قام في الإسلام دول وممالك كثيرة أعظمها شأنًا وأطولها زمانًا وأشدها بأسًا وأوسعها سلطانًا دولتا العرب بأقسامها والترك. وإننا نرى الكتاب يخبطون في التفاضل بينهما خبط عشواء , وقد غلا بعضهم في النيل من العرب حتى زعم أنهم لا قابلية فيهم للتمدن، ولا قدرة لهم على سياسة الممالك وإقامة دعائم العمران , وأفرط هؤلاء في مدح الترك حتى كادوا يرفعونهم عن رتبة البشرية إلى مصاف الملائكة المقربين، زاعمين أنهم ما وجدوا إلا ليكونوا ملوكًا حاكمين، أو آلهة معبودين. ومن الناس من تحامل على الترك حتى سلبوهم مزاياهم وفضائلهم وزعموا أنهم خلقوا فتنة للناس وبلاء على الانسانية. فريق يتزلف فيعميه التزلف وفريق يتعسف , فيضله التعسف. وإننا نكتب نبذة في هذا المقام مما يمليه علينا التاريخ الصادق، ويشهد به الوجود الثابت {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: ٩) . نكتب لبيان الحقيقة , والعلم الصحيح لا يكون إلا نافعًا، كما أن الجهل بحقائق الأمور لا يكون إلا ضارًّا , فلا يمكن أن ينكر علينا كتابتنا هذه إلا من يفضِّل الجهل على العلم، والظلمة على النور، والضلالة على الهداية. ومن منافع العلم بهذه الحقيقة أن يعرف العرب الكرام، أنهم فوق ما يقول فيهم أعداؤهم اللئام فينشطوا لدفع العار الذي يُرمَون به، ويجتهدوا في استرجاع مجد سلفهم الصالح ومفاخر آبائهم الأولين , وأن يعرف الترك للعرب فضلهم كما يعرف العرب لهم فضلهم، ويأخذ كل منهما بيد أخيه ويتعاونا على الوحدة الإٍسلامية معتقدين أن الإسلام ساوى بينهما في الحقوق وآخى بينهما في الدين , وأنه ليس وراء هذه إلا التفاضل بالأعمال، فيجب أن يكون عمل كل منهما متممًا لعمل الآخر، وأن امتياز جنس على جنس كما كان سبب الضعف فيما مضى يكون سبب الموت والفناء فيما يأتي من الزمن. وصف مؤرخ الترك العالم الشهير جودت باشا الدولة العثمانية في كلامه على تأسيسها بقوله: (إنها كانت جامعة الديانة والشجاعة العربية، متصفة بالثبات الذي هو من أخلاق الترك , فلذلك كانت على صغرها في أول نشأتها مستعدة لأن تكون كهفًا وملجأ للملة الإسلامية) . وما قال هذا المحقق إلا حقًّا، فإن الترك نجحوا بهذه الصفات الثلاثة: العظمى منها أخذوها كغيرهم عن العرب وهي الدين، والثانية شبَّههم فيها بالعرب والمشبه به يكون أرقى وأقوى من المشبه في الصفة التي بها المشابهة، وأما الثالثة فهي مما امتاز به الترك على كثير من الشعوب والأجناس وهي أحد الأسباب في ثبات ملكهم وطول زمن دولتهم (أعزها الله وزادها ثباتًا وبقاءً بفضله وكرمه) . وثَم سببان آخران جديران بالالتفات (أحدهما) أن الترك طُبعوا كجميع الشرقيين ما عدا العرب على الخضوع الأعمى لرؤسائهم، وتقديس ملوكهم وأمرائهم وإنما حصل التنازع على السلطة في العرب للمبدأ الديمقراطي الذي جاء به الإسلام , وكان العرب أشد الناس استعدادًا له , ولكنهم ما رعوه حق رعايته , بل تقلص ظله بعد الراشدين رويدًا رويدًا بضعف الدين في النفوس كما سنبينه بعد , و (ثانيهما) أن حالة البلاد الإسلامية التي نشأت فيها الدولة وفتوحاتها في جهة أوروبا بلاد المسلمين وحالة المسلمين في البلاد المجاورة لها كانت تقتضي نجاح هذه الدولة وثباته؛ ذلك أن الاختلافات السابقة والفتن والحروب الداخلية، وإغارة جنكيز خان وأولاده وتدويخهم المسلمين وتنكيلهم بهم شر تنكيل- كل ذلك كان مريبًا للأمة الإسلامية على اختلاف شعوبها ومعدًّا لها بل ومُلجئًا إلى الخضوع والسكينة. فهذا هو المانع للشعوب الإسلامية من الكر على الشعب التركي وتدويخه وإزالة سلطته , وما كان أحد ليقوى في تلك الأزمنة على المسلمين إلا المسلمون الذين كان بأسهم بينهم شديدًا، وما كانت إغارة تيمورلنك على البلاد الإسلامية في أوائل نشأة هذه الدولة إلا زلزالاً عنيفًا صدع البلاد المجاورة لها وما أضر ببلادها هي إلا قليلاً؛ ما أضر بالدولة بل رباها فإن السلطان بايزيد الأول الذي أسره تيمورلنك كان منغمسًا في الترف مسترسلاً في اللذات وقد خانه عسكره فانضوى قسم كبير منه إلى تيمورلنك على أنه كان لا يزيد عن تسعين ألف فارس وكان عسكر تيمور ٣٨٠ ألفًا من التتر الأشداء الغلاظ. مات السلطان بايزيد بعد ثمانية أشهر من أسره (سنة ٨٠٥ هـ) فتنازع أولاده على الملك فولى تيمورلنك على البلاد العثمانية أمراء قرامان والسلاجقة ورحل عنها إلى الهند بعد ما عاث وسلب ونهب، وظل سرير السلطنة إحدى عشرة سنة بغير سلطان؛ فضعفت الدولة بذلك , ولكن لم يكن في جوارها دول قوية تغتنم الفرصة فتُجهِز عليها ولذلك عادت إليها قوتها سريعًا على يد السلطان محمد جلبي ابن السلطان بايزيد الأول الذي كان أول من أحدث العساكر البحرية في الدولة وإرسال الصرة السلطانية إلى الحرمين الشريفين. إنما الترك أمة حربية وما كانوا أشد بأسًا من العرب , وأين فتوحاتهم من فتوحات العرب مع أن مدتهم أطول من مدة دول العرب كلها؟ البلاد التي فتحها العرب هي التي نما فيها الإسلام وثبتت أصوله، وعلت فروعه. ومعظم البلاد التي فتحها الترك كانت وبالاً على الإسلام والمسلمين , ولا تزال تنذرهم بالبلاء المبين. لا أقول: إن تلك الفتوحات مما يعاب بها الترك ويُذمون , ولكنني أقول: إن الفضل الأكبر في الفتوحات الإسلامية للعرب , وأن الدين انتشر بالعرب واعتز بهم , فأساسهم أقوى أساس ونبراسهم أضوء نبراس، وهم خير أمة أخرجت للناس , ولا أنكر أن للترك فضلاً وذكاء ونبلاً , ولا أحب أن أطيل القول في المقابلة بالفتوحات وما هو أكثر منها فائدة للإسلام والمسلمين فكل من له شمة من معرفة التاريخ الماضي والحاضر يعرف أن معظم البلاد التي تمكن فيها الإسلام هي مما فتحه العرب وانتشر الدين فيه بواسطة العرب. وسنأتي في مقالة أخرى على المقابلة بين الجنسين في العلوم والفنون والزراعة والتجارة وسائر أمور المدنية والعمران. ((يتبع بمقال تالٍ))