نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم لصاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية سابقًا [*]
وفي صفحة ١٦: (وكان أبو موسى الأشعري يتجافى عن أكل الدجاج؛ لأنه لم يعهدها للعرب لقلتها يومئذ) إلخ، نقول: وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يتجافى عن أكل المباح الذي لم يتعوده كما في قصة الضب إلخ. ففي الموطأ عن خالد بن الوليد أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فأتي بضب محنوذ , فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل منه. فقيل هو ضب يا رسول الله. فرفع يده , فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: لا ولكنه لم يكن بأرض قومي , فأجدني أعافه. قال خالد: فاجتررته , فأكلته , ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر.. اهـ. فانظر إلى هذه الوطنية [١] الصادقة حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (لم يكن بأرض قومي) , وإلى امتناع أبي موسى الأشعري عن أكل الدجاج؛ لأنه لم يعهدها للعرب.. إلخ. ومن الغريب أن يتجافى الرسول وأصحابه عن أكل طعام مباح؛ لعدم اعتياد فقط , بينما ترى كثيرًا من المسلمين وبعض فقهائهم وزعمائهم يتساقطون على قصاع الخنزير ومأكولات الإفرنج، ويتغالون في شراء علب المربيات والسمك والضفادع والحشرات رغمًا عما يرد يوميًّا في الكتب والمجلات الطبية من النهي عن أكلها , والتحذير من قربانها؛ لتعفنها من جهة , ولغشها بخلطها بمواد أخرى الله أعلم من أين يؤتى بها. وفي صفحة ١٦ فانظر تجد أن النكبة إنما جاءت على المسلمين من مخالفتها ما تقتضيه الخلافة إلخ، نقول: وعليه , فيجب على جميع العلماء في العالم الإسلامي السعي العظيم لإرجاع الخلافة , وبذل أعظم المجهودات؛ لجمع مؤتمر الخلافة ثانيًا , وتنظيمه لانتخاب الخليفة ومحاربة الملك الطبيعي أين وجد. وفي صفحة ٤٨: (وحكم مثل هذا الإجماع أن يكون المجمع عليه عقيدة , ويكون منكره كافرًا [٢] ) إلخ، نقول: إن ذلك صار عقيدةً راسخةً عند المسلمين اهتم العلماء بها , وبحثوها في مؤلفاتهم الدينية في الحديث والأصول والكلام , وأودعوها حتى في التآليف التعليمية والأراجيز الابتدائية التي تؤلف للمبتدئين قديمًا وحديثًًا؛ لتنشئتهم على العلم بأنها من المعتقدات الدينية , قال في الجوهرة: وواجب نصب إمام عدل ... بالشرع فاعلم لا بحكم العقل فإلى متى يعتذر عن هذا الأصم المتخرج من الأزهر الذي يحارب الدين بالبهتان والسفسطة , {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ} (الأنفال: ٢٢) . وفي صفحة ٦٥: (وإن لم يكن إلا ما كان في القرآن من سياسة , وإلا ما في كتب الفقه من سياسة , وتقسيمه الأحكام إلى مغلظة وغير مغلظة إلخ) , نزيد على ذلك أن كتب الحديث الستة , والموطأ قد استقصت أكثر الأحكام السياسية الشرعية المدنية والجنائية، ففي صحيح البخاري ما يناهز ٤٠٠٠ ترجمة بعضها في العبادات: الإيمان والتوحيد والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، وأكثرها في الأحكام السياسية الشرعية المدنية والجنائية. ففي كتاب العلم نحو ٥٥ ترجمة، وفي كتاب الزكاة نحو ٨٠ ترجمة، وفي كتاب البيوع وما شاكلها كالصرف والمرابحة والسلم والشفعة والإجارة وأجور العملة، والسماسرة، وأهل الحرف اليدوية وشبهها، والكراء، والجعل الحوالات نحو ١٧٠ ترجمة. وفي المعاملات وما ألحق بها كالوكالة , والشركة , والمزارعة , والمساقاة، والقرض , والقراض، وأداء الديون، والحجر , والتفليس، والخصومات، والصلح، والإصلاح، والرهن، والضمان، والإقرار، والاستحقاق، والوديعة، والعارية , والغصب، والاستحقاق، والمظالم , والكتابة، والعتق , والهبة، والشهادات، والشروط؛ أي: التوثيق نحو ٣٩٠ ترجمة، وفي كتاب الوصايا والأوقاف نحو ٤٠ ترجمة، وفي كتاب النكاح والطلاق والنفقات نحو ١٩٥ ترجمة، وفي كتاب الأطعمة والأشربة والذبائح والصيد نحو ١٣٠ ترجمة، وفي كتاب المرضى والطب نحو ٨٠ ترجمة، وفي كتاب اللباس نحو ١٠٠ ترجمة، وفي كتاب الآداب العامة كصلة الرحم , والاستئذان، وآداب الزيارة , والضيافة، والصحبة , والمعاشرة، وحفظ السر , وإفشاء السلام، والتواد , والإيثار على النفس، والتواصي بالصبر والمرحمة نحو ١٨٠ ترجمة، وفي كتاب الجهاد وأحكامه نحو ٢٤٠ ترجمة، وفي كتاب النكاح.. إلخ , وفي كتاب الحدود والديات والعفو عنها نحو ٩٥ ترجمة، وفي كتاب الحيل والخداع في البيوع والمعاملات نحو ١٥ ترجمة، وفي كتاب الأحكام والخلافة والاستخلاف نحو ٥٥ ترجمة. *** هذه نبذة مما اشتمل عليه صحيح البخاري رحمه الله وقد اشتمل كتاب الموطأ على أزيد من ٦٠٠ ترجمة. وصحيح مسلم على أزيد من ١٠٠٠ ترجمة. وسنن الترمذي على ما يناهز ٢٠٠٠ ترجمة. وسنن أبي داود علي ما يناهز ٢٠٠ ترجمة. وسنن النسائي على ما يناهز ١٠٠٠ ترجمة. وسنن ابن ماجه على زهاء ٢٠٠ ترجمة. هذه أمهات كتب الحديث الصحيحة المعترف بها المسلمة عند جميع أهل السنة، أما غيرها من كتب الحديث , فلا تحصى، وكذلك كتب الأصول , ومدونات الفقه لا حصر لها، فهل مع هذا يتمادى الملحدون , وأذنابهم على إصرارهم وقولهم: إن حظ العلوم السياسية عند المسلمين كان سيئًا، وإن وجودها بينهم كان أضعف وجودًا، وإنهم لم يجدوا للمسلمين مؤلفًا في السياسة، ولا يعرفون لهم بحثًا في شيء من أنظمة الحكم. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وإذا لم يتفق للمأجور علي عبد الرازق هو وأربابه الملحدون أن يطالعوا مؤلفات الإسلام وأمهات الدين، أفلم يقف على كتاب كشف الظنون , وفهارس دار الكتب السلطانية , وخزائن الأزهر وغيره، والخزانتين التيمورية والزكية، وإذا كان لم ير شيئًا من ذلك، فكيف ساغ له أن يهاجم حصون الإسلام المنيعة , وهو خاوي الوفاض من كل شيء إلا سلاح الإلحاد والقحة {أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (النحل: ٥٩) . وفي صفحة ١٠٠: (والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد؛ إنما هو مراعاة المصلحة إلخ) , نقول: هذا الرأي هو الرأي السديد الذي أنتجته قرائح المفكرين من جهابذة العلماء؛ فيتحتم قبوله , واعتقاده [٣] ، وأما ما في بعض كتب التاريخ والأدب من أن معاوية أغرى بعض قادة الأمة , ورؤساءها بأن يسألوه في المجلس العمومي أن يوصي بولاية العهد إلى ابنه يزيد كما يقع اليوم بين رؤساء الوزارات , وبين أقطاب الأحزاب في أوربا وأميركا في المسائل الهامة كالانتخابات وإبرام المعاهدات , أو نقضها , فذلك كله من الروايات المدخولة، وآتٍ فقط من خصوم معاوية غير النزيهين , ومن أعداء الأمويين كذلك , فلا يوثق بها أصلاً. فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه , وكان من الفراسة بمكان لا يلحق، وكان يعلم من حال معاوية أكثر مما يعرفه غيره، فلو كان يظن به الهوادة في أدنى شيء لما ولاه أعظم قطر وهو الشام بعد موت أخيه يزيد , وقد تركه في منصبه بقية حياته - أي: حياة عمر - التي تزيد على أربع سنين. وناهيك بشدة عمر على عماله , وما كان يعاملهم به من المراقبة الشديدة , ومحاسبتهم على النقير , والقطمير , وكثرة عزلهم من وظائفهم لأقل سبب، وقد ولَّى معاوية مع وجود أساطين الصحابة السابقين للإسلام , والمهاجرين من أجله , أفلا يكون ذلك منه أعظم تزكية لمعاوية؟ وأعظم شهادة له على حسن سيرته [٤] . وفي الاستيعاب عن عبد الله بن عمر قال: (ما رأيت أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية) , فقيل له: فأبو بكر , وعمر , وعثمان , وعلي؟ فقال: (كانوا والله خيرًا من معاوية , وكان أسود منهم) . وفي صفحة ١١٤: (وإن عصر النبي لم يخل أصلاً من مخايل الملك إلخ) , نقول: إن المخايل التي عناها الشيخ بخيت , وسطرها لم يخل منها عصر النبوة , نعم إنه خلا من المخايل التي يريدها أهل الغطرسة من بناء القصور الشامخة , واشتمالها على الفرش الوثيرة، والرياش الثمين، والأواني الفضية المزخرفة التي يظنها صغار الأحلام هي عنوان الملك. وقد خلا عصر النبوة أيضًا من كثرة الخدم , والحجاب، والأعوان الظلمة بالباب , وحيلولتهم بين الراعي , والرعية، ومنعهم للمتظلمين من رفع ظلاماتهم للملك , وخلا أيضًا من اشتغالهم بسفاسف الأمور , ومصاريف دار الملك التي تأخذ أكبر قسط من الميزانية على عاتق الرعية، ومن اشتغالهم بغصب أرزاق الناس من اللحوم , والفواكه , وأطيب الأطعمة بلا ود , ولا حساب. خلا أيضًا من الشرطة حملة الرماح , والسيوف , والبنادق أمام الملك؛ لإرهاب الرعية , وتعوديها على الذلة , والمسكنة أمام الولاة الجائرين مما لم يعهد في عصره صلى الله عليه وسلم , وعصر الخلفاء الراشدين , فذلك وما أشبهه من المخايل الكسروية التي جاء عليه السلام لمحاربتها , والقضاء عليها قد خلا منه عصر النبي صلى الله عليه وسلم , وطهره الله من أرجاسه , وهناته , وقد صدق الشيخ علي عبد الرازق في هذه فقط , وقد يصدق الكذوب. *** (الملاحدة بين أمرين) فظهر مما تقدم أن الملاحدة واقعون بين أمرين: (أحدهما) أن يكونوا عارفين حقيقة الإسلام , وما أتى به من المنافع الدنيوية والأخروية , وأنه صالح لكل زمان ومكان , وأنه دين الفطرة الذي تنشده الإنسانية , وتصبو إليه. إلا أن ما جاء به من بعض التكاليف الخفيفة التي تربي الناس على الثبات والشجاعة , وما أوجبه من ترك المنكرات التي تخدش وجه الهيئة الاجتماعية قد ثقل حمله على عاتقهم , وجبنوا عن معاناته؛ فحملهم ذلك على الانسلاخ منه , والانحلال، والفرار من أداء الواجبات القليلة في مقابلة ما منحهم من الحقوق العامة، والحرية الطاهرة النظيفة. فالتكاليف الخفيفة مثل الطهارة التي لا يغيب عن أحد ما لها من المزايا العظيمة , وأهمها المحافظة على الصحة التي هي رأس مال الحياة. (٢) ومثل الصلاة التي أخبر سبحانه أنها شاقة على الملاحدة المبعدين , فقال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ} (البقرة: ٤٥) الآية، ولو لم يكن فيها إلا تعويد الناس على الثبات , وضبط الوقت , واطّراح الكسل الذي هو علة الفشل لكفى. (٣) ومثل الصوم الذي فيه تعويد الناس على الصبر , وتذكيرهم بما يكابده الفقراء من آلام الجوع عند اشتداد الأزمات , خصوصًا عند انحباس الأمطار , وفي أوقات البرد الشديد التي يحتاج الناس فيها للأكل أكثر من أيام الحر , فجوع الصائم يحمله على رحمة الضعفاء , وإعانتهم على مكاره الحياة , ويفتح قلبه لولوج نسمات الرحمة , والرأفة بالمحتاجين. (٤) أما الزكاة , فقد حسدنا عليها عقلاء الأورباويين , وفلاسفتهم حتى قال لي أحدهم: لو كانت مشروعة عندهم؛ لما سمعت بالاشتراكية , والشيوعية أبدًا , ولما وقعوا في مصائب الاعتصابات المتوالية. (٥) وأما الحج , ففوائده بارزة تكاد تلمس باليد , فالأسفار عند الإفرنجيين لا تنقطع صيفًا وشتاءً , وهي التي أكسبتهم ما هم فيه من الرخاء , وبسطة العيش زيادة على ما يكتسبه المسافر من الأرباح إن كان تاجرًا , والعلوم إن كان مفكرًا وباحثًا , وزيادة على ما ينعم به من الصحة التامة , والنزهة البهجة. هذه بعض فوائد التكاليف الإسلامية التي عمي الملحدون عن إدراكها , وعجزوا عن احتمالها؛ لضعفهم وجبنهم , وقد عد الغزالي كثيرًا من أسرارها في كتابه: الإحياء. ((يتبع بمقال تالٍ))