للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مشروع سكة حديد بين بورسعيد والبصرة
كنا اقتصرنا عند الكلام على هذا المشروع لأول مرة على الاعتراف بعظيم
فائدته، وتفويض الأمر فيه لحكمة مولانا السلطان الأعظم ووزرائه الصادقين،
وذلك لأمرين:
أحدهما: ما ذكرناه في العدد الماضي من كون المقترح هو أن تكون لجنة
العمل تحت رئاسة مولانا أيده الله تعالى؛ لأنها لا يمكن أن تنجح بدون ذلك.
وثانيهما: أن للمشروع وجهة سياسية نبينها هنا، لا كما زعم محرر جريدة
(وكيل) الغراء من أنه عمل تجاري صُرَاح لا شائبة للسياسة فيه، ووافقه على ذلك
المؤيد الأغر، وطفقا يعذلان المنار ومعلومات على تفويض الأولى الأمر للمرجع
الأعلى، وقول الثانية بمداخلة الأجانب، أو معارضتهم، وإننا نذكر الآن فوائد هذا
المشروع العظيم وغوائله، وبماذا تُتَّقَى الغوائل، وكيف ينبغي أن يكون طلبه
سالكين طريق الاختصار والإيجاز فنقول:
فوائد المشروع:
(١) التمكن من إنشاء نواشط (ج ناشط وهو الطريق ينشط يخرج من
الطريق الأعظم يمنة ويسرة) ، ومد فروع من الطريق الأكبر إلى الحجاز والشام
والأناضول ثم إلى اليمن، وبذلك تتصل بلاد الدولة العلية بعضها ببعض وتكون
جسمًا واحداً.
(٢) إقدام المسلمين على الأعمال الكبيرة وتمرنهم عليها، وهي لا شك
منشأ الثروة والقوة والعزة، بل الحياة القومية.
(٣) كوْن هذا العمل ينبوع ثروة للمسلمين القائمين به لا ينقطع ولا يغيض.
(٤) انتفاع الألوف الكثيرة من الصناع والعمال وتعيشهم به زمنًا مديدًا، ولا
شك أن أكثرهم يكونون من العثمانيين وسائر الشرقيين.
(٥) كون هذا المشروع (كما قالوا) مدرسة عملية ينجب لنا مئين وألوفا
من الشبان في الهندسة العملية والأشغال الصناعية والمالية (وهذه الفائدة مغايرة
للثانية بالضرورة) .
(٦) عمران بلاد السلطنة الداخلية، لا سيما بلاد العراق والجزيرة، فإذا
وطئت المسالك للمهاجرة إلى تلك البلاد، وسهل النقل منها وإليها، فلا تَسَلْ عن
مستقبلها، وكيف لا وتربة دجلة والفرات تربي على إبليز النيل. قال هيردوتس
المؤرخ: إن حاصلات الحبوب في تلك البلاد تزيد عن البذر مائتي ضعف إلى
ثلاثمائة ضعف، وإن ساق القمح والشعير يبلغ عرضه غالباً أربعة أصابع، وأمسك
عن ذكر ارتفاع نبات الدخن والسمسم، قال: لأنه لا يكاد يصدقه السامع، وقال
سترابو: إن غلة الشعير تكون قدر البذرة ثلاثمائة مرة، وقال بليني: إن الغلة
هناك تكون مائة وخمسين ضعفًا، وقد يتوهم السامع أن في الكلام مبالغة، وقد قال
شسناي: لو بذلت في تلك الأرض بعض عناية الأقدمين لرأينا من خيراتها مصداقاً
لقول هيرودتس.
(٧) توسيع دائرة التجارة شرقية وغربية، فإن هذه البلاد التي ينشأ فيها
السخط هي معقد الارتباط والاتصال بين الخافقين (الشرق والغرب) .
(٨) التعارف والتآلف واجتماع الكلمة بين العثمانيين والهنديين والإيرانيين
العاملين في المشروع والمشتركين فيه، ويدخل في ذلك قوة نفوذ الدولة العلية
المعنوي في الممالك الهندية وغيرها من البلاد الإسلامية.
(٩) اتصال الشرق الأدنى بالشرق الأقصى، وذلك مبدأ لجمع كلمة
الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصًا، واتحادهم إذا أرادوا العمل للاجتماع
والاتحاد.
(١٠) صيرورة طرفي الخط وهما: البصرة والعريش من أهم المراكز
التجارية في العالم.
(١١) تسهيل السبيل وتقريب المسافة على حجاج الشرقيين من الصين
والجَاوَا إلى سوريا وفلسطين.
(١٢) إغناء البلاد الحجازية عن الحاجة إلى الأجانب في القوت، فإن أكثر
قوت عرب الحجاز جوز الهند الذي يرد إليهم من مواني البحر الأحمر الذي
قبضت إنكلترا على قطريه، فصارت تعتقد أن حياة الحجاز أصبحت في قبضتها
حكماً، وأنه لا بد أن يأتي يوم يمكنها فيه قطع موارد الرزق عنه لإخضاعه أو
إعدامه -والعياذ بالله تعالى -، وإذا تسنى لها الاستقلال بالسلطة على البحر الأحمر-
لا قدر الله تعالى - فإن ذلك لواقع ما له من دافع، إلا بامتداد السكك الحديدية من
الحجاز إلى بلاد الدولة الخصبة، ولا تحسبنَّ أن هذا القول منا ناشئ عن التخيل
والذهاب مع الأفكار في إساءة الظن بالإنكليز، بل هو من مقاصدهم الأولى في
احتلال مصر، كما يؤخذ من مطاوِي كلامهم في خطبهم وجرائدهم ومن تقفَّى سير
سياستهم، ولقد تمثل المقطم في أثناء الفتنة الأرمنية بأبيات منها:
ها مصر قد أودت وأودي أهلها ... إلا قليلاً والحجاز على شفا
(١٣) تمكن الدولة العلية في أي وقت من جمع قواها العسكرية في أي
رجا من أرجاء بلادها.
(١٤) الحطّ من شأن ترعة السويس التجاري والسياسي التي كانت مجلبة
الشقاء لمصر؛ لأن هذا الطريق أقرب الطريقين إلى الهند وسائر أنحاء الشرق
الأقصى، وإذا تقشع سحاب النفوذ الأجنبي عن مصر وعادت الترعة خالصة لها
من دون الأجانب فإنها ترضاها على انحطاط شأنها، بل لا تراها منحطة إذا كان ما
نقص من منافعها عاد بالزيارة على السلطنة التي هي جزء منها ونقول كما يقول
العوام في أمثالهم: (من الكيس إلى الجيب) .
(١٥) نكاية الإنكليز فإن هذا المشروع جائحة على تجارتها وسياستها؛ لأنه
أقرب الأبواب إلى الهند، فإذا أمكن إنفاذه تضطر بريطانيا العظمى إلى السعي في
مرضاة الدولة العلية ومسالمتها إن لم نقل إلى محالفتها ولو بتسوية المسألة المصرية،
وإلا تفعل فالهند على خطر من طروق نفوذ روسيا العسكري ونفوذ الدولة العلية
الروحي والعسكري إذا هي اتفقت مع روسيا وما ذلك يومئذ ببعيد.
(١٦) احتياج روسيا وفرنسا وألمانيا لمحالفتنا أو مصافاتنا ومرضاتنا
لمصالحهن التجارية في الشرق، ولمقاصد الأولى السياسية على الأخص، فإن
تم لنا هذا المشروع قبل أن نتحالف مع أحد فلنا الخيار في حلاف من نشاء وإلا
فالسابقون السابقون أولئك المقربون هذا ما عنّ لنا من فوائد هذا المشروع.
غوائل المشروع:
ليس هناك غوائل كثيرة وإنما هما غائلتان:
(الأولى) أن ما ينتظر من فوائد هذا المشروع الحسية والمعنوية للدولة العلية
وللعالم الإسلامي - الذي يسيء أوروبا كلها - وما ينجم عنه من المضرات التجارية
لشركة ترعة السويس، لا سيما إنكلترا وفرنسا، ولسائر شركات البواخر التجارية،
وما تخشاه بريطانيا من مضرته السياسية، كل ذلك يحمل هذه الدول على عرقلة
المشروع ومعارضته قبل إيجاده ما استطعن إلى ذلك سبيلاً، ثم على اتخاذه ذريعة
لتداخلهم في شؤونه إذا هو وجد بحجة حقوق رعاياهم الهنديين وغيرهم.
يقول الفاضل محرر (وكيل) : إن هذا عمل تجاري محض لا يقدر أحد من
الدول أن يعارض فيه؛ لأنه لا دخل له في السياسة البتة. ونحن نقول أيضًا: إن
الدولة إذا أرادت إنفاذ هذا المشروع لا تقدر الدول على معارضتها فيه رسميًّا،
ولكنها تُحدث لها فتنًا ومشاكل، وتتهمها بأنها تؤلف شركة من مسلمي الأرض لأجل
إحياء التعصب الديني الذي يتجرمون علينا به دائمًا مع بعدنا عنه، ويتنصلون منه
مع ملابستهم له، ولعل حضرة الفاضل لم تنسَ اتهام الجرائد الإنكليزية للدولة العلية
بثورة الهند الأخيرة ومنعها جرائد الآستانة العلية من دخول الهند، وهذا هو الذي
لاحظه السيد طاهر بك صاحب (معلومات) الغراء حيث قال: (أما ما أشار به
الكاتب الهندي، من حصول هذه الأمنية على يد لجنة تؤلف تحت مراقبة الحضرة
الشريفة السلطانية الشاملة النفوذ في العالم الإسلامي، فمع كونه مصيبًا في نفس
الأمر لا يخلو في الظاهر من محاذير عظيمة لا تخفى على اللبيب، إذ لا فائدة
لدولتنا العلية في أن تستدعي لنفسها عراقيل جديدة وصعوبات متنوعة من جارتها
الدول الأوربية اللاتي لا يغفلن عن تأويل كل أعمالها بما يوافق أوهامهن - ليته قال
أهواءهن -، ولا يفترعن اتهامها بما لم يخطر لها ببال في كل أقوالها وأفعالها،
فالأجدر بنا أن نقنع بالممكن القريب ونجتنب كل ما يَئُول بالتهلكة على العالم
الإسلامي والوطن العزيز العثماني، فنأتي الأمور من مقدماتها متنبّهين إلى عواقبها.
وما أصوب قول رفيقتنا الجديدة (المنار) من أن صاحب البلاد أدرى بمصالحها
ومنافع أهلها نصره الله تعالى ووفقه في كل الأمور) اهـ. هذا ما قالته جريدة
معلومات، وله وجه ظاهر، نعم إنها بالغت بالتهويل لا سيما قولها: (يئول
بالتهلكة ... إلخ) .
(الغائلة الثانية) : أن سهولة المواصلات وتمهيد طرق التجارة في داخل بلاد
السلطنة السنية من موجبات تداخل الإفرنج في أحشائها ونسلانهم إليها من كل حدب،
وكيف لا ينسلون إليها مع السهولة، وهم الآن يتغلغلون فيها مع الحزونة، وهؤلاء
الإفرنج إذا دخلوا قرية أفسدوها، وإذا عمدوا إلى ثروة قوم أبادوها، وإذا تبوَّأوا بلادًا
شرقية استأثروا بمنافعها واستخدموا أهلها؛ لأن أهل الشرق كسالى متقاعدون، وهم
نشطاء مجدون، وأهل الشرق فقراء جهلاء، وهم أغنياء علماء، وهذه بلاد الشرق
كلها تشهد بصحة ما نقول لا سيما التي تمهدت سبلها، وأنشئت الخطوط الحديدية
فيها كالبلاد المصرية، وكفاهم جهلاً وغباوةً أن الدولة تمنحهم امتيازات بأعمال
عظيمة نافعة، فيبيعونها للأجانب الطامعين في بلادهم، كما جرى في امتيازات
الخطوط الحديدية بين بيروت والشام، وبين الشام وبره جك، وبين بيروت
وجبيل أو طرابلس التي باعها أكابر تجارنا للفرنساويين، فإذا كان هذا حال أغنيائنا
وكبرائنا، فكيف لا يكون كل مشروع نافع سببًا لبلائنا وشقائنا، وغنيمة وسعادة
لأعدائنا، ولا يكتفي أولئك الدخلاء بالقبض على أزمة المنافع، والاستئثار بالثروة،
بل يخلقون الفتن، ويستثيرون الإحن، وإذا وقعت فتنة بشؤمهم أو مما لا تخلو عنه
طبيعة الوجود، يغرمون الدولة العلية الأموال الطائلة باسم التعويض عما فات
تجارهم من المكاسب، أو أنفقوا عند نزول المصائب، والشاهد على هذا قريب،
فلا تكاد تخلو جريدة من جرائد العالم اليوم عن ذكر مطالب الدولة الأوروبية من
الباب العالي التعويض عما خسره أتباعهم في أطواء فتنة الأرمن الأخيرة.
بقي علينا البحث في التوقي من هاتين الغائلتين وبماذا يكون. ورأينا أن الغائلة
الأولى لا يمكن تلافيها إلا بمحالفة روسيا أو ألمانيا أو إنكلترا، والأرجح لنا ما يظهر
أن سيدنا ومولانا أمير المؤمنين مرجح له، وهو حلاف ألمانيا أو الدول الثلاث لما
نبينه في النبذة التالية.
وأما الغائلة الثانية فعلاجها: السعي الحثيث في تعميم التربية والتعليم على
الوجه الذي شرحناه في العدد السادس عشر. ولا يقال: إن هذا يحتاج لزمن طويل؛
لأننا نقول: إن إتمام المشروع أيضًا يحتاج لزمن طويل إذا أخذنا في غضونه
بالتربية والتعليم اللذين يشعران قلوبنا معنى الأمة والوطن، ويزعجان نفوسنا للتمسك
بهما ووقف حياتنا على خدمتهما، لا يتم المشروع إلا وروح الوطنية والقومية قد
انتشر فينا انتشارًا نرجو معه أن تكون فوائد عملنا لنا، لا لأعدائنا فعلى هذا فلتحض
الجرائد في كل حين ولمثله فلتتوجه همم العاملين.
كيفية الطلب:
إن دعوة الجرائد إلى هذا العمل قبل عرضه على المرجع الأعلى، والوقوف
على موقعه من ذلك الرأي الأسمى، دعوة تشبه البناء على غير أساس، والاستنباط
بدون مراعاة شروط القياس، والذي نراه في هذا أن يشرح الموضوع شرحا تامًّا،
ويعرض على الحضرة السلطانية أيدها الله تعالى بواسطة أحد رجال الما بين
المقربين منها [١] ، فإذا آنس الوسيط منها ارتياحًا وقبولاً للمشروع يؤخذ في الدعوة
إليه، وتتألف اللجان للاكتتاب، وتتصدى الجرائد للحث والحض والتنشيط
والترغيب. والأولى أن يكون الطلب من عدة أقطار، وأن يكون الوسيط مقتنعًا
بفائدة المشروع راغبًا فيه، هكذا ينبغي أن تُؤْتَى البيوت من أبوابها، والله الموفق
وهو المستعان.