تمهيد ومقدمة كتبنا في سنة ١٣٣٤ (١٩١٦) مقالاً عنوانه (المسألة العربية - مقالة للتاريخ) لم يتيسر لنا نشره إلا بعد زهاء سنة كاملة من وقت كتابته، فنشر في الجزء الأول من المجلد العشرين بعد أن أشرنا إليه في تقريظ جريدة القبلة من جزء المنار الذي صدر في آخر المحرم سنة ١٣٣٥ (من المجلد التاسع عشر) ولكن بعد أن حذفت منه المراقبة الإنكليزية ما حذفت، وأكرهتنا على تبديل ما كرهت، ولا أعني بالمراقبة الإنكليزية مراقبة قلم المطبوعات في وزارة الداخلية المصرية التي كان يرأسها إنكليزي أمر بالتشديد في مراقبة المنار بما لا يشدد في مراقبة سائر الصحف؛ لأنه في اعتقادهم أشد تأثيرًا في أنفس المسلمين بما له من النفوذ الديني [١] وإنما أعني مراقبة السلطة الإنكليزية التي تحول إليها مراقبة المطبوعات في الداخلية ما يكتب في مسائل معينة من أهمها المسألة العربية والحجاز. على أننا راعينا في تلك المقالة مقتضى الحال وأحكام الزمان، فسكتنا عن بعض الحقائق وبيَّنا بعضها بالتصريح، واضطررنا في البعض الآخر إلى الإيماء والتلويح، وأننا نذكر في هذا المقال الذي نكتبه بعد إلغاء المراقبة على الصحف في مصر بعض الحقائق ونرجئ بعضها إلى فرصة أخرى، قاصدين مع بيان حقائق التاريخ الموعظةَ والذكرى، فنقول: إننا كنا نتوقع وقوع الحرب الأوربية الكبرى قبل وقوعها بزمن بعيد، - ولا سيما بعد حرب البلقان - خلافًا لجماهير المفكرين الذين كانوا يستبعدونه أو يحيلونه ظنًّا منهم أن الدول العظمى وصلت إلى درجة الكمال في العقل والفضيلة ومراعاة المصالح الإنسانية العامة، بحيث يحلون جميع المشكلات بالأساليب السياسية دون الحرب، ولم يصدق هؤلاء بإمكان وقوع هذه الحرب إلا بعد اشتعال نارها بالفعل. وكنا نعتقد أن الدول الأوربية الاستعمارية تريد الاستعجال بحل المسألة الشرقية اغتنامًا لفرصة تهور الاتحاديين وتنفيرهم للعناصر العثمانية بغلوهم في العصبية التركية، وقد شرحنا هذا الاعتقاد في المقالات العشر التي كتبناها بعنوان (المسألة الشرقية) بمناسبة استيلاء إيطالية على سواحل برقة وطرابلس الغرب ونشرناها في المؤيد ثم في المنار، وكان نشرها في المؤيد مثيرًا لبعض وكلاء الدول الأوربية وحاملاً لهم على مراجعة العميد البريطاني بمصر، وإيعاز العميد إلى رئيس الوزارة المصرية بإيذان صاحب المؤيد بالأمر، ووجوب مطالبته إياي بتخفيف الحملة عن الدول بجملتها، وحصر الكلام في إيطالية ومسألة طرابلس. وقد حملنا في المنار على الحكومة الاتحادية بما كانت وضعته من أساس الاتفاق مع الدولة البريطانية على جعل العراق منطقة نفوذ اقتصادي لها، ومشروع الاتفاق مع فرنسة على مثل ذلك في سورية، كما حملنا عليها في اتفاقها السري مع إيطالية واعتقدنا أن الاتحاديين يريدون تنفيذ وعيدهم في العرب بعد أن أنذرنا غير واحد من زعمائهم بأنهم يبيعوننا ويُرَقُّون شعبهم بثمننا، ولأجل هذا اندفع العرب العثمانيون إلى طلب الاستقلال الإداري من الدولة لولاياتهم على طريقة اللامركزية. ولما أعلنت ألمانية الحرب على روسية جزمنا بأن قد وقعت الحرب العامة المنتظرة، وأن دولتنا ستصلى نارها مع ألمانية لما كنا نعلم من الروابط بين زعماء الاتحاديين وبينها، وتوقعنا أن تكون الحرب سببًا لحمل حكومة الاتحاديين على تنفيذ ما كانوا يمنون به العرب من الإصلاح وإعطاء الحقوق عقب المؤتمر العربي الأول بباريس، لأن الشدائد هي التي تذهب الأحقاد، وتبعث على الإخلاص في الاتحاد، وخفنا أن يكون ما أحدثوه من العصبية الجنسية سببًا للتنازع الموجب للفشل، ولأجل هذا كتبنا تلك المقالة التي نشرناها في الأهرام ثم في المنار بوصية الشعب العربي بأن يسكت في أثناء الحرب عن مطالبة الدولة بالإصلاح، ويكون مع الترك يدًا واحدة وكلمة واحدة فيما تقتضيه حالة الحرب من حصر كل القوى في الاستعداد للظفر، وكان لها ما كان من القبول والتأثير الحسن. *** وعد الإنكليز باستقلال العرب ومساعيهم معنا في هذه الأثناء بلغنا بعض رجال الدولة البريطانية هنا بأن حكومتهم عزمت على العطف على العرب ومساعدتهم بنفوذها الأدبي عند الدولة العثمانية على ما يطلبون من الإصلاح إذا بقيت الدولة على الحياد الذي تتظاهر به، وأما إذا انضمت إلى ألمانية في الحرب فإنها تساعدهم على الاستقلال وتكوين دولة عربية. ولما اصطلت الدولة بنار الحرب وقع الرعب في قلوبنا، وكان أخوف ما نخاف عليه بلادنا العربية؛ لأنها خالية من الحصون والمعاقل الحربية، وبعيدة عن مركز القوة والسلاح في الدولة، ولم نلبث أن استدعانا بعض رجال الدولة البريطانية هنا، وبلغونا ثانية أن دولتهم قررت باتفاق الأحزاب مساعدة العرب على الاستقلال في جميع بلادهم، وأنها لا تبغي أخذ شيء منها، وإذا اضطرت إلى محاربة الترك فيها فإنها تترك لهم كل ما تَدخُله منها بعد إخراج الترك منه، وأنهم يحبون أن يعرف العرب هذا ويكونوا مطمئنين آمنين على أنفسهم من جانب البريطانيين، فلا يتخذونهم أعداء، وقد جاءنا نبأ من مصدر عالٍ في السودان بمثل ما بلغنا بمصر عن بلاغ من لندن، ثم أطلعونا على منشور يريدون نشره في البلاد العربية بهذا المعنى، فلم نر عبارته مفيدة ما وعدونا به، بل هي إيهام محض، فاقترحنا عليهم أن يصرحوا فيه بالمراد تصريحًا لا يحتمل التأويل، ككونهم يتعهدون باستقلال هذه البلاد إذا ظفروا في الحرب، وبحمل حلفائهم على ذلك، وبعدم أخذ شيء من البلاد العربية، لا باسم الفتح والامتلاك، ولا الحماية ولا الاحتلال، ولا بأي اسم من أمثال هذه الأسماء، وبأنهم يخرجون من البلاد التي دخلوها كالفاو والبصرة، والتي سيدخلونها من بعد بلا شرط ولا قيد. وبعد التشاور بينهم ومراجعة حكومتهم العليا بلندن في ذلك حذفوا هذه القيود، وكانوا يرجون منا مساعدةً بناء على تلك الوعود، فكتبنا لهم مذكرة بعد مذكرة في الاحتجاج على ما ظهر لنا منهم، وبيان خوف العرب على بلادهم من إنكلترة دون سواها واعتقادهم أنها هي الخصم لهم، وتحذيرهم من الغرور بما تكتب جرائدهم وبعض الجرائد المداهنة لهم من وصفهم بأنهم أصدقاء العرب، وأن العرب أصدقاؤهم، وبيان مكان الدولة العثمانية من الإسلام والمسلمين، وما هم مستهدفون له من عداوة العالم الإسلامي لهم، وفي مقدمته مسلمو الهند وجعلهم إلبًا واحدًا عليهم إذا هم استولوا على بلاد العراق وسورية، ومنها البلاد المقدسة وما يترتب على ذلك من صيرورة الحجاز تحت رحمة تصرفهم مع محاربتهم للدولة التي يعترف لها السواد الأعظم من المسلمين بأنها دولة الخلافة، إذ يعتقدون حينئذ حقية ما تتهم به دولتهم من عزمها على إزالة الحكم الإسلامي من الأرض، وأن السلطة الإسلامية في نظر المسلمين أهم المهمات، وثانية عقيدة التوحيد؛ لأنها سياجها وحفاظها، وأن هذا هو السبب في تعلق مسلمي الأرض بالدولة العثمانية وحبها. وبَيَّنَّا لهم في أول تلك المذكرات أن الاستيلاء على البلاد العربية وحفظ السلطة الأجنبية فيها ليس بالأمر السهل، ولا بالمركب المذلل، بل يحتاج إلى قوة برية كبيرة جدًّا لمنع الثورات إلخ. كان غرضنا من هذه المذكرات إقناع الدولة البريطانية بأنه لا يمكن لها أن تقنع العالم الإسلامي بأن قتالها للدولة العثمانية ليس عدوانًا على الإسلام وسلطانه لأجل تقليص ظله من الأرض، بل لتحيزها إلى أعدائهم الألمان عليهم وعلى أحلافهم - إلا إذا أعطت العهد والميثاق بالاعتراف باستقلال البلاد العربية التي هي مهد الإسلام، وفيها معاهده المقدسة: الحرمان الشريفان والمسجد الأقصى في القدس، ومعاهد العلم ومشاهد الأئمة للشيعة في النجف وكربلاء وهي مظهر حضارة الإسلام العربية، وموطن الخلافتين الأموية والعباسية، مع بيان ما في ذلك من الفوائد السياسية والاقتصادية والأدبية التي شرحناها لهم بالصدق الخالي من شوائب الإيهام، وستنشر هذه المذكرات في يوم من الأيام، مع مكتوبات أخرى في المسألة عظيمة الشأن. خاب سعينا إلى ما سعينا إليه من عهد أو وعد رسمي بذلك، ولم نغتر بالإيهامات التي كانت تصدر أحيانًا من برقيات روتر وأقوال بعض الجرائد الإنكليزية بوعد بريطانية العظمى بالعطف على العرب، وما ينتظر من سعادة البلاد العربية إذا تحررت من سلطة الترك، وإعادتها مجد هارون الرشيد والمأمون، وعلمنا مما دار بيننا وبين رجالهم الذين بمصر، ومن مذاكراتنا مع السر مارك سايكس الذي أرسلته السلطة العليا من لندن إلى مصر والعراق لدرس المسألة العربية سنة ١٩١٥ - أن القوم ثابتون على طمعهم في بلادنا، وهو ما كنا نعلمه قبل الحرب بسنين كثيرة، ونوهنا به في المنار مرارًا، وكان لهم طمع في مساعدتنا إياهم على إقناع العرب بما أشرنا إليه آنفًا، ولو بكتابة شيء ما في جريدة الكوكب التي أنشئت لأجل هذا الخداع، فخاب أملهم فينا كما خاب أملنا فيهم. *** ما كان بين الإنكليز وأمراء العرب ولى الإنكليز وجوههم شطر أمراء العرب وزعمائهم في الجزيرة والعراق وسورية للاستعانة بهم على مناوأة الدولة العثمانية بالخروج عليها أو خذلانها، فأعرض عنهم إمام اليمن، ووالى الدولة في الحرب كما عاهدها في السلم، وواتاهم أمير نجد وسيد عسير على الوقوف على الحياد، ووالاهم شريف مكة بإعلان استقلال الحجاز ومقاومة طغمة الاتحاد والترقي الطاغية الباغية أولاً، ثم بمناوأة الدولة ومحاربتها ومساعدة الجيش الإنكليزي على فتح بيت المقدس والشام، وقد انخدع أهل سورية والعراق بهذه الموالاة والمحالفة، وصدقوا التغرير الذي كان يوجه إليهم في المنشورات والجرائد، ولا سيما جريدة الكوكب، ووافق ذلك شدة طغيان الاتحاديين وتنكيلهم بعرب سورية والعراق تقتيلاً وتصليبًا وتغريبًا وتعذيبًا، فوجد المضطهدون منهم مهربًا وملجأ من العذاب، ففروا إليه بآمال كبيرة إذ ظنوا أن حوادث الزمان قد مهدت السبيل بهذه الحرب واشتغال الدول الأوربية الطامعة بعضها ببعض لاستقلال البلاد العربية وإعادة حضارة العرب الزاهية العالية التي يفتخر بها التاريخ، ولعمري إن الفرصة قد كانت سانحة لو وجد في البلاد العربية زعماء أكفاء يغتنمونها من غير أن يجنوا على الجامعة الإسلامية بإسقاط الدولة العثمانية. *** ثورة الحجاز والاتفاق مع بريطانية كانت حركة الشريف الأولى في الحجاز من النتائج التي تقتضيها المقدمات التي سبقتها بحسب سنة الاجتماع، وكان يمكن أن يكون أقل ما يقال فيها ما قلناه عقب حدوثها، إما أن تنفع وإما ألا تضر، وأكبر ما يرجى منها أن تتخذ وسيلة لجمع كلمة العرب في الجزيرة وتنظيم القوة لحفظ البلاد العربية من السقوط تحت سلطة دولة أجنبية إذا غُلبت الدولة بالتبع لانكسار حليفتيها الكبريين ألمانية والنمسة، وكان هذا ما يجب القيام به على من استطاع إليه سبيلاً من كل عربي وكل مسلم أيضًا، ولو كان من الترك الذين يهمهم شأن الإسلام. ولما ذهبت إلى الحجاز عقب ثورته لأداء فريضة الحج صرحت لأميره (وملكه اليوم) برأيي وما أعجبني من جعل خروجه وعدائه خاصًّا بالاتحاديين الذي فرقوا الكلمة ونكلوا بالعرب السوريين وغيرهم في الوقت الذي هم أحوج فيه إلى التأليف والاتحاد، وما يجب من اتقاء عداوة الترك وإضعاف الدولة، وحصر السعي في جمع كلمة العرب وإيجاد قوة جديدة لهم من السلاح وغيره استعدادًا لحفظ حياتهم، والنهوض بأمر استقلالهم إذا انكسرت الدولة، وحفظ حقوقهم معها إذا هي انتصرت كما يتمنى كل مسلم، وقد ظهر لي منه الموافقة على هذا الرأي، وخطبتي التي ألقيتها أمامه في احتفال العيد العام بمنى، وتصديقه إياي في كل مقاصدها برهان رسمي على ذلك مطبوع في جريدة القبلة ومجلة المنار [٢] . على أنني لما عرضت عليه الشروع في مخاطبة أئمة الجزيرة حوله إلى الوحدة وجمع الكلمة، قال: إنه يرى تأخير ذلك إلى أن يستولي على المدينة المنورة لئلا يظن جيرانه أنه يخطب ودهم خوفًا منهم لا رجاءً وسعيًا للمصلحة العامة، ولم يرضني هذا الجواب، فقلت له: يمكن أن يكون السعي من - قبل بعض وجهاء العرب لا باسمكم، بشرط موافقتكم إذا هم وافقوا، فأبى إلا إرجاء ذلك. وبعد أن عدت إلى مصر أخبرني وأخبر غيري ببعض من كان في خدمته أنه قال: من هؤلاء الكلاب حتى أتفق معهم؟ اليوم يوجد في الدين الأمير فلان والإمام فلان، وغدًا لا يوجد لا هذا ولا ذاك - وذكر أسماءهم - ولكن هذا الناقل ممن بلونا عليهم الكذب، وقد كذب لنا وعلينا وله وعليه. وقد يصدق الكذوب، وكان ما قاله هو الواقع، بل كان من الواقع أن تقاتل مع ابن سعود بدلاً من أن يتحدا. ثم إن الشريف بعد أن بايعه أهل الحجاز باسم ملك العرب واعترف له حلفاؤه من الإنكليز والفرنسيس بملك الحجاز فقط، جاهر بعداوة الدولة العثمانية والترك، وبذل الجهد في قتالهم، فخاب أملنا في وقوف ثورته عند الحد الأدنى مما رجوناه منها بعد أن رفض السعي إلى الحد الأعلى أو السماح به، وقد أشرنا إلى ذلك بقولنا في بيان الحالة السياسية في الحجاز من الرحلة الحجازية (ص ٢٨١ من المجلد العشرين) عند الكلام على ما كان يراد من مبايعة الشريف بالخلافة وسعينا إلى مقاومة ذلك: (بِتُّ ليلتي أفكر في هذه المسألة.. . وكان رأيي في مسألة الخلافة هو ما قيل لي في هذه الليلة عن رأي الأمير دون من حوله، وقد أكبرته لذلك، وكان أعجبني من منشوريه الأولين جعل عداوته لفئة الاتحاديين المتغلبة لا للشعب التركي كله، ولا للدولة العثمانية أيضًا، وكذلك كانت الثورة في أول عهدها) . فمفهوم هذه الجملة الأخيرة أن الثورة الحجازية تحولت عند كتابة هذه النبذة من الرحلة عما كانت عليه من ذلك في أول عهدها، ومنه الوقت الذي كنت فيه بمكة، وهذا كل ما كان يمكن التلميح إليه تحت عين المراقبة (وذلك في ربيع الآخر سنة ١٣٣٦ فبراير سنة ١٩١٨) ولمحت قبله في (ص ٢٨٠) إلى الحديث الذي دار بيني وبين الشريف الأمير في شكل حكومة الحجاز الجديدة بقولي: إنني ذكرت له رأيي مفصلاً تفصيلاً، وأقول الآن: إن ذلك تفصيل كان في بيان محظورات انتحاله لمنصب الخلافة، وما يترتب عليه من المفاسد مع كونه هو مبايعًا للسلطان محمد رشاد، وحديث: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) (رواه مسلم في صحيحه) وكون بيعة أهل الحجاز له لا تصح؛ لأنهم ليسوا أهل الحل والعقد في الأمة الإسلامية، وهم خاضعون لسلطته وحكمه غير أحرار في اختيارهم، وكراهة العالم الإسلامي كله لثورة الحجاز وغير هذا مما لم يكن التصريح به ممكنًا في عهد المراقبة، وقد كان الشريف يؤمل أن أكون من أنصار الثورة وأعمال الحجاز، وكان هذا ما يجب عليَّ لو جرت الأعمال على ما أعتقد صلاحه كما صرَّحت له عند وداعه، ولما لم أفعل أظهرت حكومته لي العداء، وأمرت بمنع المنار من دخول الحجاز بحجة أنني طعنت في رجالها بما يرفع الثقة منها، ونشر ذلك في جريدة القبلة ولله الحمد، فلما علمت به كان أول ما خطر على قلبي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (الحج: ٣٨) فإنه يدفع عني اتهام كثير من الناس إياي بمشايعة هذه الثورة مطلقًا، وأردت نشر بلاغ المنع في المنار، فمنعتني المراقبة الإنكليزية على أنه كان نشر في جريدة (وادي النيل) في الإسكندرية وسعى بعض رجال المكتب العربي في الصلح بحملي على تأويل لما كتبت اقترحوه، فلم أقبل، ولكنني أشرت إلى سبب ما كتبته وغرضي الصحيح منه بما لا يرضي الشريف، على أن غضبه كان لسبب آخر. والسبب الذي جرَّأ أمير مكة بالأمس وملك الحجاز اليوم على ما فعل وجعله لا يبالي بالترك ولا بأمراء جزيرة العرب - هو الاتفاق الذي عقده مع بريطانية العظمى قبل الثورة، فإنه كان يظن أن سيحكم به جزيرة العرب وسورية والعراق بقوة بريطانية العظمى التي لا تعلوها قوة في العالم، وقد أشرنا إلى ذلك في بيان صفاته من الرحلة الحجازية بقولنا (ص٣٥٧ م ٣٠) (ومنها أن ثقته بالدولة البريطانية وتقديره لقوتها وعظمتها لا حد لهما ولا سلطان لشيء عليهما) فلهذا لم يكن لأحد إقناعه بغير ما اعتقده وجرى عليه لا ببرهان العقل ولا بحجج النقل، وله في جريدة القبلة أقوال في ذلك غريبة نقلنا بعضها، وفيما لم ننقله ما هو أغرب منه حتى ما نشر بعد خذلانها له ولولده فيصل غير مرة، وهذا الإيمان والتسليم لها في حالتي الرضا والغضب هو الذي عطفها عليه وعلى أولاده أخيرًا كما يأتي بيانه. على أنه كان يكتم نص هذا الاتفاق حتى عن أولاده حافظًا إياه مع المكتوبات الرسمية الأخرى في الكيس الأزرق الذي لا تناله غير يده. وقد كان بعض البريطانيين أطلعني على نص هذا الاتفاق بالعربية قبل الثورة وسألني عن رأيي فيه، فقلت واجمًا متألمًا: هذا اتفاق لا يرضى به إلا عدوّ للعرب أو حمار لا يفهم معناه. فاحمر وجهه ووقعت بيني وبينه مناقشة حادة فيه إلا أنني تألمت في نفسي لجريان كلمة (حمار) على لساني. وما رأيته قريب مما بلغه الشريف فيصل في دمشق لجريدة المفيد، ونشر فيها ونشرناه في الجزء الثالث من هذا المجلد إلا أن فيه تصريحًا بأن غربي سورية ليس عربيًّا، وأنه لا يدخل في الاتفاق لما تدعيه فرنسة من الحقوق فيه، وأن ما عداه من البلاد العربية التي لا ينازع إنكلترة أحد في نفوذها فيه هو الذي تعترف باستقلال ما يستولي عليه الشريف منه بشروط، منها: استثناء ولاية البصرة الخاصة بالإنكليز، وكون جميع ما تحتاج إليه البلاد التي تستقل باستيلاء الشريف عليها من الموظفين وغير الموظفين مما يحتاج إليه لإدارة البلاد، فإنما يطلبه من إنكلترة، واعترافه بجميع ما بينها وبين أمراء العرب وزعمائهم من الاتفاقات والمكاتبات (وإن لم يطلع على شيء منها) فالشروط خمسة هذا مضمونها، ولا أدري هل عُدِّل شيء منها أم لا، وقد قيل: إن لديه معاهدات ومكاتبات أخرى، وإنما العبرة بالعمل، فهو الذي لا يماري أحد فيه، وسيأتي ذكر ما انتهى إليه شوطه وشوط أولاده فيه، على أنه ظهرت قوادمه وخوافيه. *** ما ائتمر به السوريون بمصر اجتمع فريق من أشهر مفكري السوريين المقيمين بمصر في أوائل عهد الحرب لأجل التشاور في مستقبل سورية، ودعوا كاتب هذا المقال لحضور اجتماعهم، فكان رأي جمهورهم أن الحلفاء سيكونون هم المنتصرين، وسيستولون على بلادنا، فينبغي أن نخاطبهم فيما نحب أن تكون عليه حكومة البلاد في ظلهم احتياطًا؛ إذ يرجى أن يتساهلوا الآن فيما لا يتساهلون بمثله بعد النصر، فعارضت في ذلك جازمًا بأنه لا يجوز لنا أن نخاطب أحدًا في شأن بلادنا، ونفرض أنه سيكون مستوليًا علينا، وقد تكرر هذا الاجتماع في عدة مجالس من دورهم تمحصت فيها الآراء، وكان الرأي الذي انفرد كاتب هذا المقال بعرضه عليهم والاحتجاج على صحته والنضال عنه هو وجوب السعي إلى الاستقلال التام وتكوين دولة عربية إذا انكسر الترك وحلفاؤهم، وأما آراء سائر السوريين من النصارى، فكانت تنحصر في رأيين، ثم عدل بعضهم رأيي فصارت ثلاثة (الأول) انضمام سورية إلى بعض الدول الأوربية وتجنسها بجنسيتها وتجعلها جزءًا منها (الثاني) أن تكون مستقلةً في إدارتها تحت رعاية دولة أوربية (الثالث) وهو رأيي المعدل أن تكون مستقلةً إذا أمكن تحت رعاية الدول العظمى وبشرط أن يكون لها مستشارون ومراقبون من بعض تلك الدول. وأنا لم أوافق على هذا التعديل؛ لأن الاستقلال فيه صوري لا حقيقي، ولم أقبل في وقت من الأوقات أن يكون لأجنبي في بلادنا أدنى سلطان، ثم وجدنا من غير هذه اللجنة أفرادًا واتونا على طلب الاستقلال التام المطلق كما سنذكر بعد. وقد وضع هؤلاء المؤتمرون مواد أساسية لشكل حكومة البلاد على تقدير استقلالها التام، ومواد أخرى للاستقلال الإداري تحت الحماية وتقدير وقوعها، وكتبوا للمشروعين معًا مقدمة ووزعت نسخ ما كتب على المؤتمرين، وبعد مطالعتها دارت المناقشة فيها وعُدّل بعض موادها. ولما زدت طلب الاستقلال التام وتكوين دولة عربية في نسختي كتبت في حاشيتها ما يأتي للاحتجاج به مما ذكروا ما يخدع به طلاب الانضمام إلى الدول الأجنبية وطلاب الاستقلال الإداري في ظل دولة أجنبية، وهذا نصه: (ويحتج أصحاب الرأي بأن من وطن نفسه على أن يكون تبعًا لغيره لا يرجى له الارتقاء والوصول إلى الكمال الاجتماعي: كمال الاستقلال والحرية الذي تبذل الأمم دماءها وأموالها في سبيله، وإن هذا العصرعصر تكوين الجنسيات، فإذا كانت الأمم العزيزة البالغة أعلى درجات الحضارة لا ترضى لجنس من الأجناس أن يساوي جنسها باختيارها سواء كان من عناصر دولتها أو مستقلاًّ دونها، وسواء كان مثلها أو فوقها أو دونها في العلم والمدنية - فهل يعقل أن ترضى أمة من الأمم أن ترفع شعبًا ضعيفًا تستولي عليه بالقوة حتى تساويه بأبناء جنسها؟ هذا محال لا مطمع فيه، فالواجب على السوريين وهم أرقى الأمة العربية علمًا وحضارة، ألا يبخسوا أنفسهم وأمتهم ما أعطاهم الله وأعطاها من الاستعداد، ولا يرضوا بأن يكونوا دون أهل الجبل الأسود والبلغار واليونان، بل يجب أن يقدروا ذلك قدره ويوجهوا أنفسهم إلى أعلى ما تطلبه الأمم من الكمال، ويبذلون كل ما في وسعهم لنيل الاستقلال، فإن نالوا بالسعي المنى فقد تم القصد، وإن صدهم المقدار كان لهم عذر) اهـ وهذه النسخة محفوظة كغيرها عندي، وثَم نسخة عليها تعليق مهم بقلمي عند باشا من باشوات أولئك المؤتمرين. وقد كان ذلك كل ما أثمره اجتماعهم في أواخر سنة ١٩١٤ وأوائل سنة ١٩١٥ وقد سعينا إلى الاتفاق مع غير هؤلاء من كبار السوريين على طلب الاستقلال لبلادنا وتكوين أمة عربية، فلم نقنع إلا نفرًا قليلاً من النصارى في مقدمتهم إسكندر بك عمون الخالد الذكر باستقلال فكره وكرم أخلاقه، وكان هذا قبل تأليف الحزب السوري الذي يمثل الوطنية الحق بعد جهاد في تأليفه دام عدة أشهر حتى انتصر طلاب الاستقلال من مؤسسيه على طلاب الاحتلال. *** اتفاق سنة ١٩١٦ على قسمة البلاد العربية وضع هذا الاتفاق كل من السير مارك سايكس المستشرق أحد أعضاء مجلس النواب البريطاني وموسيو جورج بيكو الذي كان قنصل فرنسة، الجنرال في بيروت إلى عهد إعلان الحلفاء الحرب على الدولة العثمانية، وبعد أن أقنعا دولتيهما به ألَّفا وفدًا وحضرا إلى مصر، ثم سافرا إلى جدة لأجل التمهيد لقبوله عند السوريين وملك الحجاز. وقد ألفا في أوائل رجب سنة ١٣٣٥ وأواخر إبريل سنة ١٩١٧ جمعية من السوريين فيها ثلاثة أو أربعة من المسلمين وواحد من وجهاء الدروز، وباقي أعضائها من المسيحيين لأجل الاتفاق بين أبناء ملل البلاد على ما سيكون عليه في ظل هذا الاتفاق قبل إعلانه. (وفي هذه المرة لم يطلب السر مارك سايكس مقابلتي؛ لأنه يئس من استخدامي لمقاصده مما دار بيني وبينه إلمامه الأول بمصر سنة ١٩١٥) وشاع في تلك الأثناء أنه قد أُلفت جمعية سورية بمصر لأجل السعي لاحتلال فرنسا سواحل سورية، وجمعية أخرى لإنشاء حكومة مسيحية في سورية تحت إشراف فرنسة ورعايتها أو حمايتها. ولدي مذكرات وبعض ما سمعته في تلك الأيام من بعض أعضاء جمعية السير مارك سايكس وغيرها، من أهمها قول رجل من أعلم المشتغلين بالسياسة منهم في (٢٨ يونيو) أنه فهم السير مارك سايكس نفسه أنهم يريدون إعطاء سواحل سورية كلها لفرنسة؛ لأنها البلاد التي كان الصليبيون قد احتلوها في أثناء الحروب الصليبية المشهورة. وقوله (في ١٠ أغسطس) بعد أن عاد السير مارك سايكس وموسيو جورج بيكو من زيارة ملك الحجاز بجدة: إن الشريف وافقهم على أن تكون سواحل سورية لفرنسة. وقد ذكر سايكس لمحدثي من أقنع الشريف من المستخدمين عنده بذلك، ولقنه ما اقترح هو عليه أن يقوله لموسيو جورج بيكو فأقنعه به، فلم يخالف بحرف منه (ولكن هذا الرجل قال بعد: إنه أوهمهم أنه هو الذي أقنعه، والحق أن الملك لم يعارض فيحتاج إلى إقناع. ثم بعد بضعة أيام أخبرني بذلك رجلان آخران ممن كانوا يلقون سايكس أو من أعضاء اللجنة التي ألفها، ثم بعد سماعنا هذا بأسبوع أو أسبوعين جاء القاهرة أحد القواد الذين كانوا مع الأمير فيصل فألفيناه معتقدًا أن الملك وافق الإنكليز والفرنسيس على ما قررا في شأن سورية والعراق، ثم سمعت هذا الخبر بعينه بعد شهر من مسلم آخر كان مشتغلاً بهذا العمل مع اللجان. ثم أخبرنا بعض من كانوا مع الأمير فيصل أنهم رأوا كتابًا من والده له يذكر فيه ذلك، ويعلله بأن فرنسة تحفظ له سواحل سورية من التعدي عليها إلى أن يصير للدولة العربية أسطول يحميها به على أنها تدفع مبلغًا معينًا للدولة العربية في كل عام ما دامت محتلة في تلك السواحل. وجملة القول أنه قد تألف بمصر في سنة ١٩١٧ جمعيات ولجان بإيعاز الإنكليز والفرنسيس بعضها لوضع أساس الاتفاق بين الطوائف على ما سيكون عليه نظام البلاد بعد تنفيذ ما علم بالإجمال أن الدولتين الحليفتين اتفقتا عليه، ومنه جعل فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود، وبعضها لوضع أساس الاتفاق بين العرب واليهود، ومن هذه الجماعات جمعية فندق ناسيونال، ولم يكن فيها إلا مسلم واحد، وقد كنت كلما سمعت من أحد خبرًا من الأخبار في هذا الشأن أجادله بالتي هي أحسن إلا أن يكون مسلمًا فإنني أنذره سوء عاقبة السعي مع الساعين في هذه السبيل، وما يعقبه من لعنة الملايين له إلى يوم الدين. وفي أول سنة ١٩١٨ ظهر الاتفاق بين الدولتين بمظهره الرسمي، وقد وصل إلى مصر في منتصف شهر فبراير منها بريد أوربة شارحًا ذلك، فأمرت المراقبة بمنع الخوض فيه في الجرائد إلى أن تمهد له السياسة ما ترجو أن يكون مقبولاً عند جماهير السوريين المختلفي الأحزاب والآراء. وكانت وصلت إليّ في هذا البريد جريدة المستقبل العربية التي تصدرها في باريس جمعية موسيو شكري غانم السورية بنفقة الحكومة الفرنسية مفصلة لإعلان هذا الاتفاق في لندرة، ثم في باريس كما ذكرناه بعد ذلك في الجزء الأول من مجلد المنار الحادي والعشرين (فليراجعه من شاء عند مطالعة هذه المقالة في ص ٣٤) . وعلى إثر ذلك جاءني من أحد وجهاء السوريين المشتغلين بالسياسة مع الإنكليز كتاب يدعوني فيه إلى شرب الشاي في داره (مع أخلص المحبين) في مساء ٢ فبراير سنة ١٩١٨ فأجبت الدعوة وأنا متوقع أن تكون لتأييد الاتفاق الإنكليزي الفرنسي على قسمة البلاد العربية بين الدولتين، وعازم على مقاومة ذلك موطنًا نفسي على النفي من مصر بهذه المقاومة مستعدًّا لذلك، وقد رأيت في المكان ما قوى حدسي: رأيت أشهر رجال الحزب الإنكليزي والحزب الفرنسي والحزب الحجازي وحزب الاتحاد اللبناني وأفرادًا من المستقلين طلاب الاستقلال، وبعض المراقبين من الضباط وغيرهم، وفي مقدمتهم طالب بك النقيب والأستاذ الكاظمي ونوري بك السعيد. وبعد شرب الشاي وما يتبعه من الحلوى والفاكهة اقتُرح على شاعر العرب الكاظمي أن يُسمع الحاضرين ما تجود به قريحته من الشعر الاجتماعي، فاعتذر بانحراف صحته، ثم ارتجل أبياتًا صفق لها القوم تصفيق الإعجاب مرارًا لا نذكر منها الآن إلا قوله: قد مُنعنا الحق الصراح وأعطي ... غيرنا حقنا بلا استحقاق ثم اقتُرح على الدكتور فارس نمر أحد أصحاب المقطم [٣] أن يلقي خطابًا في موضوع الحال الحاضرة فأجاب. *** خطاب الدكتور نمر في شأن اتفاق سنة ١٩١٦ قال الخطيب في فاتحة خطابه أنه مضطر إلى مخاطبة الحاضرين في بيان الحال التي انتهت إليها مسألة وطنهم بصراحة فوق المعتاد، ثم أشار إلى ما دار بين الدولتين في مسألة البلاد العربية، وقال: إن رجالهم العظام صرحوا بأنهم لا يمكنهم أن ينفعوا سورية حول البساط الأخضر في مؤتمر الصلح إلا إذا كان زعماؤها متفقين على أمر مستقبلهم، فهم يتهموننا بعدم الاتفاق، وأن الفرصة سانحة لنا إذا أردنا إنقاذ بلادنا من حكم الترك، وإذا فاتت هذه الفرصة فلا يمكن أن تعود لنا ولا لأبنائنا وأحفادنا (قال) : وأنا أقول إننا لسنا مختلفين بقدر ما يظنون أو يقولون، ولا مجال للخلاف في هذا الأمر الجوهري للبلاد، وهو إنقاذها من طغاة الترك. وأما الخلاف فيما عدا ذلك من مستقبل البلاد فأمره سهل متى تم لنا إنقاذ البلاد (وقال) : إني قرأت تقرير جمعية الاتحاد اللبناني فرأيت أن الخلاف بينها وبيننا بسيط يمكن تلافيه بتعديل خفيف، فهي تريد استقلال لبنان ونحن نبغي استقلال لبنان وسورية والعراق، أي البلاد العربية (وهنا صفق له الكثيرون) ثم نوه بأننا كلنا عرب، ومصلحتنا واحدة. وبعد هذا التمهيد بالإسهاب حاول أن يأخذ قرارًا من الحاضرين بالأمرين اللذين زعم السير مارك سايكس بخطابه في الجمعية السورية بباريس أنه يمكن للسوريين الأحرار في المهاجر الاتفاق عليهما، وهما قلب الحكم التركي وإزالته، واعتماد السورييسن على مساعدة فرنسة في السير بأنفسهم في طريق الحياة، أي كاعتماد العراقيين على إنكلترة في ذلك! (راجع ص ٣٥ م ٢١) فقال: ألسنا كلنا متفقين على إنقاذ بلادنا وتحريرها من ظلم أعدائنا الأتراك وإخراجهم منها؟ وصار يلتفت إلى الحاضرين من كل جانب، فقال له بعضهم: نعم، وسكت الأكثرون، فقال: ليس بعد هذا أمر يقتضي الاتفاق عليه من الآن إلا إظهار رغبتنا ورجائنا في حلفائنا الكرام، ولا سيما إنكلترة وفرنسة أن يساعدونا على إتمام مقاصدنا، وأن نحسن الظن بهم ونقوم بما تقتضيه السياسة من إظهار الثقة بهم، وإن ظهر لنا من أقوالهم وأعمالهم ما لا ينطبق على أفكار البعض منا، فمن العقل الآن أن نترك البحث في ذلك، ومتى صار السوري في سورية، واللبناني في لبنان، والعراقي في العراق، فعند ذلك يكون المجال أمامنا واسعًا في البحث عن مستقبل البلاد. ثم قال: إنه سمع من بعض الحاضرين كلمات تدل على سوء الظن والتشاؤم، ومنها قول الكاظمي: قد مُنعنا الحق الصراح وأُعطي ... غيرنا حقنا بلا استحقاق وقال: إن هذا في غير محله، وإن حقنا لنا لم يأخذه أحد بغير استحقاق إلخ. *** خطاب الكاتب صاحب المنار ولما أتم خطابه ظهر لي أن ظني في هذا الاجتماع المدبر عين اليقين، وأن المراد منه أن يؤخذ من جمهور زعماء السوريين - وكذا العراقيون على قلتهم هنا - إقرار بما قررته الدولتان كما أخذ من جمعية موسيو غانم بباريس وهو أنهم يطلبون من الحلفاء إخراج الترك من بلادهم ويفوضون أمرها إلى إنكلترة وفرنسة، فنهضت في إثره متصديًا للرد عليه فصفق الأكثرون، وألقيت خطابًا حماسيًّا تدفق من قلب يقطر دمًا، افتتحته بقولي: إنني اضطررت الآن إلى مواجهة صديق بالرد عليه في وجهه لمصلحة الوطن كما اضطررت من قبل إلى مواجهة صديق آخر بالرد عليه في وجهه لمصلحة الوطن، وهو سليمان أفندي البستاني، وإن كثيرًا من الحاضرين هنا قد كانوا من شهود الاحتفال الذي أقيم للبستاني في فندق الكونتننتال عقب زيارته لسورية ومصر، وإرادة العودة إلى الآستانة (وذكرت ملخص موضوع خطابه وردي عليه في ذلك الاحتفال) ثم قلت: إن صديقنا الخطيب المفوه قال: إنه قد اضطر إلى مخاطبتكم بصراحة غير معتادة، وأنا أقول: إنني مضطر إلى مخاطبتكم بما هو أصرح مما خاطبكم؛ لأنه لا ينبغي أن يكتم عنكم شيء من أمر وطنكم الذي تعدون أرقى أهله علمًا واختبارًا كما قلت في تعليل ردي على صديقنا البستاني في ذلك الاحتفال المشهور. قال الخطيب: إن الدولتين الحليفتين قد صرحتا بلسان مندوبين رسميين لها بأنهما لا تستطيعان مساعدتنا في مؤتمر الصلح إذا بقي العدو في بلادنا إلا إذا اتفق زعماؤنا في أوربة ومصر وأمريكة على الأمرين اللذين ذكرهما تبعًا للسير مارك سايكس أحد ذينك المندوبين، وهذا ما كتمه الخطيب عنكم. أما أنا فأقول لكم: إن الدولتين الحليفتين قد اتفقتا على قسمة بلادكم بينهما لاستعبادكم باستعمارها، فقد جاءتني جريدة المستقبل الباريسية منذ ثلاث، فاطلعت فيها على تفصيل هذا الاتفاق (ولخصته لهم كما نشرته بعد في الجزء الأول من المجلد الحادي والعشرين) فقاطعني الدكتور نمر قائلاً: إنهم صرحوا بأنهم لا يعاملوننا بالضغط والتوسع الاستعماري، ووافقه الدكتور شهبندر، فقلت للدكتور نمر: لا تقاطعني فإني ما قاطعتك، قال: أريد تفسير العبارة وإيضاحها كما قيلت، قلت أخِّر ما تريد أن تقوله إلى أن أُتم كلامي، قال: سحبت كلامي، فمضيت في كلامي، وهذا ملخصه: إن الترك ضعفاء وجاهلون مثلنا، فلا يستطيعون أن يستعبدونا إذا نحن تنبهنا لحقوقنا، وأما إنكلترة وفرنسة فهما أقوى منا في كل شيء، فلا نستطيع أن نتفصى من عقالهما إذا هما استولتا علينا: هم أقوى منا في العلم، هم أقوى منا في المال، هم أقوى منا في السياسة، هم أقوى منا في الحرب. وذكرت الجيوش والسلاح والأساطيل البحرية والجوية، فأنى لنا أن نتفصّى من سلطانهم القاهر؟ نعم قد قالوا: إنهم لا يريدون أن يثقلوا علينا بالسيطرة الاستعمارية، وأن فرنسة تقود السوريين إلى الحياة والاستقلال كما تفعل بريطانية في العراق، ولعل مرادهم أنهم يجعلون لنا أميرًا منا، وكثيرًا من المستخدمين، وهذا تصريح بأنهم يريدون استعمار بلادنا والسيادة علينا، وإنما يهونون علينا الخطب بأنه استعمار هين لين لا قاسٍ شديد، ونحن نريد أن نكون أحرارًا مستقلين، لا عبيدًا مسودين، سواء علينا أكان السيد رحيمًا بعبيده أم لا. على أن هذه الطريقة اللينة في الاستعمار هي أمثل الطرق التي اهتدوا إليها بالتجربة، ولكنها أمثل وخير لهم لا للشعوب التي يسودونها، فإنها تخدر أعصاب الجماهير، وتخدع عامة الأمة بأن حكامها منها، ليكونوا خاضعين لها راضين بأحكامها، وبذلك يتعذر على الزعماء العارفين الدفاع عنها والمطالبة بحقوقها، لأنهم لقلتهم تسهل مراقبتهم وإنزال العقاب بهم، إذا لم تكن وراءهم أمة تؤيدهم. قال ألفونس اسكيروس في كتابه أميل القرن التاسع عشر: إن شر الحكومات الحكومة المستبدة اللينة، وعلّل ذلك بنحو مما أشرنا من تخديرها لأعصاب الأمة حتى لا يبقى لها مجال للفكر في الخروج مما هي فيه، والشواهد على هذا في مستعمراتهم في الشرق والغرب ظاهرة جلية كتونس والجزائر والولايات المستقلة وغير المستقلة في الهند. إنني رأيت أهل الولايات الهندية التي يسمونها مستقلة أبعد من غيرها عن فهم معنى الاستقلال والتفكير فيه، دع الاستعداد له والسعي إليه، وعلمت أن رؤساء حكوماتها أطوع للإنكليز من ظلهم، وأشد قبولاً لكل ما يقترح عليهم، وأما الولايات التي يدير أمرها الإنكليز بأنفسهم فهي التي تناضل وتنتقد وترجو الاستقلال، وتستعد له وتعتقد أن ستناله في يوم من الأيام. ومن عجائب السخرية أن هؤلاء الناس يدَّعون تحرير الأمم والشعوب، وأنهم يريدون باقتسام بلادنا قودنا إلى الحرية والاستقلال والمستقبل الزاهر الجميل! يسمون الحقائق بأسماء الأضداد، وما أدري بأي مقود أو رَسَن يريدون أن يقودونا إلى الاستقلال الذي لا نصل إليه بقيادتهم إلا بعد الموت والورود على النار؟ ومتى كانت الشعوب تقاد إلى الاستقلال كما تقاد الدواب حاملة الأثقال؟ يأخذون منا الممالك، ويجودون علينا بالألفاظ والأسماء التي تخفف وقعها على قلوب الجاهلين كالحماية والرعاية والاستشارة والمساعدة والانتداب وغيرها. (وقلت) : إنني أعتقد اعتقادًا يقينيًّا أنه إذا كان في بلادنا رجل واحد من هؤلاء الناس أعطي حق المراقبة على حكومتها، وسمي عبد السوريين أو عبد العرب، فإنه يكون هو السيد المالك بالفعل، وتكون جميع الأمة مستعبدة له. الحرية والاستقلال معنى واحد يقابله العبودية، وهي حقيقة واحدة لا يتغير معناهما بتتغيير أسمائهما. ولو أنهم اتفقوا على أن تكون بلادنا مستقلة استقلالاً ما في سياستها سائر شؤونها، وقالوا لنا اتفقوا على صفة حكمها وإدارتها لنساعدكم عليه محتجين باتفاقكم - لكان لهذا الطلب معنى، ولكنهم اتفقوا على اغتيالها، وأمرونا أن نتفق على طلب هذا منهم لنكون حجة على أنفسنا بأننا بخسنا أنفسنا بأيدينا، ثم سمي الموت حياة والاستعباد استقلالاً. أما والأمر كذلك فالأليق بكرامتنا والواجب على كل منا أن يقبع في كسر بيته (أي في زمن الحرب والحكومة العرفية) وينتظر الفرج من الله تعالى. وإنني أختم خطابي بفكاهة تناسب المقام عسى أن يكون أسلوبها الفكاهي مخففًا لمرارة ما سمعتم من تهدد الخطر الأكبر لوطنكم: حُكي أن رجلاً مسلمًا تنصَّر في جبل لبنان وذهب إلى (دير قزحيا) الشهير وانتظم في سلك رهبانه، واتفق أن كان الرجل مترفًا، وأن وجوده في الدير كان في أيام الصوم الكبير، فكان لا يجد من الطعام إلا العدس المسلوق ونحوه من اللمج الخالي من الدسم، فاشتد به القرم (شهوة اللحم) فسرق في ليلة دجاجة من دجاج الدير وذبحها، وشرع في سلقها بعد أن نام الرهبان، فاتفق أن مرَّ بعضهم وشم الرائحة من حجرته فطرق بابه وكلمه فلم يجبه فشكاه إلى الرئيس فجاء إليه الرئيس بنفسه وسأله عما في القدر، فقال: سمكة يا أبونا، قال: من أين جاء السمك في جنح الليل من البحر البعيد إلى هذا الجبل؟ قال: أما قال سيدنا يسوع: بالإيمان يكون لكم كل شيء؟ قال الرئيس: بلى، وإننا نحب أن نرى هذه السمكة التي جاءت ببركة الإيمان بسيدنا يسوع؛ لنزداد إيمانًا بمشاهدة هذه العجيبة، وكشف القدر فرأى الدجاجة، قال: هذه دجاجة يا أخ حَنَّا لا سمكة، قال: قل سمكة يا سيدنا. قال: كيف أقول سمكة وأنا أراها دجاجة، وهل يغير الحقائق تغيير الأسماء؟ قال: أتقول أن تغيير الأسماء لا تأثير له يا أبانا؟ قال: نعم لا يغير حقيقة المسمى، قال: إذًا ماذا كان اسمي أنا؟ قال: محمد، قال: وما اسمي الآن؟ قال حَنَّا. قال: إذا كانت الأسماء لا تغير الحقائق، فأنا مسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وآكل الدجاجة وأسافر من الدير صباحًا. فإذا كانت الدجاجة انقلبت سمكة فاستعباد المقتسمين لبلادكم ينقلب استقلالاً، والسلام. فضحك الحاضرون وصفقوا تصفيقًا شديدًا وانصرفت، وقال لي بعض من شيعني إلى باب الدار من أعضاء حزب الاتحاد اللبناني: إنك قد أرحتنا بكشف المخبأ، وكانوا قد طلبوا مني الخطابة فأبَيْتُ والمسألة مرتبة. *** محاورة مع ضابط بريطاني بعد مرور أسبوع على هذا الاجتماع، والكثيرون من حاضريه يتوقعون اعتقالي فيه، ألممت بفندق سافواي مقر السلطة العسكرية البريطانية لأجل مقالة للمنار تراقب في المكتب العربي منه، ودار بيني وبين ضابط بريطاني في هذا المكتب محاورة كان هو السائل فيها وأنا المجيب، ألخصها بما يلي: (قال) : هل اطلعت على ما دار بباريس بشأن سورية وخطبة السير مارك سايكس؟ قلت: نعم (قال) ما رأيك فيها؟ (قلت) : إنها تسوء السوريين جدًّا ولا سيما المسلمين، وعللت له ذلك بما هو معلوم بالضرورة، قال: كان الغرض من تلك الخطب والتصريحات إرضاء السوريين، فهل جاءت بضد المراد منها؟ قلت: إنها جاءت بالأثر الطبيعي الذي يجب أن يترتب عليها، وإن كان المراد ضده. قال: إن السير مارك سايكس صرح في خطابه بأن الحجاز قد استقل، فلا يعقل أن يرفض استقلال سورية التام والحجاز مستقل. قلت: هذه مسألة نظرية ذكرت مع كلام ينقضها وهو أن إنكلترة وفرنسة اتفقتا على اقتسام بلادنا، قال: إنهم صرحوا بترك العزم على السيطرة الاستعمارية، قلت: لا معنى لهذا، وقد اقتسمتم البلاد إلا أنكم تريدون الرفق والإحسان في إدارتها، ونحن نريد الحرية والاستقلال الصحيح، لا الاستعمار اللين واللطيف، وذكرت له اجتماع السوريين وما قلته فيه بشأن الدولتين وقسمتهما للبلاد وهذا التصريح (وهو به عليم) فأجاب جوابًا ذكر فيه القسمة، ثم عاد إلى حصر الكلام في سورية وفرنسة. قال: إن قسمة البلاد بيننا وبين فرنسة يراد بها مناطق النفوذ المالي، بمعنى أن أحدنا لا يعارض الآخر في منطقته بالأعمال المالية، وقد صرح وزراء فرنسة رسميًّا بأن حكومتهم لا تنوي فتح شيء من البلاد، ولا قهر شعب على الخضوع لها، فهي تريد مساعدة السوريين مساعدة صداقة لا قهر وتغلب. قلت: إن هذا الكلام يقوله وزراء كل دولة من دول الفريقين المتقاتلين لإقامة الحجة على الفريق الآخر، ولإقناع الأحرار والاشتراكيين - حتى من أُممهم - بما لا يرضون الاستمرار على الحرب بدونه؛ لأجل هذا تطلبون منا تفويض أمرنا إليكم لتقولوا أن هذه الأمة أو الشعب يطلب منا مساعدته على تحرير نفسه ومساعدته على الاستقلال، فلا مندوحة عن إجابة طلبه حبًّا في الإنسانية. قال: ماذا كان ينبغي أن يقال في هذه المسألة ليرضيكم؟ قلت: لو كانت الدولتان تريدان استقلال بلادنا لعرفتا كيف ترضياننا. ذلك بأن تقولا: إننا قررنا أن تكون البلاد العربية دولة مستقلة كبلجيكة، وإننا لا نعقد الصلح إلا إذا كان هذا الشرط مما يقرره مؤتمره، قال: إن فرنسة لم يمكنها أن تصرح بأكثر مما صرحت به، ولكن دعنا من الأقوال إلى الأفعال، ماذا تريد أن نفعل لنثبت لكم حسن قصدنا في بلادكم؟ إن جيشنا الآن في فلسطين، ويجوز أن يتمكن من الزحف على دمشق وأخذ سورية، ومن المعلوم أن سورية في حالة سيئة من الفقر والضعف، وإن كثيرًا من رجالها الأحياء منفيون ومهاجرون، فهل تأمن إذا تركناها وشأنها بعد إخراج الترك منها أن تقع في الفوضى والاختلال وزيادة الحاجة والفتن؟ قلت: إن الكلام فيما ينبغي فعله في سورية ما جاء وقته؛ لأنكم لم تفتحوها، ولو فتحتموها وسألتموني لطلبت رؤية البلاد ومن فيها، وحينئذ إما أن أقول اتركوها ففيها من الرجال من يقوم بأمرها، وإما أن أطلب مساعدة مالية مؤقتة، ولكننا نرى أن ما تخافون وقوعه من الفتن في سورية إن تركت وشأنها وقع بالفعل في روسية فهي في فوضى لا أمن فيها على نفس ولا مال ولا مصرف (بنك) ولا معبد ولا مصلحة، ثم أنتم لا تقبلون من ألمانية دعوى إبقاء جنودها فيها بحجة من أمثال هذه الحجج كحفظ الأمن وإعادة النظام، مع أن البلاد الروسية متاخمة للبلاد الجرمانية، ويخشى أن تنتقل العدوى منها إليها، فسكت وانتهت المناظرة بذلك. *** ملخص حال السوريين بمصر في زمن الحرب وجملة القول أن السوريين المقيمين بمصر واللاجئين إليها كانوا من الحرب في أمر مريج، وقد عبث الأجانب بأكثر الذين يتمرسون بالسياسة منهم، فكانوا يخدمونهم بكل ما يريدون، وقد خاننا أكثر الذين كانوا عاهدونا وأقسموا أغلظ الأيمان على السعي لاستقلال البلاد العربية، وعدم الرضا باحتلال الأجانب لشيء ما منها، فارتد أفراد من أشهر الاستقلاليين، وآمن أفراد من الاحتلاليين، وتذبذب آخرون ممن كان يُظن فيهم الثبات، ومنهم من كان نصف استقلالي يرى أنه ينبغي مشايعة الأجنبي على أخذ بعض البلاد العربية في مقابلة مساعدته إيانا على استقلال البعض الآخر غافلاً عن استحالة ذلك، فلم توجد جماعة تسعى للاستقلال التام الناجز بصدق وثبات على كثرة ما تآلف من اللجان والجمعيات - إلا جمعية الاتحاد اللبناني. بل سميت بعض الجماعات الاحتلالية جمعية الاستقلال. وكان مما سمعته بأذني من اثنين من مؤسسيها في (٢٠ و٢١ ربيع الآخر سنة ١٣٣٥و١٢و١٣ فبراير سنة ١٩١٧) أنهما أُمرا مع آخرين بالذهاب إلى سورية من طريق العريش لتأليب العرب وحملهم على الثورة والخروج على الترك، فكتبت الجمعية تقريرًا بينت فيه أنه يجب العمل في سورية باسم الشريف. سواء كان بدعوة البدو إلى القتال أو بغير ذلك، فإن لم يفعل الإنكليز ذلك وقعوا في مثل الغلط الذي ارتكبوه في العراق، فأدَّى إلى قتال العرب لهم وتأخير فتحه، وأن العرب في سورية سيفعلون ذلك إذا لم يكن عملهم باسم الشريف، وكان المتكلم من صنف الضباط، قال: وإننا أقنعناهم بذلك - بالتقرير المشترك وبالكلام - وصدقه رفيقه وهو ممن جاهد بالخطابة والكتابة في هذه السبيل، وأرسل إلى بلاد الدروز مرتين لاستمالتهم إلى الإنكليز، وكنا قبل ذلك غششنا به وأعطيناه اعتمادًا، فكان من الخائنين، وأراد أن يتوسل بالاعتماد للإيقاع بنا. *** المذكرة الاستقلالية للرئيس ولسن قد كان أول سعي مشترك مع جماعة للاستقلال التام بعد ما بيَّناه من الجهاد السابق مذكرة كتابية لرئيس جمهورية الولايات المتحدة في إثر ظهوره في ميدان العمل وندائه بحرية الأمم، وقّعها كاتب هذا والشيخ كامل القصاب وإسكندر بك عمون والدكتور مشاقة والدكتور شهبندر وخالد بك الحكيم، بيَّنا فيها أن البلاد السورية وسائر البلاد العربية لا ترغب إلا في الاستقلال التام، ولا تقبل غيره باختيارها، وأنها إذا استفتيت في ذلك وكانت حرة في الجواب، فإن سوادها الأعظم يصدق ما نقوله عنها؛ إذ نحن من أعلم أهل البلاد بحال أمتهم. وقد جاء استفتاء اللجنة الأميريكية بعد ذلك مصدقًا لهذه المذكرة، ولعلنا ننشرها بعد. *** عهد السبعة ولا أترك في هذه الخلاصة التاريخية ما نشر في بعض الجرائد السورية وسمي بعهد السبعة، وحقيقته أن الألمان أرسلوا بعد كسر الروس وعقد الصلح معهم جيشًا ألمانيًّا إلى البلاد العثمانية عن طريق سيباستبول فخافت إنكلترة أن تكون وجهته العراق، فكان من أعمالهم الاحتياطية لذلك أن أقنع بعض المشتغلين بالسياسة منهم بمصر سبعة من الذين يجتمعون بهم بأن يسعوا إلى مساعدتهم على تكوين قوة حربية للدفاع عن البلاد العربية على أن تتعهد بريطانية العظمى بالاعتراف لهم بكل ما يأخذونه من بلادهم بالسيف، فيكونون مستقلين فيه. ولما لم توجه تلك القوة الألمانية إلى العراق سكت الإنكليز عن هذا العمل وأعرضوا عنه. *** فصل ثان في المسألة العربية بعد انتصار الحلفاء كل ما سبق بيانه بالإيجاز من أعمال الحلفاء وتمهيدهم السبل لاستعمار البلاد العربية كان في أثناء الحرب التي كانت كفتهم فيها مرجوحة، وكان الخوف عليهم أقوى من الرجاء لهم، ولذلك كانوا يحاولون إقرار أهل البلاد إياهم ومساعدتهم لهم على استعبادهم مع الشكر لهم على ذلك؛ لأنهم سموه تحريرًا للبلاد من ظلم الترك وما كان الترك مستعبدين للناس ولا سالبين لشيء من أملاكهم ولا حريتهم الدينية والشخصية، ولا أولى جنف في الضرائب، بل هم في كل ذلك أوسع حرية ورحمة من جميع الحلفاء في مستعمراتهم. ولولا فظائع بغاة الاتحاديين الأخيرة واستغلال الحكام من الترك والعرب لوسوسة عبد الحميد على نفسه قبلهم - لكانت ذنوب الترك كلها سلبية، أي أنهم ليسوا معمرين ولا مرقين لشعوب دولتهم في العلوم والفنون والأعمال ولا محسنين لعمارة الأرض واستغلالها. وقد سبق لنا قول في انتهاء الحرب وكيف كانت لمصلحة الحلفاء وتكرر ذلك في المنار [٤] ومقالة في (المسألة السورية والأحزاب) بعد الحرب [٥] وفيها بيان استفتاء اللجنة الأمريكية لأهل البلاد السورية في مستقبلهم وما يسمى الانتداب. ومقالة في (استقلال سورية والعراق) [٦] وأقوال أخرى في شؤون سورية بعد الاحتلال المختلط فيها، ووثائق تاريخية تراجع في مجلدي المنار ٢٠ و ٢١. وقد نشرت الجرائد العربية في سورية ومصر وأمريكة الشمالية والجنوبية الشيء الكثير مما كان من أمر المحتلين قبل الشروع في تنفيذ اتفاق سنة ١٩١٦ وبعده، ولا سيما الثورات والقتال في كل من سورية الشمالية والجنوبية (فلسطين) - ولا تزال في ازدياد - وإعلان المؤتمرين السوري والعراقي لاستقلال القطرين، وجعل فيصل ملكًا على سورية، واختيار أخيه عبد الله ملكًا للعراق، وما كان من زحف الجنرال غورو على دمشق وإخراجه لفيصل منها، ثم جعله البلاد السورية عدة دول تحت سلطته، كما نقلت عن برقيات أوربة وجرائدها بعض أخبار الثورة الكبرى في العراق التي كانت تقاتل أكثر من مائة ألف جندي من العساكر البريطانية، واضطرار إنكلترة بذلك إلى العدول عن جعل العراق تابعة للهند الإنكليزية وإعلانها العزم على تأسيس دولة عربية بريطانية في بغداد وتأليف حكومة وطنية مؤقتة فيه والاستعداد لانتخاب جمعية وطنية تؤلف الحكومة الثابتة وتختار الأمير أو الملك لها، وترشيحهم الشريف فيصل للعراق وبث الدعوة له، وتأليف حكومة جديدة في شرق الأردن تابعة لحكومة القدس الصهيونية الإنكليزية، وجعل الأمير عبد الله أميرًا عليها بعد أن جاءها من الحجاز بقصد الاستعداد لإخراج فرنسة من سورية، وبث الدعوة لذلك، وجدد المبايعة لأخيه (الملك فيصل) . كل ذلك معروف بالتفصيل لقراء المنار في مصر وسورية وأمريكة، وسنزيده هنا بيانًا وتحقيقًا لم نسبق إلى مثله فيما نعلم كما ينتظره الكثيرون منا، ونحمد الله أنه كسابقه حجة بينة على أننا كنا على الحق والصواب فيما كنا نصرح به في مصر في أثناء الحرب وبعدها، وفي سورية مدة السنة التي أقمنا فيها، من اتفاق الحلفاء الإنكليز والفرنسيس بمساعدة الشريفين على استعمار بلادنا السورية والعراقية على ما بينهم من التنازع والخلاف السري والعلني في ذلك، وقد انفردنا بالسبق إلى معرفة ذلك والمجاهرة به والتعرض بذلك للخطر، وعدم انخداعنا لأحد في ذلك، ولا خداعنا لأحد، بل كنا نقول الحق وننصح باتباعه لقومنا ولخصومنا، وهذه منة من أكبر منن الله تعالى علينا ما كنا لولا فضله وتوفيقه أهلاً لها في تلك المواقف التي زلت فيها أقدام الأفراد والشعوب والدول. *** نُصْحنا للإنكليز والفرنسيس ومذكرتنا للويد جورج نصحنا للإنكليز قولاً وكتابة فيما نعتقد أن فيه الخير لنا ولهم وللإنسانية، وكان آخر تلك النصائح مذكرة أرسلناها إلى مستر لويد جورج رئيس الوزارة البريطانية منذ سنتين كاملتين بيّنَّا له فيها أن ما كنا نصحنا به لرجالهم بمصر قد ظهر صدقه، وأن ما جروا عليه مع حكومتهم في المسألة العربية مخالفًا له كان هو الخطأ، بما وقع في العراق وسورية ومصر والهند، وأن إنكلترة ستكون هي المغبونة بقسمة تراث العالم الإسلامي بين الحلفاء بعداوة الشرق وحسد الغرب لها، وإن عداوة أكثر من ثلاثمائة مليون من المسلمين احتقارًا لهم بضعفهم، ليس من العقل والحكمة لأنهم لا يكونون أضعف من ميكروبات الأمراض والأوبئة، وأنهم سيكوِّنون به اتحادًا إسلاميًّا يساعدهم فيه الروس والألمان، ويكون خصمًا لهم في زمن هم مستهدفون فيه لعداوة أكثر شعوب أوربة، وإن الخير لأمتهم في تأسيس الصداقة بينها وبين العالم الإسلامي باستقلال الشعوب العربية - وفي مقدمتها الشعب المصري - والتركية والفارسية جميعًا. ونصحنا لرجال فرنسة في بيروت بمثل ذلك بعد أن ذكرنا لهم ملخصه ولم نطلب منهم إلا استقلال سورية وربح صداقة الأمة العربية كلها بذلك واتقاء ما يقع عليهم من الغبن بعداوتها، ومنه أن سورية لا تسلم لهم في المستقبل، وقد قال لنا موسيو روبير دوكيه سكرتير الجنرال غورو: إن هذا الرأي جيد وهو من الممكنات دون الخياليات ولكنه يحتاج إلى تمحيص وتفصيل بين عقلاء الفريقين بكثرة البحث، ولا سيما في طريقة تنفيذه في الحال الحاضرة. *** الشريف فيصل في عهده الأخير بسورية [٧] ونصحنا للشريف الأكبر - كما تقدم -، ثم لنَجْلِه الأمير فيصل، فأما الأول فله خلق مطبوع معروف، فسهلٌ على مخاطبه أن يعلم ما يقبله ويجري عليه وما لا يمكن أن يقبله، وأما الثاني فقلما يعرف له رأي مُستقر، أو يثق مختبره بأنه أقنعه بشيء، وإن كان غير المختبر له يظن أنه أقنعه بكل شيء للين عريكته ولطف معاشرته وكثرة مواتاته وقلة معارضته، وكراهته مواجهة أحد بما يكره إلا إذا غلبه الغضب هو سريع الفيئة بعد الغضب، وقد عاشرته زهاء نصف سنة كنت ألقاه في أكثر أيامها، ولم أقف له على عقيدة راسخة في السياسة إلا استحالة إخراج فرنسة وإنكلترة من البلاد العربية الآن ووجوب العمل مع إحداهما وخدمة البلاد ومساعدتها في ظل وصايتها، والاستعانة بموادتها على تخفيف وطأتها، على أنه لا يصرح بهذا تصريحًا جليًّا، وهذه نظرية كل من واتوا الأجانب في هذا الطور الذي نحن فيه كحقي بك العظم وداود بك عمون، فلا أرى فرقًا بينهما وبين الأمير فيصل والأمير عبد الله، وإن كان أتباع الأميرين يعدون هذين من الخائنين لأمتهم ووطنهم، والأميرين من المحررين لها، ولعلنا نكتب مقالاً في ترجمة الشريف فيصل وسيرته في سورية يجعل حقيقته ماثلة لكل قارئ. جاء الأمير فيصل سورية من فرنسة في ٢٣ ربيع الآخر سنة ١٣٣٨ (١٤ يناير ك١ سنة ١٩٢٠) وهو يعتقد أنه باتفاقه مع كليمنصو على قبول الوصاية الفرنسية مع تخفيف شروطها قد خدم سورية أجل خدمة ولكنه لم يستطع أن يقنع حزبه الخاص بذلك، وهو الذي عمل له كل شيء وحاول أن يؤلف حزبًا من المحافظين يستعين به على ذلك، وكان ذلك حزب عبد الرحمن بك اليوسف الفرنسي النزعة الذي سمي بالحزب الوطني، ولكنه لم يستطع مساعدته ولا الاستعانة به، بعد أن تعرف إليه وتنكر لحزبه، وظل سلطان الحزب الأول عليه أقوى من سلطانه على الحزب على ما أوقع فيه من الشقاق، فالحزب هو الذي منعه من العودة إلى أوربة، وحمله على قبول إعلان استقلال سورية وجعله ملكًا عليها وأرضاه بجعل ملكها إرثًا في ذريته، وبجعل الراية الحجازية راية لسورية مع زيادة نجم أبيض في الزاوية الحمراء التي هي رمز علم شرفاء مكة فيها، وجعل القواعد التي بنى عليها المؤتمر السوري إعلان الاستقلال قائمة على أساس الاعتراف بأنه قد حارب الترك من قِبل والده مع جيوش الحلفاء لأجل تحرير البلاد العربية وتحقيق استقلالها الذي كان ينشده أحرارها، وأرادوا أن يكون هذا حجة على الحلفاء، ولذلك عززوه بتصريحات وزراء الحلفاء التي كانوا يفوهون بها في أيام الحرب - كما تقدم بيانه من قبل - وقد كان الواضعون لقرار المؤتمر من أعضاء حزب الاستقلال السوري قد عرفوا الحقائق في هذه الشؤون إذ زالت تلك الظلل والغواشي التي كانت تحجبها عن أبصارهم، ثم عرفها كل أحد بعد رفض الحلفاء التصديق على الاستقلال، وما كان من أعمالهم العسكرية والإدارية في سورية الجنوبية والشمالية، يدل على ذلك ما كان يلقى في المؤتمر السوري العام بدمشق من الخطب في إنكار تلك الأعمال والطعن فيها، وما كان بين المؤتمر وبين الملك فيصل ووزارتيه مما نلم به بعد. ولقد علم الذين قاموا بدعوة إعلان الاستقلال وتهيئة أسبابها ومقدماتها بعد ممارسة الحوادث أن فيصلاً قائد للحلفاء موكول إليه حفظ الأمن في المنطقة الشرقية إلى أن يفرغوا من إيراد ما يريدون من أمر مستقبل البلاد، وأنه قوة رسمية ومالية، فإن الإنكليز كانوا يدفعون له راتبًا، وكانوا يعطونه حصة المنطقة الشرقية من جمرك حيفا، وصار الفرنسيس يعطونه مثل ذلك من جمرك بيروت بعد الموادة وقطعوه عند المحادة، وأنه يائس من الاستقلال التام الناجز، وإن كان أولى من غيره بحبه، وأنه لين سلس، كان في أول العهد يسير في البلاد كما يشاء البريطانيون، ثم جاءها أخيرًا من فرنسة يدعو إلى الاتفاق مع الفرنسيس، فأرادوا أن يستفيدوا بما أوتي من قوة وضعف بما أرادوا من اغتنام فرصة الحرية التي نالتها المنطقة الشرقية باسمه وتحت قيادته بإعلان الاستقلال التام لسورية المتحدة بجميع مناطقها ليجعلوا الحلفاء تجاه أمر واقع بصفة مسلمة لهم معترفة بفضلهم وملكية قائد من قواد حلفهم، فإن ساعد القدر على قبولهم ذلك فهو المراد، وإلا فإن حال البلاد معهم بعده لا يخشى أن يكون شرًّا مما كان قبله، وذلك أنهم حينئذ ينفذون الاستعمار الذي سموه انتدابًا بالقوة العسكرية، فيكون وجودهم فيها مخالفًا للحقوق الطبيعية والأساسية، ولمعاهدة الصلح الكبرى وما فيها من عهد عصبة الأمم المصرح فيه بأن البلاد المشروط في استقلالها قبول الانتداب يجب أن يكون لأهلها الحق الأول في اختيار الدولة المنتدبة وشكل الحكومة التي ترضاه، وبهذا يكونون غاصبين ويكون للبلاد الحق الذي لا يرد في معارضتهم عند كل فرصة ممكنة، وأما إذا قبل الشعب الانتداب باختياره فإنه يكون قد قتل نفسه بيده. *** مجمل ما كان بعد إعلان الاستقلال أعلن الاستقلال بصفة نادرة المثال وبلغ أمر إعلانه للدول فجعله الحلفاء محلاًّ للنظر، وكان جواب إنكلترة لفيصل أنها تعترف بصفته حاكم على رأس حكومة مستقلة، لكن يجب أن تقرر الصفة الرسمية في مؤتمر رسمي، ودعته إلى حضور مؤتمر (سان ريمو) فتردد أولاً؛ لأن الرأي العام لم يرتح إلى سفره وفي مقدمته المؤتمر السوري الذي كان يلح عليه بوجوب الاستعداد للدفاع عن تلك البلاد وتؤيده جميع الأحزاب، ثم اقتنع الأكثرون باستحسان السفر بعد إلحاح إنكلترة به، وقد طلب من الجنرال غورو في ٨ يوليو (تموز) تعيين سفينة تقله إلى أوربة، فأجابه بأنه يجب عليه قبل سفره أن يجيبه إلى مطالب طلبها منه، من أهمها إباحة استعمال الخط الحديدي من رياق إلى حلب لنقل الجنود الفرنسية والذخائر الحربية، وأنذره أنه إذا سافر قبل تنفيذ هذه المطالب من طريق آخر فإن فرنسة تكون حرة في أعمالها، ولم يقبل تفويض النظر فيها إلى لجنة مختلطة من العرب والفرنسيس والإنكليز حسب الاتفاق مع الرئيس كليمنصو. *** إنذار الجنرال غورو للملك فيصل ثم أرسل إليه الجنرال غورو في ١٤ يوليو إنذاره المعروف الذي صرح فيه بمطالبه الخمس وهي: الاعتراف بالوصاية الفرنسية على سورية بلا شرط ولا قيد وتسليم الخط الحديدي المذكور آنفًا للسلطة العسكرية الفرنسية، وإلغاء الخدمة العسكرية الإجبارية، وجعل عدد الجيش المتطوع كما كان في العام الماضي، وتسريح سائر الجنود، ومعاقبة المجرمين المؤسسين للعصابات والمحرضين على فرنسا، وقبول ورق البنك السوري الذي أسسته فرنسة بجعله نقدًا وطنيًّا رسميًّا، وجعل آخر موعد لإجابة هذه المطالب نصف الليل الذي ينتهي به اليوم ١٨ من الشهر. لم يكن في وسع الملك فيصل المبادرة إلى إجابة هذه المطالب؛ لأن المؤتمر السوري العام والأحزاب السياسية كلها كانت غير راضية منه ولا من حكومته لعدم قيامها معه بما يجب من الاستعداد لحفظ الاستقلال والدفاع عنه، ولهذا اضطروه إلى إسقاط وزارة علي رضا باشا الركابي، ثم رأوا أن وزارة هاشم بك الأناصي التي خلفتها لم تكن أقوى منها فحاولوا إسقاطها، ولما شعروا بهذا الإنذار الذي أعقبه الضعف والإهمال وسوء الإدارة اشتد هياجهم وسخطهم، وسرى الهياج إلى سائر طبقات الأهالي الذين اندفعوا إلى الاستعداد للدفاع عن البلد وصاروا يطعنون في الملك فيصل جهرًا ويتحدثون بالإيقاع به حتى إنه وضع من كان لديه من الجند الحجازي حول داره لحمايته، وسعى إلى الجنرال غورو ملتمسًا منه تعديل مطالبه فأبى. وفي غرة ذي القعدة ١٧ يوليو كتب إلى رئيس الوزراء بأن الملك يرغب أن ألقاه مع جميع أعضاء المؤتمر في داره مساء، فأجبنا الطلب وقابلناه مع وزرائه، فشرح لنا الحرج الذي وصلت إليه حال البلاد وتهيج العوام بغير عقل، وخذلان إنكلترة حتى لا يرجو منها أقل مساعدة، كما أبرق إليه محمد بك رستم من لندن، وإن للحكومة حجج على الجنرال غورو لا تستطيع الإدلاء بها في أوربة، وله عليها حجج بعضها حق وبعضها باطل ينشرها حيث شاء، ثم طلب من الأعضاء أن يكتب إليه كل منهم برأيه على حدته في كتب مختومة وعاهدهم على أنه يعمل بها ولا يطلع أحدًا عليها، فانصرفوا وهو يحسب أن سيكتبون ولكنهم لم يكتبوا إليه وعدوا اقتراحه خداعًا يريد أن يحتج به على قبوله للمطالب الفرنسية ويجعل التبعة على المؤتمر. ثم إن المؤتمر عقد في (٣ ذي القعدة ١٩ يوليو تموز) اجتماعًا سريًّا غير رسمي تبارى فيه الخطباء في الطعن في الحكومة لاعتقادهم أنها قررت التسليم بمطالب الجنرال غورو، ثم عقدوا جلسة رسمية اكتظ مكان المستمعين، بحاضريها من الوجهاء ورؤساء الأحزاب وأعضائها، وقرروا فيها بالإجماع أن قرار المؤتمر التاريخي المتضمن لاستقلال سورية ووحدتها، ورفض الهجرة الصهيونية وملكية فيصل - قرار واحد، إذا نُقض بعضه نُقض كله، وأن كل حكومة تقبل الوصاية لا تكون حكومة شرعية، وأنه لا يعتد بمعاهدة لا يقبلها المؤتمر، وقد طبع هذا القرار ونشر في العاصمة. وفي اليوم التالي (٤ ذي القعدة ٢٠ يوليو) أصدر أمره بتأجيل عقد المؤتمر شهرين لأن المجالس النيابية تقفل في مثل هذه الحال الحربية، وقد قرأ وزير الحربية الأمر على منبر المؤتمر وكان معه رئيس الوزارة وانصرفا واجمين ممتقعين، وكان بعض الأعضاء يريد عدم امتثال هذا الأمر فأقنعتهم بأن هذا خير للمؤتمر وأني سررت به، ولولاه لاقترحت على الأعضاء أن يقرروا ذلك من تلقاء أنفسهم، ذلك بأن دمشق كانت في أشد الهياج والسخط على ملكها ووزارته سواء في ذلك الأحزاب والجماعات والأفراد وكلهم يرجون من المؤتمر ما لا قبل له به، وما ثم إلا إلزام الملك والوزارة برد إنذار الجنرال غورو والدفاع عن البلد إن هوجمت بغيًّا وعدوانًا، أو إسقاطهم وإقامة حكم عسكري مفوض (دكتاتور) يدافع عن البلاد بكل الوسائل الممكنة، ولا يوجد في البلد من هو أهل لنوط ذلك به، والثورة الداخلية غير مأمونة، وكل ما يترتب على ذلك من الغوائل يكون حينئذ في عنق المؤتمر الذي لم يأت إثمًا ولا ادَّخر في الخدمة وسعه، وقد أصبحت الأمة كلها راضيةً عنه بعد أن كادت الدسائس تغيرها عليه، وإنني علمت أن التجنيد الإجباري الذي قررته الحكومة بضغط المؤتمر وإلحاحه قد كان عملاً صوريًّا، وأنها لم تقصد به إلا إيهام الأمة ما يرضيها وإيهام فرنسة ما يحملها على التساهل يما تطلبه ويطلب منها. انفض المؤتمر وكانت المراسلة بين الملك فيصل والجنرال غورو على قبول مواد إنذاره متصلة، فلما أصر على قبولها كلها أمر الملكَ قبل كل شيء بتسريح الجيش السوري من ثكناته ومواقعه الحربية وأهمها مضيق مجدل عنجر الحصين في طريق جيش الجنرال غورو الزاحف على الشام، فسرح الجيش بغير نظام فترتب على ذلك نهب الأسلحة والذخائر، وأحدث ثورة في شوارع دمشق، وهاج الشعب هياجًا شديدًا، وكثر التصريح في الشوارع بالهتاف للمؤتمر وبسب الملك فيصل وأبيه والتحدث بخيانته ووجوب قتله، وقد اضطرت الحكومة بمن بقي عندها من الجند لحفظ الأمن من أن تقاتل الثورة بالسلاح حتى إنها استعملت المدافع الرشاشة في ذلك وقتل كثيرون - قيل ٥٠ وقيل ٧٠ - وجرح كثيرون قيل ١٥٠. قبلت الحكومة برياسة الملك فيصل جميع مطالب الجنرال غورو ومنها قبول الوصاية بلا شرط ولا قيد، فأصبحت بذلك ساقطة مع ملكها غير شرعية بقرار المؤتمر المذكور آنفًا، ثم إنها علمت في اليوم التالي لتسريحها الجيش (وهو ٢٠ يوليو) أن جنود الجنرال غورو زاحفة على دمشق، وعلمت بعد المراجعة بين الملك وبينه أن حجته على الزحف أن جواب القبول تأخر عن موعده، وهو الساعة الثانية عشرة من نصف الليل، وكان قد أصدر أمره للجيش بالزحف، ولا يمكنه إيقافه بعد، وقد احتل المواقع الحصينة كمجدل عنجر، وهي تقول إنما كان الذي تأخر وصوله إليه هو ما طلبه من التفصيل لأمر التسليم بعد أن وصل إليه البلاغ الرسمي بقبول الشروط عاليه، وأن سبب تأخر برقية التفصيل انقطاع السلك البرقي باستعمال الجيش الفرنسي له. عظم الخطب على فيصل ووزرائه لما رأوا أنهم سلموا بقبول الوصاية مع تلك الشروط المخزية ليدفعوا الاحتلال عن دمشق ويبقوا فيها متمتعين في ظل الوصاية وخدمتها بما كانوا عليه بعد أن قالوا في عدم إمكان قبولها ما قالوا من المبالغات، ونبذ فيصل من يقبلها بأقبح الألقاب، وعلموا أنهم خسروا كل شيء وظهر لهم أن العقل والكياسة في التسليم أن يكون آخر ما ينفذ من الشروط تسريح الجند، فصدر الأمر لباقي الجيش بالتوقف عن الانسحاب فوقف غربي (خان ميسلون) ووقف الجيش الفرنسي الزاحف وراءه على بعد مرمى القنابل منه، وجعلت هذه فرصة لاستئناف المفاوضة في إيقاف الزحف على دمشق، وتولى ذلك ساطع بك الحصري (وزير المعارف) فسافر إلى الجنرال غورو فلم يلق نجاحًا. وفي يوم الخميس (٦ ذي القعدة ٢٢ يوليو) زار فيصل وزارة الحربية وكلم جموع المتطوعة وحثهم على الجهاد، وكان جمع الزعماء ورؤساء الأحزاب وبلغهم أنه أعلن الحرب رسميًّا، ونشر ذلك على الجرائد وصلّى الجمعة في يومها في الجامع الأموي وصعد المنبر بعد الصلاة وحث الناس على الجهاد معه لحماية الدين والوطن، فقال كثير من الناس: إنه يريد استعادة مكانته، وكان الناس في هياج عظيم وإقبال على التطوع وبذل كل ما يلزم للمدافعين من طعام وذخيرة، ولكن الوقت لم يعد يتسع لعمل مفيد. ثم ذهب فيصل مساء الجمعة إلى (الهامة) وجعلها مركز قيادته، وبلغنا أنه أرسل أمتعته الخاصة وذخائره إلى (درعا) وأن الحكومة أرسلت أوراقها ودفاترها إليه أيضًا، ثم إنه ذهب في مساء السبت إلى محطة الكسوة بمن معه من وزرائه وخواصه ومنهم بعض الشبان، وأرسل إليهم طعام العشاء من دار عبد الرحمن بك اليوسف وذلك بعد انتهاء معركة خان ميسلون التي قتل فيها وزير حربيته يوسف بك العظمة وفرقت الطيارات شمل من كان معه من العسكر النظامي، ويقال إنهم كانوا زهاء خمسمائة جندي، وعاد في المساء جميل بك الألشي حاجبه الأول وكان ذهب مع موسيو كوس - الذي كان ضابط الارتباط الفرنسي في دمشق، وصار بعد الاحتلال رئيس البعثة الفرنسية للانتداب مدة من الزمن - إلى الجنرال غورو للاتفاق معه باسم الملك على صفة دخول دمشق، وقد عاد معه في سيارته مبتهجًا مسرورًا. وفي صباح يوم الأحد (٩ ذي القعدة ٢٥ يوليو) رأيت نوري باشا السعيد فأخبرني أن الجيش الفرنسي يدخل الشام بين الساعة ٩ والدقيقة ١٠ ويعسكر في (المزة) من ضواحي البلد وأن الملك يدخلها الساعة ١٠ ونصف، ولكنه لم يدخلها إلا في منتصف ليلة الإثنين، وألف وزارة جديدة من الموالين أو الميالين إلى فرنسة رئيسها علاء الدين بك الدروبي، وقد كانت عودته إلى دمشق من الغرائب، ورأيت نوري باشا في صباح الإثنين أيضًا، فأخبرني بأن القائد الفرنسي قبل الوزارة الجديدة، وأنهم لا يعترفون بالملك، فقلت له: وكيف عدتم به إلى العاصمة؟ قال: لم يكن هذا برأيي وإنما هو رأي جماعته الذين ورطوه وفي مقدمتهم الدكتور فلان، وفي يوم الثلاثاء بلغته السلطة المحتلة وجوب الخروج من الشام قبل نصف الليل، بلغني ذلك بعد العشاء، فذهبت إلى داره لوداعه على ما كان وقع من الجفاء بيننا قبل الإنذار الفرنسي الذي لا علاقة له بالمودة الشخصية، فوجدت في الدار أفرادًا من الشرطة بلغني أنهم حرس على أثاث الدار لئلا يؤخذ شيء منها، ومكثت معه نصف ساعة أعجبني فيها صبره وأمله، وكان ذلك في الساعة الحادية عشرة ليلاً، وقد خرج بعد وداعي له بنصف ساعة حمله قطار خاص بمن معه إلى درعا. *** يوسف بك العظمة ولا بد لي من كتابة كلمة في هذه الخلاصة التاريخية بشأن يوسف بك العظمة الذي كنت معجبًا بما أوتي من الذكاء والنظام والهمة والنشاط والوطنية وحسن السلوك منذ عرفته معتمدًا للحكومة العربية في بيروت إلى أن عين وزيرًا للحربية باقتراحي وسعيي مع بعض الإخوان، استبد يوسف بالعمل في وزارة الحربية وكان يكتم أعماله حتى عن رئيس الوزارة، بل يعمي الأمر إلا على الملك فيما أظن، ولما اشتدت الأزمة سألته هل هو مستعد للدفاع؟ قال: نعم، إذا وافق الملك، وإذا خالفناه نخشى أن يلجأ إلى الأجانب، ولما عين ياسين باشا الهاشمي قائدًا لموقع العاصمة عقب الإنذار وأظهر للوزارة ما فيها من النقص أي على خلاف ما كان يقول، ثم إنه وافق الوزارة على قرار التسليم بما طلب غورو، بعد هذا كله رأيته في بيت الملك مع الوزراء فكلمته وحده كلامًا شديدًا وذكرته ببعض كلامه فقال ووجهه ممتقع كوجه الميت: إنني مذنب وأتحمل تبعة عملي، وكدت البارحة أنتحر من الغم فلا تزد علي، ولما خرج إلى الدفاع بمن بقي معه من بقايا جيشه تزين ولبس ملابسه الرسمية ووطن نفسه على الموت، فكان شرفه الذي امتاز به أنه لم يقبل أن يعيش ذليلاً، بل أراد أن يكفر بدمه عن ذنب التقصير المبني على الثقة والغرور. كان فشل هذه المدافعة بخان ميسلون أمرًا جليًّا لا يجهله مثله ولا مثلي ممن لا يعلم من الحرب شيئًا، ولذلك رغب إلي الكثيرون أن أخطب في المتطوعين وفي بعض المساجد في الحث على الدفاع فامتنعت، كما أبيت مرارًا أن أخطب في الاحتفالات السياسية، وقلت لبعض الخواص: إنني لا أغش أحدًا ولا أستطيع أن أقول في هذا المقام ما أعتقد؛ لأنه يضر الآن ولا ينفع، وقد نصحت للعاملين في كل شيء في وقته فلم يفد، على أن ما اندفعت إليه الأمة من أمر الدفاع شريف ولا بد منه. *** خلاصة آراء فيصل والأمة وغورو وخلاصة الخلاصة أن فيصلاً كان يعتقد أن الوصاية على البلاد أمر مقضي، وأنه لا يمكن إيجاد قوة وطنية تحفظ الاستقلال، فكان لذلك يجتهد في إرضاء كل ذي مكانة وتأثير إلى أن يضع الحلفاء القرار الأخير الذي كان يرى أنه قادر على السعي إلى جعل وطأة الوصاية فيه خفيفة، ولذلك لم يهتم بأمر الاستعداد للدفاع بتنظيم قوى العشائر ولا بالجيش النظامي ولم يكن يعتقد أنه يهاجَم هذه المهاجمة، فلما هوجم لم يجد بدًّا من الخضوع، فهو لم يستعد للقتال ولو دفاعًا، وما اضطر إليه من إيجاد جيش دفاعي - جيش منظم - بادر إلى تسريحه عند الحاجة إليه، وقد أعلن الحرب في الوقت الذي كان يفاوض في أمر التسليم، وهو لا يزال يرى أن رأيه كان هو الصواب، وأن كل ما خالفه خطأ، وأنه أخطأ لعدم الاستبداد بتنفيذ ما كان يراه بالقوة، وقد صرح بخطته وعمله مرارًا في أوربة، وبلغنا أنه يريد أن ينشر فيه كتابًا رسميًّا. وأما زعماء الأمة الذين خالفوه، فقد بينا أنهم علموا بعد طول الاختبار أن الدولتين شرعتا في تنفيذ ما اتفقتا عليه من استعمار بلادهم، فالأولى أن تقاومهم الأمة بالحجة وبالدفاع عن نفسها إذا هاجموها بالقوة؛ ليكون مركزهم فيها مركز المغتصب وقبول الانتداب يجعله شرعيًّا. وأما الجنرال غورو فكانت سياسته إخراج الشريف فيصل من سورية مهما تكن حاله؛ لأنه ناصبهم وأغرى العصابات والعشائر بهم، وصار له نفوذ في البلاد يمكن أن يكون خطرًا عليهم في كل وقت، ولا سيما إذا اشتد الخلاف بينهم وبين إنكلترة التي يعُدُّونه من صنائعها المخلصين لها، فهو قد حارب الأمير فيصلاً القائد الحجازي الذي يعده أجنبيًّا عن سورية لإنقاذ سورية من نفوذ دولة الحجاز، ولو باسم الانتداب والوصاية الفرنسية، وعد ما أخذه من السلاح والذخائر الحربية غنيمة حربية، وكل ذلك بَيِّن ظاهر في الأقوال والمكتوبات الرسمية. *** الطور الأخير للمسألة العربية إن ما تفاقم على الدولة البريطانية من معضلات المشكلات المالية والسياسية والاستعمارية والاجتماعية، وإعيائها دون حل عقدها أو عقدة منها - قد اضطرها إلى ترك جزيرة العرب لأمرائها مع اصطناع ما أمكن اصطناعه منهم، والتمهيد للتدخل الاقتصادي والفني بالتدريج ثم الاستعانة بأوليائها - ملك الحجاز وأولاده - في سورية وفلسطين والعراق بعد الإعراض عنهم وعدم المبالاة بصراخ جريدة القبلة بمكة بالاستعطاف والاستعانة والتذكير بالعهود والوعود والنجابة والحسبات البريطانية، وعد حليفها الملك الخروج عن مرضاتها مساويًا للردة والخروج عن رحمة الله تعالى وتمثله في ندائها بقول الشاعر: فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي ... والغرض الأول من هذه السياسة والإدارة المؤقتة تخفيف النفقات عن كاهل دافعي الضرائب في بريطانية العظمى إلى أن تنحل عُقد المشكلات وتؤسس وسائل القوة في داخلية البلاد العربية بأقل ما يمكن من النفقة، والثاني دفع إغارة العرب من وراء الأردن على فلسطين ومساعدتهم لأهلها على اليهود الصهيونيين، والثالث إخضاع العراق والاستعانة بحكومته الجديدة على مقاومة الترك وحلفائهم من مسلمي الشرق وبولشفيك الروس إذا أصروا على تنفيذ فكرة الجامعة الإسلامية ومقاومة الاستعمار الإنكليزي في البلاد العربية والعجمية، وبلغنا أنهم أعادوا الراتب الشهري لملك الحجاز بعد دعوة ولده فيصل الأخيرة إلى لندن فجعلوه ١٨ ألف جنيه أو ٢٠. *** عمل وزير المستعمرات بمصر وفلسطين جاء مستر تشرشل وزير المستعمرات البريطانية مصر في شهر مارس الماضي، ونظر في مسألة حظائر الطيران فيها، وقابل فيها الوفد العراقي الإنكليزي الذي استحضر لأجل الاتفاق معه على أمور العراق المالية والعسكرية، ثم سافر إلى فلسطين فآذن أهلها بدوام السلطة الإنكليزية على البلاد، وتنفيذها لوعد بلفور بجعلها وطنًا قوميًّا لليهود، وقابل الشريف عبد الله بن الحسين ملك الحجاز، وجعله حاكمًا لشرق الأردن بالتبع لحكومة فلسطين واستمداد السلطة من معتمدها السامي، وأعطاه من القوة العسكرية والطيارات ما يمكنه من إخضاع كل من يشذ من عرب تلك البلاد عما يراد بها، وتأمين ما تنشئه السلطة البريطانية فيها من أسباب المواصلات ووسائل القوة، وأولهما محطة التلغراف اللاسلكي وحظيرة الطيارات، ويلي ذلك مد السكة الحديدية العسكرية من فلسطين إلى العراق، وقد قرروا إعطاءه حصة جمرك حيفا للداخلية وهي ١٣٠ ألف جنيه في السنة. *** تكريم وجيه عراقي لجعفر باشا العسكري كان في أعضاء الوفد العراقي جعفر باشا العسكري الذي كان أحد قواد الشريف فيصل في حرب فلسطين وسورية، وعهد إليه الإنكليز في العراق بتأسيس الجيش الوطني بعد أن ذهب إلى بغداد لأجل بث الدعوة لجعل الشريف فيصل ملكًا للعراق، وكان قد جاء مصر منذ أشهر شاب من وجهاء البصرة والمشايعين للإنكليز وهو (عبد القادر بك آل باش أعيان) وقد دعا هذا الوجيه طائفة من وجهاء مصر وسورية والعراق إلى حفلة شاي في فندق شبرد تكريمًا لجعفر باشا في ١٨ مارس ولما جاءتني رقمة الدعوة خطر لي أنه ربما كان لها معنى سياسي، ولما جئنا للفندق دعينا إلى حديقته لأجل تصويرنا مع المحتفل به مجتمعين، فأبيت ذلك مع أفراد آخرين، وبعد شرب الشاي استنشد شاعر العرب الشيخ عبد المحسن الكاظمي فارتجل قصيدة تناسب المقام، وأثنى عليه أسعد أفندي داغر الشاعر السوري المصري بأبيات مرتجلة في المجلس، ثم دعي الدكتور فارس أفندي نمر أحد أصحاب المقطم إلى الخطابة فأجاب. خطاب الدكتور نمر في المسألة العربية بدأ الخطاب بالثناء على الدولة البريطانية والشهادة لها بالرغبة في ترقية الشعوب وتحريرها والإخلاص للعرب فيما وضعوه من بدعة الانتداب، قال: ولكنني على هذا الاعتقاد فيهم قد انتقدت عليهم تقسيم سورية واستأت منه ورأيته ضارًّا بالسوريين مفرقًا لهم، ولم أكتم ذلك عنهم، بل عاتبت عليه واضع أساسه السير مارك سايكس المحب المخلص للعرب، وكلَّمته بذلك في هذا الفندق الذي نحن فيه، فأجابني قائلاً: إننا فعلنا هذا لمصلحة العرب أيضًا؛ لأنهم إذا ظلمهم أحد الفريقين وشدد عليهم الوطأة احتجوا عليه بلين الفريق الآخر وحسن إدارته وعدله! ! ثم ذكر مسألة مصر والعراق وعزم الإنكليز على منحهما الاستقلال، وما يجب من نبذ كل خلاف في هذه السبيل، والإجماع على تأييد الحكومتين اللتين تؤسسان في القطرين؛ لأنهما تجربة إذا فشلت قضي على الأمة العربية والشرق كله بأنه غير أهل للاستقلال بنفسه، ثم ختم الخطاب بقوله: إنه يعتقد أن جميع الحاضرين على رأيه، فصفق له بعض الحاضرين، وتعقبته بالرد عليه. *** خطبة الكاتب في المسألة افتتحت خطابي بقولي: إنني متطفل بالخطابة لم أُدعَ إليها، ثم قلت: إنه كان الظاهر من هذه الدعوة أنها شخصية يريد بها المحتفل تكريم صديق له، لا سياسية كما ظهر من خطاب الدكتور نمر. ولو أن الخطيب بَيَّن رأيه في الموضوع الذي تكلم فيه ولم يحاول حمل الحاضرين على إقراره عليه، وطلب الموافقة عليه بالإجماع - لكُنا في سعة من السكوت، ولكنه قال: إنه يظن أن الجميع على رأيه، وقد صفق له أفراد وسكت الباقون، فيمكن أن يقال: إن السكوت رضا وإقرار، والإجماع السكوتي مختلف فيه عند علماء الأصول، بعضهم يقول: إنه حجة بشرطه، والآخرون يقولون: إنه ليس بحجة. وقد سبق لحضرة الدكتور خطاب في اجتماع مثل هذا طلب فيه الموافقة على ما قاله في اتفاق سنة ١٩١٦ على إثر إعلان الحلفاء له، وهو مطالبتهم بطرد الترك من بلادنا وتفويض أمرها إليهم، وتحسين الظن بهم، فاضطررت إلى معارضته وقتئذ كما اضطررت الآن، وحال ذلك دون موافقة ذلك الحفل على ما اقترحه. ويظهر الآن أنه لا يزال على رأيه الأول بعد أن مزق الحلفاء شمل سورية، وجعلوها بضعة ممالك أو دول دينية، فأوقد ذلك فيها نيران الثورات والفتن بحيث لم يفعلوا بشيء من بلاد أعدائهم مثل هذا التمزيق والتنكيل في بلاد أصدقائهم! وأغرب ما جاء في خطابه الآن ما نقله عن السير مارك سايكس الذي شهد له بالإخلاص في حب العرب مع العلم بأنه هو واضع معاهدة اتفاق سنة ١٩١٦ على اقتسام بلادهم واستعبادها، وهو أن هذه القسمة التي قال الخطيب: إنه كان قد استاء منها، لم يبعثهم عليها إلا شدة حب العرب ومراعاة مصالحهم بما تكون قسمة بلادهم بين سيدين مالكين وسيلة إلى احتجاجهم على من أساء منهما وظلم، بفعل من أحسن ورحم، ولكن ماذا يعملون إذا اتفق الفريقان على الإساءة والظلم؟ وها نحن أولاء نرى وطأة بريطانية العظمى في القسم الجنوبي من سورية أشد من وطأة فرنسة في القسم الشمالي منها خلافًا للمعهود والمشهور في الاستعمار الذي يشهد فيلسوف فرنسة الاجتماعي غوستاف لوبون بتفضيل المنهج البريطاني فيه على المنهج الفرنسي كما بينه في كتابه روح السياسة أو فلسفة السياسة، ذلك بأن بريطانية زادت على ما شاركت فيه فرنسة من الاستئثار بإدارة البلاد أن جعلتها وطنًا قوميًّا لغرباء اليهود الصهيونيين، وقررت تمليكهم رقبة أرض البلاد بإعطائهم الأراضي الأميرية فيها، التي هي ملك بيت مال المسلمين، وأملاك السلطان عبد الحميد التي اغتصبها من الأهالي، وتريد أن تجعلهم أكثر أهل البلاد بالتدريج حتى تخرج عن كونها عربية، وقد بُحَّت أصوات أهل البلاد من إقامة الحجج والبراهين، فلم تغنِ عنهم شيئًا، وقد سبق لي في سنة ١٩١٥ جدال عنيف مع السير مارك سايكس في هذا الفندق علمت منه ما يُسرون لبلادنا. وأما مشروع تأسيس حكومة وطنية في العراق تابعة لوزارة المستعمرات الإنكليزية فهو لا يغر أحدًا من العرب؛ لأنهم يطلبون الاستقلال لا الاستعمار الأجنبي، وغرض الدولة البريطانية منه معروف صرح به ناظر المستعمرات، وهو استعمار البلاد بأقل ما يمكن من النفقة لإسكات دافعي الضرائب عن المعارضة للحكومة فيه. قرن الخطيب مشروع حكومة العراق بمشروع استقلال مصر الذي يطلبه الوفد المصري، وأين هو منه؟ إن المصريين يطلبون أن تكون بلادهم دولة مستقلة في داخليتها وخارجيتها ذات مجلس نيابي منتخب وحكومة مسئولة لديه، وسفراء وقناصل في الممالك الأجنبية، وأن يُعقد بينها وبين إنكلترة اتفاق أو محالفة تحفظ هذه بها مصالحها، وتكون ممتازة بها على غيرها من الدول، فإذا كانت إنكلترة تسمح بمثل هذا في العراق يكون اقتراحه وجيهًا جديرًا بأن يقبل بالتحفظ الواجب. (ثم بينت أن الأمة العربية قد عرفت الحقائق فلا تنخدع بخلابة الألفاظ ولا يعوزها إلا جمع الكلمة، واتحاد كاتحاد الشعب المصري بين أبناء الملل والمذاهب وإلا أضاعت نفسها) . قلت: وإني أذكر في هذا المقام حديثًا لي مع مدير المخابرات البريطانية بدمشق، إذ كان تفضل بدعوتي إلى شرب الشاي عنده فجئته مع بديع أفندي الحوراني - ولعله معنا هنا - ودار حديث بيننا على المائدة في المسألة المصرية، ثم في المسألة السورية قال: أترى أن سورية تستغني عن مساعدة أجنبية؟ قلت: لعلكم تظنون أن مثلي يستحي أن يدعي أن بلاده وصلت في الارتقاء والعمران إلى الدرجة التي تجرئه على القول بأنها تستغني عن مساعدة، فلا مندوحة له عن الاعتراف بحاجتها إلى ذلك، فتقوم عليه حجتكم بوجوب الوصاية عليها، أنا أقول: إن الأمم والشعوب كالأفراد لا يستغني بعضها عن مساعدة بعض، فهذه بريطانية العظمى التي وصلت إلى ما يعلم كل الناس من الحضارة وسعة الملك وحسن الإدارة والنظام قد اعترف ملكها السابق السياسي العظيم (إدورد) بأنها محتاجة إلى مساعدة رجال من الألمان على تنظيمها، روت ذلك مجلة بريطانية عن أميرة إنكليزية هي (الكونتس ورك) قالت: إنه شرب الشاي عندها قبل وفاته بثلاثة أشهر، فذكرت له في تحاورها معه بغضه لابن أخته (غليون) عاهل الألمان، فنفى ذلك وذكر لها إعجابه بما وصلت إليه الإدارة الألمانية من الارتقاء وتمنى لو أن معه رجالاً منهم يتولون إدارة بلاده، قال: ولكنهم إذا جاءوا لا يخرجون، وقد ترجمت هذه المقالة بالعربية ونشرت في مجلة المقتطف المصرية [٥] فإذا كان ملككم يقول بأنكم محتاجون إلى مساعدة أمة أخرى، فهل أقول أنا إننا لا نحتاج إلى مساعدة غيرنا ممن نعترف بأنهم أعلم منا وأرقى نظامًا، لا، وإنما أقول: إن المسألة مسألة طمع لا مساعدة، إنكم تطمعون في استعمار بلادنا والسيادة عليها وتسمون ذلك مساعدة، لإقامة الحجة وتهوين الخطب علينا، إن المساعدة بمعناها اللغوي المعروف من أعمال الخير والبر التي لا مشاحة فيها ولا تنازع ولا خصام، فإذا ساعدت فقيرًا على معيشته بإعطائه جنيهًا فلا أقاوم ولا أخاصم من يعطيه جنيهًا أو عشر جنيهات. فما بالكم تختصمون وتتنازعون في قسمة البلاد التي تدعون الرغبة في مساعدتها؟ ثم إن الإقناع بقبول المساعدة الحقيقية لا يكون بقوة السلاح، فما بالكم تحتلون البلاد بالجيوش المسلمة بجميع أنواع الأسلحة وتفتكون بمن لا يخضع لكم من شعوبها؟ ثم سألته بشرفه واستقلاله السكسوني: أي المنطقتين خير في حفظ الأمن العام والحرية الشخصية وعدم التعصبات الدينية والمذهبية؟ آلمنطقة الشرقية التي يتولى إدارتها العرب الذين بَعُد عهدهم بالإدارة أم المنطقة الغربية التي يتولاها الفرنسيس؟ فاعترف بتفضيل المنطقة الشرقية في ذلك، فقلت: إذًا يكونوا هم أحوج إلى مساعدتنا منا إلى مساعدتهم فضحك وضحكنا. وقد كنت أحب أن أطيل القول في هذا الخطاب بما أشرت إليه من وجوب الاتحاد والتعاون بين الطوائف، والتنويه باتحاد الشعب المصري الذي ضربته مثلاً حاليًا للشعب السوري، وبما ينقصنا من وحدة الزعامة، ولكن خشيت ملل الحاضرين الذين فوجئوا من السياسة بما لم يكن ينتظره أكثرهم، ورأيت أن أترك وقتًا لغيري، فاكتفيت بالإشارة. وقد قام بعدي سيد أفندي كامل الخطيب، الكاتب المصري المشهور، فألقى خطابًا بليغًا جاء فيه بالكثير الناقع للغلة مما كنت أحب الكلام فيه من وجوب التعاون والولاء بين الشعب المصري الممتاز بخصائصه الكثيرة وبين سائر الشعوب العربية، وتوسع أيضًا في السياسة الإنكليزية وما لها من المصلحة والمنفعة في إجابة الشعب المصري والأمة العربية إلى الاعتراف لها بحقها في الاستقلال التام، فكان لخطابه تأثير حسن عام. وتلاه جندي بك إبراهيم صاحب الوطن، فتكلم في المسألة الأولى وأجاد. وبعد أن ختم صاحب الدعوة الاحتفال بالشكر المعتاد، وشرع الحفل المجتمع في الانصراف، وقف الدكتور عبد الرحمن شاهبندر على كرسي واستوقف الناس لسماع كلمة منه، فوقفوا وبدأ كلمته بأن السيد رشيد رضا يغلب عليه التشاؤم وهو يحب ترجيح التفاؤل، ثم أثنى على المصريين ومصر ملجأ الأحرار بما يرجى أن يزيد الولاء بينهم وبين إخوانهم السوريين فأجاد. وإنني أعترف بصدق كلمة صديقي الدكتور شاهبندر، وإن كنت أنكرت في نفسي ذكرها في ذلك الموقف وأقول إنني كنت منذ اشتغلت بالسياسة غيدارًا في السياسة الأوربية والمطامع الاستعمارية (الغيدار هو الذي يسيء الظن فيصيب) يغلب علي التشاؤم من مساعيهم ولم أر فيها مجالاً للتفاؤل وحسن الظن كما شرحته في هذا المقال، وإنني لم أختلف مع صديقي الدكتور شاهبندر في مسألة من المسائل التي كنت فيها متشائمًا وكان متفائلاً، إلا وظهر أنني كنت المصيب، فليتذكر أول الخلاف في إثر قدومه من العراق إلى مصر وأوسطه وآخره في دعوته إياي مع آخرين إلى إمضاء تقريره المعهود وفي موقفنا في هذا الاحتفال. *** ختم المقال بالتفاؤل بالمآل وأختم هذا المقال بقولي: إنني مؤمن يرى اليأس من روح الله والقنوط من رحمته كفرًا، وإنني لا يمنعني التشاؤم وسوء الظن في الطامعين من عمل ولا سعي، فأنا لا أزال أرجو إقناع الدولتين المقتسمتين لبلادنا الهاضمتين لحقوقنا بأن الخير لهما وللمدنية والإنسانية أن يتركونا أحرارًا في بلادنا، حاكمين في شعوبنا، وأن يساعدونا على ما نريد من عمران بلادنا بما نطلب المساعدة عليه ويكتفوا منا بالمنافع الاقتصادية والأدبية. ومن سوء الحظ أن كان السعي السابق مع غلاة المستعمرين منهم، وأرجو أن أوفق للسعي مع أحرار المنصفين منهم، وهم ولله الحمد كثيرون. وأود لو يعلم هؤلاء الأحرار حقيقة أمور الشرق من أحرار أهله ولا يكتفوا ببلاغات السياسة الاستعمارية وما يختزله أهلها من أقوال مديري المخابرات لهم. أود لو يعلم أحرار فرنسة الكرام أن ملك الحجاز وأولاده لا يمثلون الأمة العربية، بل السواد الأعظم من العرب ومن مسلمي الأعاجم غير راضين عنهم وأنه ليس من مصلحة فرنسة معاداة هذه الأمة في هذا البيت منها، ولا بجعلها خصمًا للترك، وأنه لا يمكن أن تنال دولتهم عطف العالم الإسلامي مع مقاومتها للعرب وأود لو يعلم أحرار إنكلترة ومنصفوها المستقلون ذلك فلا يغتروا باستخدام مستعمريهم لأهل هذا البيت، ويظنون أنهم هم الذين يُخضِعون لهم هذه الأمة ويرضونها باستعمار بريطانية لبلادهم على أن الأيام ستعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. وأود لو تعلم الشعوب العربية أن الانتداب الذي فهموا معناه لم يصر أمرًا مقضيًّا، وأن عصبة الأمم لن تكون ألعوبة بيد المستعمرين، وأن الرجاء في استقلالهم واستقلال أمثالهم وبناء قواعد الصلة بين الشرق والغرب على أساس العدل وتبادل المنافع من غير سيطرة ولا سيادة للمستعمرين على المستضعفين - رجاء قوي يزيده العلم به والسعي إليه قوة، ولا بقاء للعمران بدونه: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: ١٧) . وأود لو يعلم سادة الأمة العربية وكبراؤها أنهم لو جمعوا كلمتهم في هذه الفرصة لأسسوا لأنفسهم وحدة حلفية يحفظ بها استقلال كل منهم ويعود به مجد الأمة العربية وتحيا حضارتها الشريفة التي فاقت حضارة جميع الأمم بجمعها بين الرفاهة المقصودة من الحضارة وبين الفضيلة، ولكنهم أجابوا داعي شيطان التفريق وتغريره لهم بالمال والمآل: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (النساء: ١٢٠) . ولم يجيبوا داعي الوحدة وهو داعي الله تعالى الذي يدعوهم بسم الله تعالى لما يحييهم، فهذا وقت الوحدة الداخلية أمام الدواهي الخارجية، لا وقت فض مشكلات حدود البلاد ولا تحكيم العصبية الدينية والمذهبية، وليعتبروا بإخوانهم الترك، الذين قضت عليهم معاهدات الحرب بالزوال والمحق، كيف تحولت حالهم بجمع الكلمة والدفاع عن البيضة إلى أن صار الحلفاء القاهرون لهم ولأحلافهم الذين كانوا أقوى وأعز منهم يعدونهم خطرًا عليهم، ويتسابقون إلى الاتفاق معهم أو التزلف إليهم، ولكن الترك قد وجدوا فيهم الزعيم الذي جدد لهم الفخار، ولم يوجد في العرب إلا الزعيم الذي سجل عليهم الخزي والعار، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: ٢) . ((يتبع بمقال تالٍ))