ألّف حضرة العالم الفاضل السيد محمد طيب العلوي المكي مدرس درجة التكميل في مدرسة دار العلوم بلكنو (الهند) التي أنشأتها ندوة العلماء كتابين سمى أحدهما: (كتاب الخمسة والمئة، في نصر الفئة) ، ويحتوي هذا الكتاب على خمسة ومئة من الأدلة عدا الممهدات والتنبيهات. والكتاب الآخر سماه (الهمسة في الأصول الخمسة) جعله كالمدخل إلى التوغل في علوم البلاغة، وقد تقرر تدريسه في مدرسة دار العلوم المذكورة، والكتابان لم يطبعا بعد، وقد بعث لإدارة المنار بأنموذجين من الكتابين المذكورين؛ لينُشرا في المنار وها هما: أنموذج من كتاب الخمسة والمئة الأول: أن الله أرسل الرسل ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه، وليجمعوهم على كلمة واحدة، ويعلموهم كيف الطريق إلى مرضاة الله، وما هي الأسماء التي يرضاها الله لنفسه فيُدْعا بها، فلو وُكِلُوا بعد إرسال الرسل إلى عقولهم لكان إرسال الرسل فضلاً؛ لأن دليل العقل قد كان، وكيف يرسل الرسل لرفع الخلاف ثم يَحْكم على ما يأتون به ما هو منشأ الخلاف، وإنما قلنا: إن العقل هو منشأ الخلاف لثلاثة أوجه: (الأول) أن الحاجة إنما وقعت عند الاختلاف، والاختلاف إنما وقع بين العقلاء لاختلاف عقولهم، فكانت عقولهم هي منشأ الخلاف. (الثاني) أن العقل مختلف في ذاته قوة وضعفًا وغفلة وتنبيهًا وباعتبار ما يقارنه من العوائد والمعارف، وإذا كانت العقول مختلفة اختلفت آراؤها ومتى اختلفت الآراء وقع التشاحّ والتحزُّب، فكيف يقول من أرسل لرفع هذا الخلاف: إن كلامي إن خالف عقولكم فلا تقبلوه، بل أَوِّلوه بحسب ما ترون، فإن هذا ليس رفعًا للخلاف بل هو أمر زائد؛ إذ لكل أحد أن يقول: إن هذا الكلام لا يقبله عقلي؛ لأنه يخالف مألوفي أو يخالف دليلي أو هذا الكلام يقوي رأي فلان وهو خصمي. (الثالث) أن العقول لو لم تكن مختلفة لم يُحْتَجْ إلى حَكَم؛ لأن الناس إنما يرجعون إلى الحَكَم عند الاختلاف، فإذا ثبت أن العقول هي منبع الخلاف امتنع أن تكون هي الحَكَم؛ فالحَكَم ما سواها، فإذن ثبت أن كلام الشارع هو الحكم، فلا يُؤوَّل إذا خالف بعض أدلة المعقول ولا سيما والرسل جاءت لتبين للناس ما لا تصل إليه عقولهم، وليَكْفُوهم مَؤُونة البحث بعقولهم وليكفُّوهم عن الخلاف فيما بينهم، فلو ردوهم إلى عقولهم لزادوا الطين بلة. قال: فهذا دليل واحد من الخمسة والمئة ليس بأعلاها ولا أدناها، ثم قال:
أنموذج من كتاب الهمسة في الفنون الخمسة (لو) يستعملها الناس في الإخبار عن سبب عدم الخبر الذي هو الجزاء، تقول لو جئتني لأكرمتك؛ يعني أن سبب عدم إكرامي هو عدم مجيئك، وقد تخبَّط الناس هاهنا مدة إلى أن حقق ذلك العلامة التفتازاني في شرحيه المطوَّل والمختصر، إلا أنه جوز وقوع الشرطية في الكلام موافقًا لاصطلاح المناطقة، فإن معنى الشرطية عندهم هو الإخبار بأن بين المقدم والتالي تصاحُب، فمعنى إن جئتني أكرمتك ليس الوعد بالإكرام بل هذه القضية كاذبة أو محتملة عندهم أي معناها لأن الاحتمال من معناها (أنْ جاء زيد) مصاحب لأكرم زيد، ومعنى مصاحبتهما أنهما مجتمعان على الصدق في الواقع، والظاهر أنهما لا يجتمعان وإن احتملا الاجتماع فمعناها عندهم محتمل، وعند أهل اللسان متعيَّن، حتى إنه يقول: إن فلانًا وعدني، ثم إن المصنف حقق معنى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: ٢٢) ، وبين أنه لا يصح مجيئه على اصطلاح المناطقة، فإن العرب لاتعرف ذلك بل ولا علماؤها، فإن أبا هلال حين ذكر المذهب الكلامي نص على أنه لا نظير له في كتاب الله، ثم أيد ما قدره من أن المراد ليس نفي الآلهة المستقلة الذي يجزم به الناس فطرة، ودليلكم هذا بأقداركم لا يثبت به لعلم، فكيف يستدل على المعلوم بما لا يثبت به العلم بل المراد أن الله تعالى لو كان معه من يتداخل في أمره لفسد نظم السماوات والأرض؛ وذلك لأن الشفاعة لا تكون إلا للمدافعة عمن أوجبت عليه القاعدة أمرًا لا يحبه، وهذه المداخلات مخلة بالانتظام قطعًا، ولهذا عقبها بقول {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (الأنبياء: ٢٣) ثم بقوله {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء: ٢٧) .