الاجتهاد والوحدة الإسلامية علمنا من آخر المحاورة السابعة أن الشيخ المقلد ذهب قبل إتمام الحديث لموعد كان بينه وبين آخر، وقال إنه يعود في الغد؛ ولكنه أبطأ وجاء بعد أيام يصحبه شيخ آخر فاعتذر عن الإبطاء وقال: المقلد: إن هذا الأستاذ - وذكر اسمه - صديقي منذ أيام المجاورة في الأزهر وهو قاضي بلدنا الشرعي الآن، ولما جئت البلد في فرصة العيد ذكرت له ما دار بيننا، فتمنى لو كان في القاهرة وشاركنا في المناظرة والبحث، وقد حضر في هذه الأيام بإجازة، فجئت به عالمًا أن سَتُسَرُّ بمعرفته، ولا أقصد أن يساعدني عليك لاحتمال أن يوافقك؛ فإنه حرّ في فكره ورأيته موافقًا لك في بعض ما نقلته له عنك في مباحث الجمل والاستدلال بالحروف والإشارات. المصلح: أهلاً وسهلا لقد شرفنا الأستاذ - وصافحه ثانيًا - وإنني أحب أن يساعدنا في هذه المذاكرة على تحقيق الحق الذي هو ضالتنا المنشودة، وليس لأحد منا حظ دنيوي في رأيه يخاف فواته إذا ظهر له بطلان الرأي، على أن المجتهد الذي يتبع الدليل أينما ظهر ويأخذ الحكمة حيث وجدها لا يزداد بالمباحثة ومراجعة المراجعين إلا نورًا على نور، وأما المقلد الذي يجني دائمًا على نور الفطرة الإلهية التي من مقتضاها النظر والفكر والاستدلال ويحاول إطفاءه بما يلقيه عليه من رماد التقليد تعظيمًا لأسماء من ينسب إليهم ذلك الرماد، فهو الذي يخاف المناظرين وَيَفْرَقُ من المباحثين؛ لأنهم يمدون نور الفطرة بنور البرهان، فتتضاعف الأنوار حتى يعشيه تألقها ويكاد يخطف بصره شعاعها، ويرى نفسه في عجز عن إطفائها، وتتولاه الحيرة وتحيط به الغمة، وكيف حال من فقد السكينة والاطمئنان وجعل خصمه السنة والقرآن. المقلد: دعنا من التعريض والتلويح، بل من هذا التشنيع الصريح، فها أنا ذا أناظرك بالدليل، لا بالقال والقيل، قررت أن الواجب على المسلمين بالنسبة للأحكام العملية هو الأخذ بما أجمع عليه أهل الإسلام، وأنهم على التخيير فما اختلف فيه يعمل كل أحد بما يرجح عنده ... إلخ، فما تقول فيمن عرض له شيء من ذلك وهو عامي لا يعرف الأقوال فيتخير فيها، ألا يجب عليه أن يسأل العلماء ويأخذ بأقوالهم؟ سكتَّ عن هذه المسألة؛ لأنها حجة عليك في جواز التقليد. المصلح: يمكن لهذا العامي أن يتبع سبيل عامة أهل الصدر الأول، فقد كان من تعرض له مسألة لا يعرف حكم الله فيها يسأل من يظن أن عنده فيها شيئًا من كتاب أو سنة، لا أنه يسأله عن رأيه الشخصي ويأخذ به من غير معرفة دليله فيكون مقلدًا، ومثل هذا السؤال كان يقع من الخاصة أيضًا والمسئول فيه راوٍ، أو منبه على مأخذ الحكم ووجه استنباطه، ولو كان كل سائل مقلدًا، وكل مسئول إمامًا متبعًا لذاته لكان كل مجتهد مقلدًا، وكثير من الجاهلين أئمة ولا يقول بهذا أحد. الزائر أو المقلد الثاني أو المناظر الثالث: على هذا يكون استدلال الأصوليين بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: ٤٣) على وجوب التقليد على العاجز عن الاجتهاد غير سديد. المصلح: لا شك أنه استدلال عقيم لوجوه، منها أن السبب الخاص الذي نزلت فيه الآية الكريمة لا يصح فيه التقليد، فتكون أمرًا به وإنما هي إزالة شبهة بالتنبيه إلى أمر مقرر عندهم، وذلك أن مشركي العرب كانوا يقولون ما قص الله عنهم بقوله: {إِنَّمَا أُنزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} (الأنعام: ١٥٦) وقوله:] لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [ أي لأننا أزكى فطرة، وأذكى فهمًا، وأقوى عزيمة، فلما نزل عليهم الكتاب كان من شبههم على من نزل عليه صلى الله عليه وسلم أنه بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وأنه رجل مثلهم والآيات الحاكية هذا عنهم معروفة، فأجابهم عن هذه الشبهة بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (الأنبياء: ٧) يأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب هل كان الأنبياء ملائكة أم رجالاً من البشر، وكون الأنبياء رجالاً أمر مجمع عليه عند أهل الكتاب، ومنقول بالتواتر حتى عند غيرهم، فالسؤال عنه ليس أخذًا برأي من غير دليل فيكون تقليدًا، ومنها: أن هذه المسألة اعتقادية لا عملية، وأنتم لا تقولون بوجوب التقليد في أصول الإيمان؛ لأن المقلد لا يكون موقنًا ومن لا يقين له لا إيمان له؛ لأن الظن لا يغني من الحق شيئًا في هذا المقام، ولو كان الآخذ بقول غيره في عقائد دينه وأصوله معذورًا عند الله تعالى لكان جميع أهل الأديان معذورين وناجين، ولما وجب النظر في دعوة نبي من الأنبياء إلا على المجتهدين، فإذا ظهر النبي في طور لجأت فيه الأمة كلها إلى التقليد كما تحكمون أنتم وفقهاؤكم على هذه الأمة الإسلامية، تكون الأمة كلها معذورة عند الله تعالى في رفض دعوته وعدم النظر فيها وهل يقول بهذا إلا مجنون. المقلد: إنني سلَّمت لك من قبل أن التقليد في العقائد غير جائز. المصلح: وأنا بينت لك أن فهم الأحكام أسهل من فهم العقائد. الثالث: إن فرقًا بين المقلد في الكفر، وبين المقلد في الحق، فالثاني يعذره الله تعالى؛ لأنه وافق الحق دون الأول. المصلح: إن الله تعالى هو الحكم العدل القائم بالقسط، فإذا أمر بمقلدي الوثنيين مثلاً إلى النار، وبمقلدي المسلمين إلى الجنة، وسأل الوثنيون مساواتهم بأمثالهم من مقلدي المسلمين؛ لأن كلاًّ منهم غير مكلف بالنظر لمعرفة الحق، ألا يكون طلبهم هذا عادلاً يتنزه الله تعالى عن منعهم إياه؟ الثالث: إنه تعالى {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: ٢٣) . المصلح: معنى الآية الكريمة أنه ليس لأحد سلطان على الله تعالى، فيحاسبه على أفعاله، بل هو صاحب السلطان الأكبر القائم على كل نفس بما كسبت، وليس معناها أنه لا يعدل بين عباده فيما هم فيه سواء، وما أنبأنا الله تعالى بتبرؤ الأتباع من المتبوعين والمرءوسين من الرؤساء في يوم القيامة، إلا ليكون ذلك عبرة لنا وآية على أنه لا يعذر أحدًا باتِّباع من لم يأمره باتِّباعه، والآيات في هذا كثيرة كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة: ١٦٦-١٦٧) والآيات في هذا المعنى كثيرة. الثالث: أتقول إن هذه الملايين من المسلمين المقلدين خالدون في النار، وأنهم كالوثنيين سواء؟ المصلح: لا أقول هذا؛ ولكنني أقول: إن دعوة الإسلام لم تبلغهم كاملة، فيجب تبليغهم إياها بالقرآن الكريم الذي بَلَّغ به النبي صلى الله عليه وسلم من قبلهم من أولئك السلف الكرام، ومن اهتدى بهديهم الذين شادوا لنا ذلك المجد الكبير بإرشاد القرآن وأضعناه بالإعراض عن القرآن احتجاجًا بتقليد فلان وفلان الذين يتبرءون منا يوم القيامة قائلاً كل منهم كما يقول عيسى بن مريم عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} (المائدة: ١١٧) وسأورد بعض ما يؤثر عنهم في النهي عن الأخذ بقولهم حتى في الفروع من غير معرفة دليلهم والاقتناع به، وعن تقديم كلامهم على الحديث النبوي - بله القرآن العظيم - وما يؤثر أيضًا عن أكابر العلماء الأعلام من بعدهم، وأرجو أن يكون في ذلك مقنع لكم فإنكم ألفتم الأخذ بكلام الناس دون كلام الله ورسوله. الثالث: ونحن يمكننا أن نورد لك من كلامهم، بل ما نقل فيه الإجماع ما يقتضي القول بالتقليد، وهو منع التلفيق؛ فإن التلفيق لازم للتقليد، وقد نقل في الدر المختار الإجماع على بطلانه، فأورد لنا قولاً بالإجماع على منع التقليد في الفروع. المقلد للثالث: إنه لم يتم كلامه الأول فيما يجب الأخذ به لأجل الوحدة الإسلامية، فقد بقي عليه الكلام في قسم المعاملات الدنيوية والأحكام القضائية؛ وإنما مناقشتنا معه الآن في العبادات، وإن في كلامه قوة والحق يقال؛ ولكنه يحتمل النقض والمعارضة، والمصيبة فينا أننا لم يسبق لنا بحث كثير في هذه المواضيع لنستحضر النصوص فيها، وما كنت أظن أن مثله يشتغل بهذه المسائل، فقد حضرت مجلسًا ضم جماعة من أكابر مشايخنا، وذكر فيه الذين يتكلمون في الإصلاح، فرأيتهم متفقين على أن الذين يتكلمون في الإصلاح كلهم جاهلون بالدين وغير مطلعين على علومه ولا متمسكين بأعماله، ولولا أنني اختبرت هذا الشاب وألفيته متمسكًا بالدين أشد التمسك، محافظًا على الصلوات أتم المحافظة - لما جاريته وقصدت سبر غوره، ولما احتملت منه ما احتملت من التهكم بالمقلدين والإزراء بهم تلويحًا وتصريحًا مع أنني أعلم أنه يعتدني منهم؛ ولكنني أستغرب كيف لم يهتد أحد من علماء الملة إلى هذا الرأي - إزالة الخلاف بالأخذ بالقرآن والسنة العملية المتفق عليها - في كل هذه القرون، فهل علم صاحبنا ما جهله العلماء بعد حدوث المذاهب، وهو زمن يزيد على ألف سنة؟ المصلح: أستحيي أن أعود إلى التشنيع على التقليد بعد الذي ذكرت من التبرم من ذلك، وإن كنت أشاهد مصائبه تترشح من كل كلمة يقولها المقلد الذي بطلت ثقته بفهمه وعقله، وما أحب أن أعتدك مقلدًا بحتًا بعدما عاهدتني على الأخذ بالدليل، كيف صح لك الحكم بأنه لم يقل أحد من علماء الأمة بوجوب إزالة الخلاف من المسلمين وإرجاعهم إلى ما يرشد إليه القرآن من الوحدة، والأخذ بالمتفق عليه، وهل استقريت كل ما قاله العلماء الأعلام في كل فن من الفنون؟ إن هذا إلا كحكم شيوخك بأن جميع المتكلمين بُعَداء عن الدين علمًا وعملاً. هذا حجة الإسلام وعلم الأعلام الإمام الغزالي كان أعلم علماء التقليد وأقواهم عارضة في الدفاع عن مذهب الشافعي وله في الخلاف مصنفات، وبعد أن بلغ الكمال في الفروع والأصول والمعقول والمنقول، اهتدى إلى هذا الرأي فمهَّد له بالإنحاء على العلماء المختلفين باللوم والتعنيف في كتابه (إحياء علوم الدين) وسماهم علماء السوء، ثم صرح برأيه في كتابه (القسطاس المستقيم) وقد وقع في يدي أمس فكان أول ما قرأته فيه هذا الموضوع، والكتاب موضوع في مناظرة جرت بين الإمام وبين رجل من الباطنية الذين يقولون لا بد من إمام معصوم يتبع في كل عصر. المقلد الأول والثالث معًا: هل يوجد عندك هذا الكتاب هنا فتُسمعنا ذلك؟ المصلح: نعم، وأخذ كتابًا صغيرًا، وقرأ من أواخره ما يأتي: القول في طريق نجاة الخلق من ظلمات الاختلافات فقال - أي مناظر الإمام الغزالي - كيف نجاة الخلق من هذه الاختلافات؟ قلت: إن أصغوا إليَّ رفعت الاختلاف بينهم بكتاب الله تعالى؛ ولكن لا حيلة في إصغائهم؛ فإنهم لم يصغوا بأجمعهم إلى الأنبياء ولا إلى إمامك، فكيف يصغون إلي وكيف يجتمعون على الإصغاء وقد حُكم عليهم في الأزل بأنهم {لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: ١١٨-١١٩) وكون الخلاف بينهم ضروريًّا تعرفه من كتاب (جواب مفصل الخلاف) وهو الفصول الاثنى عشر، فقال: فلو أصغوا إليك كيف كنت تفعل؟ قلت: كنت أعاملهم بآية واحدة من كتاب الله تعالى إذ قال: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ} (الحديد: ٢٥) الآية، وإنما أنزل هذه الثلاث لأن الناس ثلاثة أصناف: عوام وهم أهل السلامة البله وهم أهل الجنة، وخواص وهم أهل الذكاء والبصيرة، ويتولد بينهم طائفة هم أهل الجدل والشغب، فيتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة. أما الخواصّ فإني أعالجهم بأن أعلمهم الموازين القسط وكيفية الوزن بها، فيرتفع الخلاف بينهم على قرب، وهؤلاء قوم اجتمع فيهم ثلاث خصال (إحداها) القريحة النافذة والفطنة القوية، وهذه عطية فطرية وغريزة جِبِلية لا يمكن كسبها، و (الثانية) خلو باطنهم من تقليد وتعصب لمذهب موروث مسموع - والتفت إلى المقلدين قائلاً: انظرا كيف حكم حكمًا مطلقًا بأن خواص الناس لا يقلدون أحدًا - ثم قرأ: فإن المقلد لا يصغي، والبليد وإن أصغى فلا يفهم (الثالثة) : أن يعتقد أني من أهل البصيرة بالميزان، ومن لم يؤمن بأنك تعرف الحساب لا يمكنه أن يتعلمه منك. (والصنف الثاني البله وهم جميع العوام) وهؤلاء هم الذين لهم فطنة لفهم الحقائق وإن كانت لهم فطنة فطرية فليس لهم داعية الطلب، بل شغلتهم الصناعات والحِرَف، وليس فيهم أيضًا داعية الجدل بخلاف المتكايسين في العلم مع قصور الفهم عنه، فهؤلاء لا يختلفون ولا يتخيرون بين الأئمة المختلفين، فأدعو هؤلاء إلى الله بالموعظة، كما أدعو أهل البصيرة بالحكمة، وأدعو أهل الشغب بالمجادلة وقد جمع الله سبحانه وتعالى هذه الثلاثة في آية واحدة كما تلوته عليك أولاً، فأقول لهم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعرابي جاءه فقال علمني من غرائب العلم، فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس أهلاً لذلك فقال: (وماذا عملت في رأس العلم) أي الإيمان والتقوى والاستعداد للآخرة (اذهب فأَحكِم رأس العلم، ثم ارجع لأعلمك من غرائبه) فأقول للعامي: ليس الخوض في الاختلافات من عشك فادرج فإياك أن تخوض فيه , أو تصغي إليه فتهلك، فإنك إذا صرفت عمرك في صناعة الصياغة لم تكن من أهل الحياكة، وقد صرفت عمرك في غير العلم , فكيف تكون من أهل العلم، ومن أهل الخوض فيه؟! فإياك ثم إياك أن تهلك نفسك فكل كبيرة تجري على العامي أهون عليه من الخوض في العلم، فيكفر من حيث لا يدري [١] . (فإن قال: لا بد من دين أعتقده وأعمل به لأصل إلى المغفرة والناس مختلفون في الأديان فبأي دين تأمرني أن آخذ أو أعول عليه؟ فأقول له: للدين أصول وفروع والاختلاف إنما يقع فيهما، أما الأصول فليس عليك أن تعتقد فيها إلا ما في القرآن؛ فإن الله لم يستر عن عباده صفاته وأسماءه، فعليك أن تعتقد أن لا إله إلى الله، وأن الله حي عالم قادر سميع بصير جبار متكبر قدوس ليس كمثله شيء.. إلى جميع ما ورد في القرآن واتفق عليه الأئمة، فذلك كافٍ في صحة الدين وإن تشابه عليك شيء فقل {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: ٧) واعتقد كل ما ورد في إثبات الصفات ونفيها على غاية التعظيم والتقديس مع نفي المماثلة، واعتقاد أنه ليس كمثله شيء، وبعد هذا لا تلتفت إلى القيل والقال؛ فإنك غير مأمور به ولا هو على حد طاقتك، فإن أخذ يتحذلق ويقول: قد علمت أنه عالم من القرآن؛ ولكني لا أعلم أنه عالم بالذات أو بعلم زائد عليه، وقد اختلف فيه الأشعرية والمعتزلة - فقد خرج بهذا عن حد العوام، إذ العامي لا يلتفت قلبه إلى مثل هذا ما لم يحركه شيطان الجدل؛ فإن الله لا يهلك قومًا إلا يؤتيهم الجدل، كذلك ورد الخبر [٢] ، وإذا التحق بأهل الجدل فسأذكر علاجهم. (هذا ما أعظ به في الأصول وهو الحوالة على كتاب الله (قال المصلح: ولا تنسيا أن كلامه في العوام) فإن الله أنزل الكتاب والميزان والحديد وهؤلاء أهل الحوالة على الكتاب، وأما الفروع فأقول: لا تشغل قلبك بمواقع الخلاف ما لم تفرغ من جميع المتفق عليه، فقد اتفقت الأمة على أن زاد الآخرة هو التقوى والورع، وأن الكسب الحرام والمال الحرام والنميمة والزنا والسرقة والخيانة وغير ذلك من المحظورات حرام والفرائض كلها واجبة، فإن فرغت من جميعها علمتك طريق الخلاص من الخلاف، فإن هو طالبني بها قبل الفراغ من هذا فهو جدلي وليس بعامي، ومتى تفرغ العامي من هذا إلى مواضع الخلاف؟ أفرأيت رفقاءك قد فرغوا من جميع هذه ثم أخذ إشكال الخلاف بمخنقهم؟ هيهات ما أُشبِّه ضعف عقولهم في خلافهم إلا بعقل مريض به مرض أشرف به على الموت وله علاج متفق عليه بين الأطباء وهو يقول: قد اختلف الأطباء في بعض الأدوية أنها حارة أو باردة، وربما افتقرت إليه يومًا فأنا لا أعالج نفسي حتى أجد من يعلمني رفع الخلاف فيه. نعم لو رأيتم صالحًا قد فرغ من حدود التقوى كلها، وقال ها أنذا تشكل عليَّ مسائل: فإني لا أدري أتوضأ من اللمس والقيء والرعاف وأنوي الصوم بالليل في رمضان أو بالنهار إلى غير ذلك - فأقول له: إن كنت تطلب الأمان في طريق الآخرة فاسلك سبيل الاحتياط، وخذ بما يتفق عليه الجميع، فتوضأ من كل ما فيه خلاف وانو الصوم بالليل في رمضان؛ فإن من لا يوجبه يستحبه، فإن قال: هو ذا يثقل علي الاحتياط ويعرض لي مسائل تدور بين النفي والإثبات، وقال: لا أدري أأقنت في الصبح أم لا، وأجهر بالتسمية أم لا؟ فأقول له: الآن اجتهد مع نفسك، وانظر إلى الأئمة أيهم أفضل عندك وصوابه أغلب على قلبك، كما لو كنت مريضًا وفي البلد أطباء؛ فإنك تختار بعض الأطباء باجتهادك لا بهواك وطبعك، فيكفيك مثل ذلك الاجتهاد في أمر دينك فمن غلب على ظنك أنه الأفضل، فاتبعه فإن أصاب فيما قال عند الله فله في ذلك أجران، وإن أخطأ فله عند الله أجر واحد، وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد) ورد الله الأمر إلى أهل الاجتهاد فقال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: ٨٣) وارتضى الاجتهاد لأهله إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (بم تحكم؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد، قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد، قال: أجتهد رأيي) قال ذلك قبل أن أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن له فيه. وهنا التفت المصلح إلى المقلد وقال: أرأيت كيف وافق فهمي في الحديث فهم الإمام الغزالي، إلا أنني خصصته بالأحكام القضائية دون الأمور التعبدية كما هو ظاهر اللفظ، والغزالي عممه وسنعود إلى ذلك. ثم مضى في القراءة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله) ففهم من ذلك أنه مرضي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وغيره، كما قال الأعرابي: إني هلكت وأهلكت: واقعت أهلي في رمضان، فقال: (أعتق رقبة) ففهم أن التركي والهندي لو جامع أيضًا لزمه الإعتاق. وهذا لأن الخلق ما كلفوا الصواب عند الله؛ فإن ذلك غير مقدور عليه ولا تكليف بما لا يطاق، بل كلفوا بما يظنونه صوابًا، كما لم يُكلَّفوا الصلاة بثوب طاهر بل بثوب يظنون أنه طاهر، فلو تذكروا نجاسته لم يلزمهم القضاء إذ نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم نعله في أثناء الصلاة لما أنبأه جبريل أن عليه قذرًا ولم يُعِدْ الصلاة ولم يستأنف، وكذلك لم يكلف أن يصلي إلى القبلة، بل إلى جهة يظن أنها القبلة بالاستدلال بالجبال والكواكب والشمس، فإن أصاب فله أجران وإلا فله أجر واحد، ولم يُكلَّفوا أداء الزكاة إلى الفقير، بل إلى من ظنوا فقره؛ لأن ذلك لا يعرف باطنه، ولم يكلف القضاة في سفك الدماء وإباحة الفروج طلب شهود يعلمون صدقهم بل من يظنون صدقه، وإذا جاز سفك دم بظن يحتمل الخطأ، وهو ظن صدق الشهود، فلم لا تجوز الصلاة بظن شهادة الأدلة عند الاجتهاد. وليت شعري ماذا يقول رفقاؤك في هذا؟ يقولون: إذا اشتبهت عليه القبلة يؤخر الصلاة حتى يسافر إلى الإمام ويسأله، أو يكلفه الإصابة التي لا يطيقها أو يقول اجتهد لمن لا يمكنه الاجتهاد، إذ لا يعرف أدلة القبلة وكيفية الاستدلال بالكواكب والجبال والرياح، قال: لا أشك في أنه يأذن له في الاجتهاد، ثم لا يؤثمه إذ بذل كنه مجهوده وإن أخطأ أو صلى إلى غير القبلة، قلت: فإذا كان من جعل القبلة خلفه معذورًا مأجورًا فلا يبعد أن يكون من أخطأ في سائر الاجتهادات معذورًا، فالمجتهدون ومقلدوهم كلهم معذورون: بعضهم مصيبون ما عند الله، وبعضهم يشاركون المصيبين في أحد الأجرين، فمناصبهم متقاربة وليس لهم أن يتعاندوا وأن يتعصب بعضهم مع بعض، لا سيما والمصيب لا يتعين وكل واحد منهم يظن أنه مصيب كما لو كان اجتهد مسافران في القبلة فاختلفا في الاجتهاد فحقهما أن يصلي كل واحد منهما إلى الجهة التي غلبت على ظنه، وأن يكف إنكاره وإعراضه واعتراضه على صاحبه؛ لأنه لم يكلف إلا استعمال موجب ظنه، أما استقبال عين القبلة عند الله فلا يقدر عليه، وكذلك كان معاذ في اليمن يجتهد لا على اعتقاد أنه لا يُتَصَور منه الخطأ؛ لكن على اعتقاد أنه إن أخطأ كان معذورًا، وهذا لأن الأمور الوضعية الشرعية التي يُتَصَور أن تختلف بها الشرائع يقرب فيها الشيء من نقيضه بعد كونه مظنونًا في سر الاستبصار، وأما ما لا تتغير فيه الشرائع فليس فيه اختلاف. وحقيقة هذا الفصل تعرفه من أسرار اتِّباع السنة، وقد ذكرته في الأصل العاشر من الأعمال الظاهرة من كتاب جواهر القرآن. وأما الصنف الثالث، وهم أهل الجدل فإني أدعوهم بالتلطف إلى الحق، وأعني بالتلطف أن لا أتعصب عليهم ولا أعنفهم، لكن أرفق وأجادل بالتي هي أحسن، وكذلك أمر الله تعالى رسوله، ومعنى المجادلة بالأحسن أن آخذ الأصول التي يسلمها الجدلي واستنتج منها الحق بالميزان المحقق على الوجه الذي أوردته في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد [٣] وإلى ذلك الحد، فإن لم يقنعه ذلك لتشوفه بفطنته إلى مزيد كشف، رقيته إلى تعليم الموازين، فإن لم يقنعه لبلادته وإصراره على تعصبه ولجاجه وعناده عالجته بالحديد؛ فإن الله سبحانه جعل الحديد والميزان قريني الكتاب ليُفهم منه أن جميع الخلائق لا يقومون بالقسط إلا بهذه الثلاث، فالكتاب للعوام، والميزان للخواص، والحديد الذي فيه بأس شديد للذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ولا يعلمون أن ذلك ليس من شأنهم، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم دون أهل الجدل، وأعني بأهل الجدل طائفة فيهم كياسة ترقوا بها عن العوام؛ ولكن قياساتهم ناقصة إذ كانت الفطرة كاملة؛ لكن في باطنهم خبث وعناد وتعصب وتقليد، فذلك يمنعهم عن إدراك الحق، وتكون هذه الصفات أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا؛ لكن لم تهلكهم إلا كياستهم الناقصة؛ فإن الفطنة البتراء والكياسة الناقصة شر من البلاهة بكثير، وفي الخبر (إن أكثر أهل الجنة البُلْهُ وإن عليين لذوي الألباب) . ويخرج من جملة الفريقين الذين يجادلون في آيات الله، وأولئك أصحاب النار ويزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وهؤلاء ينبغي أن يمنعوا من الجدال بالسيف والسنان كما فعل عمر رضي الله عنه برجل إذ سأله عن آيتين متشابهتين في كتاب الله تعالى فعلاه بالدرة، وكما قال مالك رضي الله عنه لما سئل عن الاستواء على العرش، فقال: (الاستواء حق والإيمان به واجب والكيفية مجهولة والسؤال عنه بدعة) وحسم بذلك باب الجدال، وكذلك فعل السلف كلهم، وفي فتح باب الجدال ضرر عظيم على عباد الله تعالى، فهذا مذهبي في دعوة الناس إلى الحق، وإخراجهم من ظلمات الضلال إلى نور الحق، وذلك بأن أدعو الخواص إلى الحكمة بتعليم الميزان، حتى إذا تعلم الميزان القسط لم يقدر به على علم واحد بل على علوم كثيرة؛ فإن من معه ميزان فإنه يعرف به مقادير أعيان لا نهاية لها كذلك من معه القسطاس المستقيم فمعه الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا لا نهاية له، ولولا اشتمال القرآن على الموازين لما صح تسمية القرآن نورًا؛ لأن النور ما يبصر بنفسه ويبصر به غيره وهو نعت الميزان، ولَمَا صدق قوله: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام: ٥٩) فإن جميع العلوم غير موجودة في القرآن بالتصريح، ولكن موجودة فيه بالقوة لما فيه من الموازين القسط التي بها تفتح أبواب الحكمة التي لا نهاية لها، فبهذا أدعو الخواص ودعوت العوام بالموعظة الحسنة بالإحالة على الكتاب، والاقتصار على ما فيه من الصفات الثابتة لله تعالى، ودعوت أهل الجدل بالمجادلة التي هي أحسن، فمن أبى أعرضت عن مخاطبته، وكففت شره ببأس السلطان والحديد المُنَزَّل مع الميزان. فليت شعري الآن يا رفيقي بم يعالج أمامك هؤلاء الأصناف الثلاثة، أيعلم العوامُ غريبَ العلم فيكلفهم ما لا يفهمون ويخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يخرج الجدال من أدمغة المجادلين بالمحاجة ولم يقدر على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كثرة محاجة الله تعالى في القرآن مع الكفار، فما أعظم قدرة إمامك إذ صار أقدر من الله تعالى ومن رسوله، أو يدعو أهل البصيرة إلى تقليده، وهم لا يقبلون قول الرسول صلى الله عيه وسلم بالتقليد، ولا يقنعون بقلب العصا ثعبانًا، بل يقولون: هو فعل غريب ولكن من أين يلزم منه صدق فاعله، وفي العالم من غرائب السحر والطلسمات ما تتحير فيه العقول، ولا يقوى على تمييز المعجزة عن السحر والطلسم إلا من عرف جميعها وجملة أنواعها؛ ليعلم أن المعجز خارج عنها، كما عرف سحرة فرعون معجزة موسى عليه السلام إذ كانوا من أئمة السحرة، ومن الذي يقوى على ذلك؟ بل إن أهل البصيرة يريدون مع المعجزة أن يعلموا صدقه من قوله، كما يعلم متعلم الحساب من نفس الحساب صدق أستاذه في قوله: إني حاسب، فهذه هي المعرفة اليقينية التي بها يقنع أولو الألباب وأهل البصائر ولا يقنعون بغيرها ألبتة، وهم إذا عرفوا بمثل هذا المنهاج صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وصدق القرآن، وفهموا موازين القرآن كما ذكرت لك، وأخذوا منه مفاتيح العلوم كلها مع الموازين كما ذكرته في كتاب (جواهر القرآن) فمن أين يحتاجون إلى إمامك المعصوم، وما الذي حل من إشكالات الدين، وعن ماذا كشف من غوامضه؟ قال الله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} (لقمان: ١١) وقد سمعت الآن منهاجي في موازين العلوم، فأرني ماذا اقتبسته من غوامض العلوم من إمامك إلى الآن، وما الذي يتعلمون منه، وليت شعري ما الذي تعلمت من إمامك المعصوم أرني ما رأيتها: ما يسدي بي رتسدي أوف ... خرابن وقلب يارفوت فليس الغرض من الدعوة إلى المائدة مجرد الدعوة دون الأكل والتناول منها، وإني أراكم تدعون الناس إلى الإمام، ثم أرى المستجيب إمامك بعد الاستجابة على جهله الذي كان قبله لم يحل له الإمام عقدًا، بل ربما عقد له حلاًّ ولم تفده استجابته له علمًا، بل ربما زاد به طغيانًا وجهلاً، فقال: قد طالت صحبتي مع رفقائي؛ ولكن ما تعلمت منهم شيئًا إلا أنهم يقولون: عليك بمذهب التعليم، وإياك والرأي والقياس فإنه متعارض مختلف، فقلت: فمن الغرائب أن يدعوا إلى التعليم، ثم لا يشتغلوا بالتعليم، فقل لهم: قد دعوتموني إلى التعليم، فاستجبت فعلموني ما عندكم، فقال: ما أراهم يزيدونني على هذا شيئًا، فقلت: فإني قائل أيضًا بالتعليم وبالإمام ويبطلان الرأي والقياس، وأنا أزيدك على هذا - لو أطقت ترك التقليد - تعليم غرائب العلوم وأسرار القرآن، فأستخرج لك منه مفاتيح العلوم كلها، كما استخرجت منه موازين العلوم كلها على ما أشرت إلى انشعاب العلوم كلها منه في كتاب (جواهر القرآن) لكني لست أدعو إلى إمام سوى محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إلى كتاب سوى القرآن فمنه أستخراج جميع أسرار العلوم وبرهاني على ذلك لساني وبياني، وعليك إن شككت تجريبي وامتحاني، أفتراني أولى بأن يتعلم مني من رفقائك، أم لا؟ اهـ. المقلد والثالث: إن الإمام الغزالي أثبت التقليد، بل أوجبه على العوام، وفي كلامه بعض إشكالات لم يبق في الوقت سعة للبحث فيها. المصلح: سنبحث في هذا في مجلس آخر - إن شاء الله تعالى - وافترقوا. ((يتبع بمقال تالٍ))