للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجزية وتجنيد أهل الذمة

جرى الصحابة في فتوحاتهم على جعل الجزية التي يفرضونها على أهل الذمة
جزاء على حمايتهم والدفاع عنهم وعدم تكليفهم منع أنفسهم وبلادهم - أي حمايتها-
والدفاع عنها؛ ولذلك كانوا يفرضونها على من هم أهل للدفاع دون غيرهم،
كالشيوخ والنساء، فكان ذلك منهم تفسيرًا وبيانًا لمراد الكتاب العزيز منها، وكأن
العثمانيين سموها لأجل ذلك بدل عسكرية.
ولما كان من مقتضى الدستور العثماني تجنيد جميع العثمانيين، وتكليفهم تَعَلُّم
الفنون العسكرية وأعمالها؛ لأجل الاشتراك مع المسلمين في الدفاع عن أنفسهم
وبلادهم التي هي بلاد جميع العثمانيين، كان من لوازم ذلك وضع الجزية أو بدل
العسكرية عنهم.
وههنا مسألتان يظن الجاهل بحقيقة الشريعة الإسلامية وأصولها أن الدستور
مخالف لها فيها: إحداهما أنه لا يجوز تكليف أهل الذمة الدفاع عن أنفسهم ولا عن
البلاد التي يقيمون فيها؛ ما دام للمسلمين ولاية عليها. والثانية أن الجزية فرض
لازم، لا يجوز وضعه بحال.
فأما المسألة الأولى: فيصح أن يقال فيها: إننا لا نسلم أنه لا يجوز تجنيد
أهل الذمة إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك برأي أهل الشورى، فإن المصلحة
العامة هي الأصل والأساس للحكومة لا تترك لغيرها، وإنما يترك غيرها لها، وقد
سبق لنا تقرير هذا الأصل وإثباته غير مرة، على أننا إذا سلمنا جدلاً أنه لا يجوز
إكراههم على مساعدتنا على الدفاع عن أنفسنا وأنفسهم، وبلادنا وبلادهم، فلنا أن
نقول: إن أمر التجنيد لا ينفذ إلا بعد أن يقرره مجلس النواب العام الذي اشتركنا
نحن وإياهم في انتخاب أعضائه، وجعلناهم وكلاء عنا؛ ليقرروا ويضعوا القوانين
التي تقوم بها مصلحة الجميع، وهذا ينافي كون التجنيد بالإكراه، وإن كره بعض
رؤساء الدين المتعصبين منهم، فإن هؤلاء الرؤساء ليسوا نوابًا عن أهل دينهم في
وضع القوانين.
وأما المسألة الثانية: فيدلك على الحق فيها هذه النصوص التي ننقلها عن
رسالة الشيخ (شبلي النعماني) العالم الشهير، نشرت في أواخر السنة الأولى
من المنار، حقق فيها ما ذكرناه من كون الجزية جزاء الحماية والدفاع وأورد في
الاستدلال على ذلك هذه النصوص المروية، فقال:
ولعلك تطالبني بإثبات بعض القضايا المنطوية في هذا البيان؛ أي: إثبات أن
الجزية ما كانت تؤخذ من الذميين إلا للقيام بحمايتهم والمدافعة عنهم، وأن الذميين
لو أدخلوا في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع لعفوا عن الجزية، فإن صدق ظني فأصغ
إلى الروايات التي تعطيك الثلج في هذا الباب، وتحسم مادة القيل والقال.
(فمنها) ما كتب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حينما دخل الفرات
وأوغل فيها، وهذا نصه: (هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه:
إني عاهدتكم على الجزية والمنعة فلك الذمة والمنعة، وما منعناكم (أي حميناكم)
فلنا الجزية، وإلا فلا، كتب سنة اثنتي عشرة في صفر) (ومنها) ما كتب نواب
العراق لأهل الذمة وهاك نصه: (براءة لمن كان من كذا وكذا من الجزية التي
صالحهم عليه خالد والمسلمون، لكم يد على من بدل صلح خالد ما أقررتم بالجزية
وكنتم. أمانكم أمان وصلحكم صلح، ونحن لكم على الوفاء) .
(ومنها) ما كتب أهل ذمة العراق لأمراء المسلمين وهذا نصه: (إنا قد
أدينا الجزية التي عاهدنا عليها خالد، على أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين
وغيرهم) .
(ومنها) المقاولة التي كانت بين المسلمين وبين يزدجرد ملك فارس حينما
وفدوا على يزدجرد وعرضوا عليه الإسلام، وكان هذا في سنة أربع عشرة
في عهد عمر بن الخطاب، وكان من جملة كلام نعمان الذي كان رئيس الوفد:
(وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم، وإلا قاتلناكم) .
(ومنها) المقاولة التي كانت بين حذيفة بن محصن وبين رستم قائد الفرس،
وحذيفة هو الذي أرسله سعد بن أبي وقاص وافدًا على رستم في سنة أربع عشرة في
عهد عمر بن الخطاب، وكان في جملة كلامه: (أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى
ذلك) .
فانظر إلى هذه الروايات الموثوق بها، كيف قارنوا بها بين الجزية والمنعة،
وكيف صرح خالد في كتابه بأنا لا نأخذ منكم الجزية إلا إذا منعناكم ودفعنا عنكم، وإن
عجزنا عن ذلك فلا يجوز لنا أخذها.
وهذه المقاولات والكتب مما ارتضاها عمر وجُلُّ الصحابة فكان سبيلها سبيل
المسائل المجمع عليها. قال الإمام الشعبي وهو أحد الأئمة الكبار: أُخذ (أي سواد
العراق) عنوة وكذلك كل أرض، إلا الحصون فجلا أهلها، فدعوا إلى الصلح والذمة
فأجابوا وتراجعوا، فصاروا ذمة وعليهم الجزاء ولهم المنعة، وذلك هو السنة،
كذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدومة) .
ولا تظن أن شرط المنعة في الجزية إنما كان يقصد به مجرد تطيب نفوس
أهل الذمة وإسكان غيظهم، ولم يقع به العمل قط، فإن من أمر النظر في سير
الصحابة واطلع على مجاري أحوالهم، عرف من غير شك أنهم لم يكتبوا عهدًا ولا
ذكروا شرطًا إلا وقد عضوا عليها بالنواجذ، وأفرغوا الجهد في الوفاء بها، وكذلك
فعلهم في الجزية التي يدور رحى الكلام عليها، فقد روى القاضي أبو يوسف في
كتاب الخراج عن المكحول، أنه لما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة
فيهم، صاروا أشداء على عدو المسلمين، وعيونًا للمسلمين على أعدائهم. فبعث أهل
كل مدينة رسلهم يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعًا لم ير مثله، فأتى رؤساء أهل
كل مدينة الأمير الذي خلفه أبو عبيدة عليهم فأخبروه بذلك، فكتب والي كل مدينة
ممن خلفه أبو عبيدة إلى أبي عبيدة يخبره بذلك، وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة
فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب أبوعبيدة إلى كل وال ممن خلفه في المدن التي
صالح أهلها؛ يأمرهم أن يردوا عليهم ماجبي منهم من الجزية والخراج، وكتب إليهم
أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم
قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم،
ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم، فلما قالوا ذلك لهم
وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم، قالوا: (ردكم الله علينا ونصركم عليهم، فلو
كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا، وأخذوا كل شيء بقي حتى لا يدعوا شيئًا) .
وقال العلامة البلاذري في كتابه (فتوح البلدان) : حدثني أبو جعفر الدمشقي
قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع،
وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا
منهم من الخراج، وقالوا: (قد شُغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم) ،
فقال أهل حمص: (لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم،
ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. ونهض اليهود فقالوا: والتوارة لا يدخل
عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها. وكذلك
فعل أهل المدن التي صُولِحت من النصارى واليهود، قالوا: إن ظهر الروم
وأتباعهم على المسلمين صرنا على ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي
للمسلمين عدد.
وقال العلامة البلاذري في كتابه (فتوح الشام) يذكر إقبال الروم على المسلمين
ومسير أبي عبيدة من حمص: (فلما أراد أن يشخص دعا حبيب بن مسلمة، فقال:
اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم؛ فإنه لا ينبغي
لنا إذ لا نمنعهم أن نأخذ منهم شيئًا، وقل لهم: نحن ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من
الصلح ولا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنا
كرهنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع بلادكم) فلما أصبحَ أَمَرَ الناسَ أن يرتحلوا إلى
دمشق، ودعا حبيب بن مسلمة القوم الذين كانوا أخذوا منهم المال، فأخذ يرد عليهم،
وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، وأخذ أهل البلد يقولون: (ردكم الله إلينا، ولعن الله
الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا إلينا، بل غصبونا
وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا) ، وقال أيضًا يذكر دخول أبي عبيدة
دمشق: (فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين، وأمر سويد بن كلثوم القرشي أن يرد على
أهل دمشق ما كان اجتبى منهم الذين كانوا أمنوا وصالحوا، فرد عليهم ما كان أخذ
منهم، وقال لهم المسلمون: نحن على العهد الذي كان بيننا وبينكم، ونحن معيدون لكم
أمانًا) .
أما ما ادعينا من أن أهل الذمة إذا لم يشترطوا علينا المنعة أو شاركونا في الذب
عن حريم الملك، لا يطالبون الجزية أصلاً. فعمدتنا في ذلك أيضًا صنيع الصحابة
وطريق عملهم، فإنهم أولى الناس بالتنبه لغرض الشارع، وأحقهم بإدراك سر
الشريعة، والروايات في ذلك وإن كانت جمة، ولكن نكتفي هنا بقدر يسير يغني عن
كثير:
(فمنها) : كتاب العهد الذي كتبه سويد بن مقرن أحد قواد عمر بن الخطاب
لرزبان وأهل دهستان، وهاك نصه بعينه: (هذا كتاب من سويد بن مقرن لرزبان
صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان، أن لكم الذمة وعلينا المنعة،
على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنا
به منكم فله جزاؤه في معونته عوضًا عن جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم
ومللهم وشرائعهم، ولا يغير شيء من ذلك، شهد سواد بن قطبة، وهند بن عمر،
وسماك بن محرمة، وعتيبة بن النهاس، وكتب في سنة ١٠٨) اهـ (طبري ص
٢٦٥٨) .
(ومنها) الكتاب الذي كتبه عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب، وهذا
نصه:
(هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل
أذربيجان، سهلها وجبلها، وحواشيها وشفارها، وأهل مللها كلهم؛ الأمان على أنفسهم
وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ومن حشر
منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك)
اهـ (طبري صحيفة ٢٢٦٢) .
(ومنها) العهد الذي كان بين سراقة عامل عمر بن الخطاب وبين شهربراز،
كتب به سراقة إلى عمر فأجازه وحسنه، وهاك نصه:
(هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
شهربراز وسكان أرمينية والأرمن - من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم
وملتهم، أن لا يضاروا ولا ينقضوا، وعلى أرمينية والأبواب الطرّاء منهم والتّناء [١]
ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة، وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه
الوالي صلاحًا، على أن توضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك، ومن استغنى عنه
منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء، فإن حشروا وضع ذلك
عنهم. شهد عبد الرحمن بن ربيعة، وسلمان بن ربيعة، وبكير بن عبد الله، وكتب
مرضي بن مقرن وشهد) . اهـ (طبري صحيفة ٢٦٦٥ و٢٦٦٦) .
(ومنها) ما كان من أمر الجراجمة، وقد أتى العلامة البلاذري على جملة من
تفاصيل أحوالهم، فقال: حدثني مشايخ من أهل أنطاكية: أن الجراجمة من مدينة
على جبل لكام عند معدن الزاج، فيما بين بياس وبوقا يقال لها الجرجومة، وأن
أمرهم كان في استيلاء الروم على الشام وأنطاكية إلى بطريق أنطاكية وواليها، فلما
قدم أبو عبيده أنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم وهموا باللحاق بالروم؛ إذ خافوا على
أنفسهم، فلم يتنبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم، ثم إن أهل أنطاكية نقضوا
وغدروا، فوجه إليهم أبو عبيده من فتحها ثانية، وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلم
الفهري فغزا الجرجومة، فلم يقاتله أهلها، ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح،
فصالحوه على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين وعيونًا ومسالح في جبل اللكام، وأن لا
يؤخذوا بالجزية، ثم إن الجراجمة مع أنهم لم يوفوا ونقضوا العهد غير مرة، لم
يؤخذوا بالجزية قط، حتى إن بعض العمال في عهد الواثق بالله العباسي ألزمهم جزية
رؤوسهم، فرفعوا ذلك إلى الواثق فأمر بإسقاطها عنهم. اهـ.
(المنار)
لفظ المنع في هذه الكتب والعهود معناه: الحماية، كما أشرنا إلى ذلك في رواية
منها.