بقية الكلام في النبوة أليست العقائد الإسلامية أنزه العقائد وأبعدها عن مخالفة المعقول والوحيدة في قوة الحجة ومتانة البرهان (انظر ما تقدم في المقالة الأولى) أليس في القرآن أصول الدلائل العقلية على صحة هذه العقائد مع الرد على من خالفها بأجلى بيان؟ أليس في العبادات والأوامر والنواهي القرآنية ما يطهر القلب، ويصلح النفس والجسم معًا وأحوال الدين والدنيا؟ أليس في القرآن من المسائل العلمية الطبيعية ما لم يخطر على قلب بشر في ذلك الزمن وفي تلك البلاد؟ ماذا يكون قول العامي إذا ذكر شيئًا عن البرق والرعد والصواعق؟ وماذا يقع في كلامه من الأوهام ونحن في القرن العشرين للمسيح؟ فما بالك إذا كان في القرن السادس، فيكف لم يدخل ما يذكره العامة من الخرافات في القرآن، ولِمَ لَمْ يذكرها محمد - صلى الله عليه وسلم- فيه اعتقادًا منه لها، وجريًا على ما كان عليه معاصروه؟ فكم ذُكرت هذه الأشياء في القرآن وغيرها من عجائب الكون، ومع ذلك لم يرد عنها إلا كل قول صحيح سالم من طعن الطاعنين، فكيف تحاشى محمد الوقوع فيما يقع فيه مثله من العامة عند ذكر هذه المسائل؟ هل يعرف العامي الأمي من العرب في ذلك الزمن أن كل الثمرات لها حياة كحياة الحيوان، وأنها جميعها لها ذكر وأنثى، وهو الأمر الذي لم تقل به العلماء إلا في الزمن الأخير {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} (الرعد: ٣) مع أن العرب لم تكن تعرف ذلك إلا في النخيل! هل يعرف العامي أن القمر ليس مضيئًا بذاته، ويدرك أن الشمس وحدها هي مصباح عالمنا هذا فيقول {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء: ١٢) ولا يصف القمر بما يستفاد منه أنه مصدر للنور ويصف الشمس وحدها دائمًا بذلك، كقوله: إنها سراج منير ونحو ذلك؟ هل كان أحد في ذلك الزمن يعتقد دوران الأرض حتى يرد في القرآن: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: ٨٨) ؟ ! وليس ذلك في يوم القيامة على الأصح إذ قوله (تحسبها جامدة) لا يناسب مقام التهويل والتخويف، وقوله {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: ٨٨) لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة، هل كان أحد يدرك الفرق بين جعل النهار الذي هو من حركة الأرض مجليًا للشمس، والليل غاشيًا لها، وبَيَّن العكس حتى يأتي بهذا التعبير {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} (الشمس: ٣-٤) والذي أتعب المفسرين زمنًا، ولا يقول إن الشمس هي المجلية للنهار بتحركها، كما كان ينتظر من مثل هذا العربي الأمي. مَنْ مِنَ العامة يدرك أن صغر القمر وكبره حسب ما نشاهده ليس إلا لاختلاف منازله بالنسبة إلى الشمس، لا لأن حجمه الحقيقي يصغر ثم يكبر شيئًا فشيئًا حتى يقول: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ} (يونس: ٥) . يظن العامة أن المطر آتٍ من الجنة، أو من الملكوت الأعلى أو من عالم غير عالمنا هذا، ولا يتصورون أن أصله من ماء بحار أرضنا هذه، ولكن القرآن يقول: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: ٣١) أي إن المياه بأنواعها التي نستعملها خارجة من الأرض، ولم يستثن منها ماء المطر كما يتوهمون، فهل يكون في كلام الأمي العامي في ذلك الزمن هذه الدقة في التعبير، والصدق في العبارة، والإشارة الواضحة إلى مسائل علمية لم تكن معروفة من قبل أو معمولاً عليها في زمنه؟ هل تدرك العامة بل وكثير من الخاصة أن التغيرات في العالم أعظم برهان على وجود الخالق تعالى؛ حتى يستشهد القرآن على ذلك باختلاف الليل والنهار وحركات الكواكب، وشروقها وأفولها. أليس ذلك مما لم تنته إليه عظماء الفلاسفة إلا بعد الجهد والعناء الكبير؟ ! هذا وإن القرآن قد أتى بالحِكَم الكثيرة والأمثال الصحيحة على وجه وتعبير ينهك الفيلسوف الحكيم بدنه دون أن يأتي على تعبير مثله؛ فما بالك بهذا الأمي؟ . فهل نقول بعد ذلك كله أن سماع النبي لخلط من جاوره من الناس الجهلاء وهوَسهم هو المصدر لهذا الكتاب الحكيم؟ فوالله لو كلف أحد الفلاسفة أن يمحص المسائل كما محصها القرآن، وأن يأتي بأصح الآراء وأقومها في المعتقدات وغيرها، ويؤسس مثل هذا الدين الكامل ما فيه، ويتبع السياسة الرشيدة، والحكمة البالغة في إرشاد الناس إليه كما فعل محمد - عليه السلام- وأن يحترس من الوقوع في زلة واحدة، وأن يخبر عن بعض أشياء في المستقبل بفكره وقريحته بحيث لا يخطئ فيها، وأن يأتي ببعض مسائل علمية لا يعرفها معاصروه، وكلف بأن يجعل كل كلامه هذا بأسلوب غريب لم تعهده الناس من قبل، ويكون في درجة من البلاغة لا يحاكيها أحد، وأن يقلب كيان أمة عظيمة كالأمة العربية؛ فبعد أن كانوا أعداء صاروا إخوانًا، وبعد أن كانوا عابدين للأوهام صاروا علماء، وبعد أن كانوا أضعف الأمم صاروا أقواها وسادتها في مدة قليلة؛ لو كلف بهذا كله لأقرَّ في الحال بالعجز، واعترف بالضعف، فما بالك إذًا بالنبي العربي الذي نشأ يتيمًا، فقيرًا، أميًّا في وسط الجهل والوثنية في زمن العمى والظلام تحتاط به الخرافات من كل جانب والأباطيل من كل مكان امتزج حوله الحق بالباطل، واختلط الصدق بالكذب يسمع قولاً حقًّا مرة، وأكاذيب بجانبه مرات؛ فلا يمكنه أن يميز أحدهما عن الآخر لعدم علمه، تشعبت في فكره الآراء، وتضاربت في نفسه الأقوال، فوقف وقفة الحائر ينتظر الإرشاد الإلهي حتى جاءه الوحي الرباني؛ فمحص الحق ورفض الأباطيل، وقرر الصدق وأزهق الأكاذيب. واعتمد في دعواه على الحجج البينات؛ لا على الألاعيب، فأعظم به من نبي ختم الله به الأنبياء، وأكرم به من رسول طار ذكره في السماء، صلى الله عليه وسلم. بقي عليّ أن أذكر شيئًا عن أخلاقه؛ بعد أن خضعت له الملوك وهابته الجبابرة، وانتشر اسمه في سائر الآفاق. هل طغى وبغى وانهمك في الملاذ؟ كلا ثم كلا. ملك مُلكًا واسعًا، ولكنه ما فارقه الزهد والتقشف طول حياته، مات ولم يترك إلا شيئًا زهيدًا، وأوصى أن يكون صدقة لأمته، لم يتغير حلمه وعفوه ورأفته ورحمته بالناس، بل زادت. اقتصر على زوجته العجوز إلى ما بعد الأربعين -كما قلنا سابقًا - حتى توفيت، ومن تزوجهن بعد ذلك لم يكن فيهن بكر سوى عائشة، وتزوجها وهي في سن تكاد أن لا تُشتهى فيه لتوثيق ما بينه وبين والدها من المحبة والمودة، وكان غرضه من تعددهن القيام بكفالتهن لفقرهن أو عدم وجود من يقوم بشؤونهن؛ كمن فقدت بعلها في حرب أو غضب عليها أهلها لإسلامها، أو لم يرغب فيها أحد من أصحابه لكبر سنها، وليس للنبي أن يشير على أحد بتزوج بعضهن؛ لئلا يأخذها مضطرًّا في زواجها فلا يحصل بينهما وفاق وكان الغرض في زواج بعضهن إيجاد الرابطة بينه وبين أهليهن، أو تعزية بعضهن على فقد زوج كانت تتفانى في حبه، أو إبطال عادة من عادات الجاهلية إلى غير ذلك من الأغراض الشريفة كما يتضح للمدقق في أخبارهن؛ فشفقة بهن ورحمة لهن كان يتزوجهن، ولا يمكنه أن يبقيهن في منزله من غير زواج لئلا يرميه الناس باستخدامهن من غير حق، أو بإرادة الفحشاء بهن (تنزه عن ذلك وجل مقامه عنه) ولو كان غرضه الشهوة لكُنَّ من حسان الأبكار لا الثيبات المسنات؛ فمن كان هذا شأنه لا يتصور أنه كان يطلب بدعواه النبوة الحصول على شيء من لذات هذه الدنيا، وإلا لوجدته بعد نجاحه متكبرًا، جبارًا، منتقمًا، فظًّا غليظ القلب، متعاليًا في نفسه، محتقرًا لغيره، فأين هذا كله ممن كان متواضعًا متقشفًا، يخصف نعله بيده، ويرقع ثوبه ويطوي على الجوع ليالي راضيًا بالقليل رحيمًا بالناس، لطيفًا يحترم كل أحد حسب منزلته، حليمًا لا يغضبه جهل الجاهل ولا قلة أدب الوقيح، يعفو ويصفح عمن أساء إليه. إذا احتاج يقترض المال حتى من اليهود وكثيرًا ما أوذي بسبب ذلك، فالله أكبر ما أجلّ شأن النبوة وأرفعها عما يرميه به الجهلة من الناس هداهم الله. هذا الذي ذكرناه من الدلائل هو المعول عليه في هذا الباب والسند الأقوى للنبي في دعواه، وأما ما ظهر على يديه من خوارق العادات، فلم يكن عليه السلام يعتمد عليها كثيرًا؛ فلذا ضربنا صفحًا عن إطالة البحث فيها وغاية ما نقول: إن هذه المعجزات ليست من المستحيلات، بل هي مما يدخل تحت قدرة الله تعالى، وقد نقلها الثقات نقلاً متصلاً صحيحًا، وتواتر بعضها بحيث إن الإنسان إن شك في بعض أفرادها لا يمكنه أن يشك في مجموعها. وأمثال هذه المعجزات كانت الحجة الكبرى والدليل الوحيد للأنبياء السابقين مع أممهم. ذلك لأن الإنسان في تلك العصور ما كان يدرك قوة الدليل العقلي، فكان كالطفل لا تنفعل نفسه إلا بما وقع تحت حسه ولا يتأثر إلا بما كان تحت لمسه، ولما بلغ رشده وارتقى ارتقت أدلة النبوة كذلك وآتاه الله من الدلائل بما يناسب حالة رقيه العقلي، وجعل المعجزة الكبرى في إتيان الأمي بما أتى به مما فصلناه، وعجز البشر جميعًا عن الإتيان بمثله، وأما المعجزات الأخرى فلم يكن يراد بها إلا تثبيت الذين آمنوا بالحس بعد أن اقتنعوا بالعقل وإلزام المعاندين الذي علقوا إيمانهم على رؤية هذه الخوارق، ولما لم يؤمنوا عند ظهورها ما كان يجيبهم إلى طلب غيرها؛ لأن من لم يقتنع بهذه لا يقتنع بتلك إذ الدلالة على الصدق في جميعها واحدة. وهذا الذي قلناه هو ما يستفاد من مجموع آي القرآن الواردة في هذا الشأن فليراجعها من شاء. والخلاصة: إن الدليل قسمان حسي وعقلي، أما الحسي فإنه أشد تأثيرًا على النفس وأفعل في القلب، وأما العقلي فإنه أصح وأعم فائدة، وذلك لأنه متى أحكمت مقدماته ونتائجه؛ فلا سبيل لتطرق الشك إليه، وكل من تصوره صدق به بخلاف الحسي فلا يؤثر إلا على من نظره بعينه ويتطرق إليه شبهات كثيرة كالشعوذة والتدليس والحيل، وكلما كان الإنسان بسيطًا كان فعله في نفسه أشد. ولما كان محمد -عليه السلام - خاتم الأنبياء ومرسلاً إلى الإنسان بعد بلوغه رشده، ودعوته ليست قاصرة على زمن أو مكان كان الأنسب أن تكون حجته عقلية من أن تكون حسية. وقد كان ذاك، وقد ظهرت حكمة الله -جل شأنه - في هذا النوع فآتاه في زمن طفوليته بما يناسب بساطته، وفي زمن كهولته بما يوافق رقيه ودرجة عقله كالأب الحكيم يحمل أبناءه في صغرهم على الدرس بإعطائهم المكافأت كالحلوى، والصور، وفي كبرهم بتبيين فوائد الدراسة ومنافعها وتأثيرها في مستقبلهم، فالإنسان بالبعثة المحمدية أدرك قيمة عقله، وخلص من سائر القيود ولم يبق لمشعوذ عليه سلطان أو لمحتال عليه حيلة، وقام ينفض ما على جسمه من غبار التقليد، ونظر بعقله إلى ما حوله من الموجودات واستخدامها، وهكذا سار في طريق الإصلاح إلى أن يبلغ الكمال إن شاء الله تعالى. ولنختم هذه المقالة باختصارها في كلمات معدودة فنقول: كل من أتى بإصلاح في الأرض من قِبل الله تعالى فهو نبي، ومحمد قد أتى بالإصلاح من قِبله تعالى فهو نبي، والدليل على أن إصلاحه من عند الله أنه ليس مستمدًّا من معلومات من جاوره من الناس كما بيناه آنفًا، وأن ما أتى به لا يقدر البشر على الإتيان بمثل جزء منه، إذ لو كان مقتبسًا من علمهم لكانوا أقدر على الإتيان بذلك، قال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} (هود: ١٤) . إذًا القرآن كتاب الله وكل ما فيه حق من عنده تعالى فيجب الإيمان به والعمل بما فيه لنحوز سعادة الدنيا والآخرة. محمد توفيق صدقي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... طبيب بسجن طره ((يتبع بمقال تالٍ))