الموالد، وكأنهم لاحظوا أن هذا المولد لإمام من أعظم أئمة العلم، فكان المناسب أن يتولى الاحتفال بمولده العلماء الذين من صنفه، بخلاف سائر الموالد، فإنها للأولياء وشيوخ الطريق، والمناسب أن يتولى شأنها أهل الطريق. وقد ذكرنا في مقالات سابقة ما في هذه الموالد من البدع والأضاليل، فلا نعيد ذلك بتفصيله، ولكننا ننقل من سيرة الإمام ما تعلم منه أن الذين ادعوا الاهتداء بهديه أو حاولوا مرضاته أو مرضاة الله تعالى باحتفالهم بمولده، لم يصيبوا الغرض. أو نقول كما قال الإمام حجة الإسلام الغزالي عند تراجم الائمة المجتهدين -: (ما تعلم به أن الذين انتحلوا مذاهبهم ظلموهم، وأنهم من أشد خصمائهم يوم القيامة. وأن ما ذكرناه ليس طعنًا فيهم، بل هو طعن فيمن أظهر الاقتداء بهم منتحلاً مذاهبهم، وهو مخالف لهم في أعمالهم وسيرهم) . واذا كان هذا قول حجة الإسلام في الفقهاء منذ ثمانية قرون، فماذا عسانا نقول الآن، ذكر الغزالي أن كل واحد من الأئمة المجتهدين كان عابدًا وزاهدًا وعالمًا بعلوم الآخرة، وفقيهًا في مصالح الخلق في الدنيا، ومريدًا بفقهه وجه الله تعالى، قال: فهذه خمس خصال اتبعهم فقهاء العصر من جملتها على خصلة واحدة وهي: التشمير والمبالغة في تفاريع الفقه؛ لأن الخصال الأربع لا تصلح إلا للآخرة، وهذه الخصلة الواحدة تصلح للدنيا والآخرة إن أريد بها الآخرة، قل صلاحها للدنيا، فشمرو لها وادعوا بها مشابهة أولئك الأئمة وهيهات؛ لا تقاس الملائكة بالحدادين اهـ. قلت: وهذه الخامسة قد فقدت أيضًا، إذ لا يكاد يوجد اليوم فقيه في مصالح الخلق قادر على الإتيان بتفاريع في الفقه على حسبها. بل يكاد يكون من خواص فقهاء هذا العصر عدم معرفة شيء من أحوال الزمان ومصالح الناس فيه، ومن المقرر عند الحنفية حملة المذهب المعمول به في الجملة عند الحكام أنه لا يجوز لأحد في مثل هذا العصر أن يستنبط حكمًا من الأحكام، بل ولا أن يصححه، ومن أقدم على ذلك لا يقبل استنباطه ولا تصحيحه، وشيخ الإسلام في دار الخلافة لا يأذن لمفتٍ أن يفتي من مجلة الأحكام العدلية الموافقة الحالة العصر، وإن صدر أمر الإمام بالعمل بها؛ لأن فيها ما هو ضعيف عند الفقهاء الذين يفتى بقولهم بحسب رسم المفتي المتبع عندهم، وإن كان موافقًا لما هو الصحيح عند غير أولئك الفقهاء من أئمة العلم. فماذا يقول الإمام الغزالي في هؤلاء الفقهاء، وأين هم من تعريف بعض القدماء للفقيه بأنه: (المقبل على شأنه البصير بأحوال زمانه) وقد أطلنا في هذه المقدمة، فاستمع لما نقصه عليك من الترجمة. كان الإمام عليه الرضوان من أعظم أنصار السنة وخذال البدعة، والعلماء بدين الله تعالى، الواقفين على أسرار كتابه العظيم، وكلام رسوله الكريم. محافظًا أشد المحافظة على حفظ الأوقات أن تصيع في غير ما ينفعه وينفع الناس، بعيدًا عن اللغو في القول، بمعزل عن العبث في العمل، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث: ثلث للعلم، وثلث للعبادة، وثلث للنوم. فثلث العلم للناس، وثلث العبادة لآخرته، وثلث النوم لنفسه، ولكل حق يجب أداؤه، وهذه القسمة أفضل من قيام الليل كله؛ لأن النوم لابد منه في حفظ الحياة، وقد جعل الله الليل سكنًا، وفي حديث البخاري (قم ونم) وهذا من الجلي الذي لا يحتاج لزيادة البيان، وأعظم خدمة خدم بها الشريعة المطهرة: وضعه لقواعد أصول الفقه، التي هدى بها العلماء إلى كيفية استنباط الأحكام من الكتاب والسنة على وجه السداد، وسهل على المشتغلين بالفقه الاجتهاد. ومن محافظته على السنة ووقوفه مع نصوصها ما تواتر عنه من أن كان يقول: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) وأنه كان يأمر أن يضرب بكلامه عرض الحائط إذا خالف الحديث، وقال في الرسالة: (وهي أول ما كتب في علم الأصول) أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القَوَد) ، قال أبو حنيفة: قلت لابن أبي ذئب أتأخذ بهذا يا أبا الحارث، فضرب صدري وصاح صياحًا كثيرًا ونال منى وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: أتأخذ به؟ ! نعم آخذ به، وذلك الفرض عليّ وعلى من سمعه، وإن الله تبارك وتعالى اختار محمدًا صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك. قال: وما سكت حتى تمنيت أن يسكت. وكان يعظم النبي (عليه أفضل الصلاة والسلام) عند ذكره بمثل قوله: فداه أبي وأمي، وبصلوات بليغة لم يلهمها أحد من قبله، وقال يصف هداية القرآن في الرسالة بعد جملة طويلة في الصلاة المشار إليها محفوفة ببليغ الثناء: (وأنزل عليه كتابه فقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: ٤١-٤٢) فنقلهم من الكفر والعمى إلى الضياء والهدى، وبين فيه ما أحل مَنًّا بالتوسعة على خلقه، وما حرم لما هو أعلم به من حظهم في الكف منه في الآخرة والأولى، وابتلى طاعتهم بأن تعبدهم بقول وعمل وإمساك عن محارم حماهموها، وأثابهم على طاعته من الخلود في جنته والنجاة من نقمته، ما عظمت به نعمته جل ثناؤه، وأعلمهم ما أوجب على أهل معصيته، من خلاف ما أوجب لأهل طاعته، ووعظهم بالإخبار عمن كان قبلهم ممن كان أكثر منهم أموالاً وأولادًا، وأطول أعمارًا وأحمد آثارًا، فاستمتعوا بخلاقهم في حياة دنياهم، فآزفتهم [**] عند نزول قضائه مناياهم دون آمالهم، ونزلت بهم عقوبته عند انقضاء آجالهم، ليعتبروا في أنف الأوان [١] ويتفهموا بجلية التبيان، ويتنبهوا قبل رين الغفلة، ويعملوا قبل انقطاع المدة، حين لا يعتب مذنب ولا تؤخذ فدية، وتجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا. فكل ما أنزل الله في كتابه جل ثناؤه رحمة وحجة علمه من علمه وجهله من جهله، لا يعلم من جهله ولا يجهل من علمه. والناس في العلم طبقات موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العمل به، فحق على طبلة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصًّا واستنباطًا، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خيرًا إلا بعونه، فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصًّا واستدلالاً ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريب، ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة، فنسأل الله المبتدي لنا بنعمه قبل استحقاقها، أن يديمها علينا مع تقصيرنا في الإتيان على ما أوجب به من شكره بها، الجاعلنا في خير أمة أخرجت للناس، وأن يرزقنا فهمًا في كتابه ثم في سنة نبيه، وقولاً وعملاً يؤدي به عنا حقه، ويوجب لنا نافلة مزيده. (لها بقية) ... ... ... ... ... ((يتبع بمقال تالٍ))