للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر
الباب الثاني (الولد) من كتاب
(٢١) من هيلانة إلى أراسم في دسمبر سنة - ١٨٥
كتبت للحكومة ثلاث مرات أستطلعها شيئًا من أخبارك فصدر في كل واحدة
منها أمر رسمي بإجابتي أنك بخير وذلك تهكم وسخرية.
أنا لا أطيق هذا السكوت الذي طال أمده بيننا ثمانية عشر شهرًا فإنه قد
أمضَّني وأحرج صدري , ولكني أراني قد اهتديت إلى حيلة لإيصال مكاتيبي إليك
سنرى حتمًا ما يكون من نجاحها , وسواء عليّ أفلحت فيها أم لم أفلح فإني لن آلو
جهدًا في ملازمة جدران سجنك ومحاصرتها على النحو الذي أعرفه.
انقضت كل هذه المدة ولا سلوان لي عن همي إلا في (أميل) . أوَّهْ إني
لأبذل أنفس ما عندي لمن يأتيني بك الساعة لتراه يغدو ويروح في البستان مكشوف
الساقين إلى نصفهما عاري الذراعين مرسل الشعر فإن شهر دسمبر هنا كما أخبرتك
فيما سبق غاية في اعتدال الإقليم ويقول صديقك الدكتور: إن شدّ أعضاء الأطفال
وتقويتها بتعريضها لهواء الجو يعود بالفائدة عليهم في أبدانهم. ثم اعلم أن (أميل)
غلام متعب فإنه كَلِفٌ بلمس كل شيء يقع بصره عليه فهل ينبغي منعه من ذلك؟
وليتك ترى ما يحدثه كل يوم في البستان من ضروب الإتلاف التي كان قوبيدون في
بداية الأمر يتوجع منها ويشكو. فلما أعيته الحيل انتهى بالضحك عجزًا ويأسًا.
ذلك لأن ولدك له في الاشتغال طرق شتى هو مخصوص بها فهو يقلب الأرض
بمقلب صغير من الخشب ويغرس الأشجار (أستغفر الله) بل أظنه يبني أيضًا
ولعلك تقول: إنه يبني له قصورًا في أسبانيا [١] كلا وإنما هو يقيم بالحصى منارات
وكهوفًا ثم إن الذي يضحكني ويسليني منه أنه يسمي تلك الألاعيب شغلا وهي
تسمية تشير إلى أن الأطفال مجبولون على تعظيم أعمالهم في أنفسهم وتقديرها بأكثر
من قيمتها. على أن ما يصدر عن سذاجتهم وسلامة طباعهم من أنواع هذا التقدير
ليس بجملته باطلا بطلانًا تامًّا فإن ثمرة البلوط مثلا إذا سقطت على الأرض من يد
صبي صغير لم يحسن القبض عليها لا ينافي ذلك أن تصير يومًا ما شجرة عظيمة
(فكيف إذا هو غرسها في الأرض) اهـ.
(٢٢) من هيلانة إلى أراسم في ١٢ يناير سنة - ١٨٥
قد اتخذ (أميل) له خليلةً، ولهذه المناسبة ينبغي أن أقص عليك حادثة وقعت
عندنا فارتعنا جميعًا بسببها ارتياعًا عظيمًا.. ذلك أن قوبيدون لما كان قليل الثقة
بشرطة الحكومات المتمدنة في حفظ الأنفس والأموال لما هو لاصق بذهنه من أفكار
متوحشي أفريقيا قد عثر من حيث لا أدري على كلبة ضخمة طويلة إلا أنها من أشد
أنواع الكلاب توحشًا فسميناها (الدبة) وهو اسم ينطبق عليها كمال الانطباق في
شعرها الأسود وقوتها العظيمة وغرائزها العدائية , وقد وضعت منذ شهرين خمسة
جراء تماثلها إلا أنها من حين ولادتها بدت عليها سمات الدمامة والبشاعة فأسكناها
في بيت الدجاج وكان من وراء وضعها أن زاد توحشها الفطري بسبب حنوها الأمي
كما يحصل ذلك غالبًا من الحيوانات الضارية فقد تخيلت أن تخفي جراءها في
سقيفة كانت تحرس مداخلها وتمنعها بنفسها لظنها بلا ريب أننا نأخذها منها , وقد
كنت أمرت بأن لا يدخل (أميل) بيت الدجاج بعد سكناها فيه؛ لأني كنت أخشى
عليه مقابلة هذا الحارس الجهنمي ولكن كيف السبيل وهو مع كونه لم يتجاوز
التهادي في مشيته يتسلل ويتدخل في كل مكان. ففي عصر ذات يوم افتقدناه في
البيت والبستان فلم نجده فأرسلت قوبيدون في طلبه ثم رأينا بيت الدجاج مفتوحًا فلم
يبق في نفوسنا ريب في أنه دخله , ولكن ضاع بحثنا فيه سدى فأوَّل خاطر مرَّ بفكر
الزنجي هو أن الكلبة افترسته وهو خاطر فيه ريح التوحش حقًّا.
لم تكن دهشة قوبيدون بأقل من ذعره إذ دخل السقيفة، مخاطرًا بنفسه فرأى
(أميل) وقد رقد على الدّبة وأخذ بأذنيها الطويلتين المتدليتين يجذبهما إليه , وأكثر
من هذا خروجًا عن مألوف العادة وأبعد منه عن معهودها أن ذلك الحيوان كان
يتسامح له فيما كان يفعله به ويحتمل منه لجاجته في محكه بشهامة وعلو نفس لا
يتصف بهما إلا الآخذون بطريقة زينون [٢] فلم يلبث قوبيدون أنْ فهم وهو مندهش
أن الكلبة قد اتخذت (أميل) خليلاً وأكرمت وفادته فقبلته بين أولادها لكنها لم تمنح
الزنجي شيئًا من هذه المراعاة لأنها لما رأته أنشأت تهرّ وتكشر عن أنيابها زجرًا له
فرأى من الحزم الفرار من أمامها فخرج داعيًا (أميل) إلى اللحاق به فتبعه جذلاً
مبتهجًا غافلاً عما كان قد اقتحمه من الخطر , من هذا الحين انعقد التعارف بين
(أميل) وبين الدبة وكأَنها توهمته جروًا صغيرًا لم تحسن أمه لحسه فكانت من أجل
ذلك تعتبره ممن تجب لهم حمايتها , وتلحس ما انكشف من أعضائه بلسانها
العريض , وعلى كل حال قد ظهر لي أنها حميدة المقاصد فلم يبق لي من
موجب للخوف منها على ولدي.
لم يقتصر (أميل) على مصادقة الدبة بل إن له أصدقاء غيرها فجميع سكان
بيت الدجاج معارفه , ومن العجيب أن تراهم في غاية الائتلاف والوئام ولست أخفي
عنك أني مهتمة بهذا العالم البيتي الصغير ومشتغلة بشأنه كل الاشتغال.
يوجد على القرب من بستاننا بركة فيها وشل (ماء قليل) يزداد بما ينصب
فيها من ماء المطر المتحلب من سطوح المنازل فخطر ببالنا أن نضع فيه بطًّا
وتعهد بذلك قوبيدون فاشترى ثلاث بطات من كفر مجاور لنا وأصبحنا نتسلى برؤية
ريشها الأخضر الجميل الممثل لفلذ المعادن , ونبتهج بما تبديه لنا من ضروب
المرح واللعب في الماء وبما تسمعنا من البطبطة وترينا من الائتلاف الصحيح الذي
جمعتها وشائجه , ولكن الزنجي لم يلبث أن لاحظ عدم التناسب والتلاؤم في تآلف
هذه الجماعة فإنه وجد فيها ذكرين لأنثى واحدة مع أن البط على ما يظهر يميل إلى
تعدد الزوجات على نحو ما عليه الترك بتزوج السلطان الواحد كثيرًا من النساء ,
فمن أجل مداواة هذه العلة التي جزم قوبيدون بمخالفتها لمقتضى الفطرة [٣] قد
اشترى زوجًا آخر من هذا النوع بعد أن تأكد هذه الدفعة من أنوثته وتحراها كما
ينبغي وبذلك أصلح الخطأ الأول بعض الإصلاح وبقي أمر ما كان يخطر لنا على
بال قبل شراء هذا الزوج فانعكس فيه تقديرنا وخاب حسباننا وهو استقبال البطات
القديمة لهذا الزوج , فإنها بمجرد أن رأته ولته ظهورها مصرة على مجانبته , وكلما
حاول القرب منها نهرته وأوسعته نفرًا فأردنا التوسط في الصلح بين الفريقين فلم
يجد ذلك نفعًا لأننا ما كدنا نفارقهما حتى عقدت الثلاث القديمات مجلسًا للشورى
بينها بمعزل عن الحديثتين وأنشأن يبطبطن طويلاً ولم أعرف ما دار بينهن من
التداول والتشاور بنصه لعدم معرفتي لسانهن ولكن معناه كان ظاهرًا فكأنهن كن يقلن:
(إننا قد سكنا هذا المكان قبلهما ولنا الحق من أجل ذلك أن نعتبرهما دخيلتين
فأجدر بنا أن نُشْوَى على السفود شيًّا أو أن نجهز باللفت طعامًا للآكلين من أن
نقبلهما في جماعتنا فنحن بط وأما هما فليستا إلا من السقط) .
لما لاحظ قوبيدون أن أحد أفراد هذه الجماعة وهو ذكر أبيض ذو قنزعة
طويلة كان أشدها لجاجة في النفور صمم على ذبحه على نصب الوفاق فداء للاتحاد
والتآلف فلما فعل؛ أنتج هذا القربان مع أسفي عليه أثره المطلوب , فأخذ كل فريق
يتدرج في التقرب من الآخر حتى انتهيا بأن صارا جماعة واحدة وإن كانت البطة
القديمة هي السلطانة الحظية. فما رأيك في ذلك الشمم والترفع في هذا الجنس
الحيواني؟ أترى أن الميل للسؤدد والشرف هو الأصل الثابت في الفطرة , وأن
المساواة بالمعنى الذي نفهمه منها أمر عارض عليها اكتسبه الإنسان بالعدل.
لو شئت لقصصت عليك أيضًا وقائع كثيرة في عوائد الحمام وأخلاقه هي
بالنسبة إلي جديدة. فقد تبيّن لي من النظر في معيشته في برجنا أن أموره لا تجري
تمامًا على ما تصفه الكتب من جعله في الجملة مثالاً للصداقة والوفاء بعقد الزوجية
لأني رأيت ذكرًا عتيقًا متزوجًا بحمامة فتيّة كان حظه معها حظ أولئك الشيوخ
الضعاف الذين تمثل الروايات الهزلية خضوعهم وتسليمهم قيادهم لمن يخالطونهم.
فتركته في يوم من الأيام واستبدلت به ذكرًا فتيًّا متصلفًا استمالها منه بلا ريب رقيق
كلامه وجميل تحيته وسلامه , وكأني بك تقول: أي الزوجين كان مخطئًا آلزوجة
لأنها طائشة وسريعة التحول والانقلاب , أم الزوج لأنه أغفلها ولم يراعها كما
ينبغي؟ فأجيبك أنه ينبغي الحذر من المجازفة في الأحكام على غير علم ومن أجل
ذلك فأنا قبل كل شيء أمسك عن الحكم , وأقول: إن الزوج المخون على كل حال
قد تلقى سقوط حرمته بعلو نفس يدل على الشجاعة الحقيقية فكان إذا اتفقت مقابلته
لزوجته الخائنة في طريق يمر بجوارها بدون أن يظهر عليه أنه رآها وأن يبدي
أقل أمارة على حنقه عليها إلا أنه لم يكن ألبتة على هذا التسامح مع من اغتصبها
منه لأنهما عندما كانا يتقابلان يتبادلان النقر الأليم الوقع كما كان منيلاس وباريس
يتبادلان الطعن والضرب في حومة الوغى [٤] , ولما قضت الحمامة المطلقة زمن
العشق وحان وقت الحضانة على البيض لم تحسنها لأنها ورفيقها كانا من فرط
انشغالهما بدواعي الحب بحيث لم يكن ليتيسر لهما أن يكثرا من التفكر في فروض
البيت , ولم تعزب هذه الحالة عن ذهن الزوج المهجور فإننا رأيناه ذات يوم
يخرجهما من إحدى المحاضن حيث كانا مشتغلين بتربية أفراخهما , وهما - والحق
يقال - ما كانا يأتيان بها على وجهها وكأنه كان يقول لهما وقت إخراجهما: (أفًّا
عليكما أنتما لا تعرفان من التربية شيئًا فخلّيا مكانكما) فلم يكن إلا أن خلياه بعد
مقاومة ضعيفة , وجعل هو يحسن العناية بشأن أدعيائه , وسمة الظفر والفخر بادية
على وجهه. فنبهت فكري هذه السيرة الشريفة إلى أمر من المحتمل أن يكون هو
سبب شقائه بزوجته وهو أن صفة الأبوّة فيه غالبة على صفة الزوجية.
(أميل) كما لا يعزب عن فكرك يجهل كل هذه الاعتبارات المختلفة التي
لاحظتها في معيشة الطيور , وبودّي أنه لا يفهم كل ما فيها , وإنما الذي أعجب به
هو ما استقر بينه وبين معظم سكان بيت الدجاج من الألفة والارتباط. هذا وإننا
كثيرًا ما تساءلنا عن السبب في أن تأنيس الحيوانات كاد ينقطع من عهد أن وجدت
المجتمعات المدنية. لا شك في أن علته ذلك ليست هي إعواز الحيوانات المتوحشة
فإن في الصحراء كثيرًا من أنواعها النافعة التي يكون من فائدتنا الظفر بها لو زال
المانع من ذلك , فإذا كان الأمر كما أقول؛ ألا يكون السبب في وشك انقطاع
التأنيس هو كون الإنسان في عصرنا الحاضر لم يبق فيه من سذاجة الفطرة ما يكفي
لثقة الحيوانات المتوحشة به , وأن صفات الطفولية هي اللازمة لذلك؟
((يتبع بمقال تالٍ))