للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

الباب الثاني (الولد) من كتاب
من أراسم إلى هيلانة في ١١ يونيه سنة ١٨٥
قد قطع مكتوبك ولله الحمد جميع العقبات التي كانت تحول بينه وبين الوصول
إليّ وهو الآن بين يديّ أرى فيه شعاعًا من شمس الحرية. قد اتصل بي وها أنا ذا
ألاحظك بفكري في تنزهك على شاطىء البحر وأبصر (أميل) من خلال ما تبدينه
من ضروب التأثر والانفعال وإخالني أعرفه.
رباه كيف أكون والدًا من سنتين كاملتين ولا أتمكن من تقبيل ولدي إلى الآن!
أترك هذا الأسف الذي لا جدوى له وأعاود الحديث معك فيما ينبغي أن يكون
أهم ما يعنينا في هذه الدنيا فأقول: إن من أغلاط المشتغلين بالتربية صرفهم جل
عنايتهم في تقويم القوى والملكات العقلية وقلة التفاتهم إلى غيرها مع أنه لا يسعهم
إنكار ما بينها وبين قوى الإدراك الحسية والنفسية من الارتباط , ولكني في هذا
المكتوب أحب أن أوجه فكرك إلى تربية الإدراك العقلي بنوع خاص.
كأني بك تقولين: هل يتفكر الطفل؟ فأجيبك أن ذلك لازم له لأنه حيّ ولأن
العلم إذا كان كلما نفذ في أسرار حياة النباتات والحيوانات كشف لنا فيها بداية
إحساس بل ربما صح أن يقال: بداية إدراك فكيف يكون الطفل حينئذ أقل حظًّا من
هذه الكائنات التي هي أضعف خلق الله تعالى؟ نعم إني لا أنكر أن مخه في
الأسابيع الأولى من ولادته يكون في نظرنا كالبيداء المظلمة التي وصفها الشاعر
اللاتيني بأنها مملكة العفاريت ولكنه يتدرج في تمييز بعض الأشياء بعضها من
بعض والقياس بينها وانتزاع بعض الأحكام عليها , وإنك لا تكادين تجدين طفلاً في
الشهر الخامس عشر أو السادس عشر من عمره إذا رأى صورة إنسان إلا وهو
يفتكر بأنها لشخص معروف.
من الأسباب التي تعين على إنماء عقل الطفل بعد تربيته بما يحتف به من
الأشياء تعليمه اللسان.
وإني أرجح ما تقولينه من أن الإنسان في عهد طفوليته كان يتلمس مواد الكلام
الأولى في أصوات الكون الميحط به , وقد يدلنا على أن هذه الأصوات هي أصل
اللغات الإنسانية ما نجده في جميعها خصوصًا ما كان منها قديمًا جدًّا من آثار
التوافق الناشىء عن التقليد وما أجلَّ وأعظم كلام الإنسان فمن العبث أن أرضي
نفسي بقولي: إن أسلافنا الغابرين قد جمعوا في بداية نشأتهم الأصوات المبهمة
المنتشرة في جميع أرجاء الكون وصيروها لغة , فإن هذا القول لا يكشف لي جميع
ما في كلام الإنسان من المعاني لأنك تجدين لكل شيء في هذا العالم كلامًا , فالمعدن
يتكلم لأنه إذا نُقر صوَّت تصويتًا يخبر بماهيته نحاسًا كان أو ذهبًا , والحيوان يتكلم
لأنه يدل في كل حين بما يبديه في صوته من الكيفيات المختلفة على حاجاته
ووجداناته وشهواته , والهواء والبحر والرعد تتكلم لأن ألفاظها تنبىء عما يقع بين
الفواعل الكونية من الكفاح والمغالبة , ولكن شتان بين كلام هذه المخلوقات جميعها
وكلام الإنسان ولو كان طفلاً فإن الطفل متى قدر على النطق ببعض الكلمات ولو
مع التلعثم فيها واستطاع مثلاً أن يقول: (أنا) مثبتًا بذلك استقلال الإنسان وقيام
الحياة العامة به رأيت أن جميع ما في الكون أمامه قد دخل في شبه عبودية
وخضوع.
إن أصوات المادة معلولة للحوادث التي تُوجِدها , وأصوات الحيوانات ناشئة
عن الغرائز المستقرة في أنواعها , وأما لفظ الإنسان فهو حتى في حال تمتمة
الطفولية دال على ذات شأنها الحرية والاستقلال.
على أنه لا ينبغي أن نعمى عن الفائدة الحقيقية من أساليب الكلام من حيث
كونه ركنًا من أركان تربية الإدراك. ذلك لأن الطفل لا يتلقى عنا وقت الكلام معه
إلا أصواتًا فمن أجل أن يكون تعليمنا مفيدًا له يجب أن تكون هذه الأصوات التي
يسمعها مقرونة في نفسه بمدلولاتها:
أنت تذكرين تلك الفتاة التي جاءت بها إليَّ والدتها في يوم من الأيام تستفتيني
في أمرها فقد كانت شبيهة بتلك المغارات المقفرة تردد جميع الأصوات غير فاهمة
شيئًا منها , وكنت أعتقد أنها لجمالها الرائع لو كانت شهدت قدماء اليونان لاتخذوها
إلهة لصدى الأصوات لأنها لفرط ما أوتيته من قوة السمع الميئوس من تعديلها
وغريزة التقليد المتعاصية على الترويض كانت على الدوام ترجع ما كنت أوجهه
إليها من الأسئلة فلم يفدها ذلك شيئًا.
فأنا أخشى كثيرًا أن لا يوجد بين هذه البلهاء المسكينة التي لا تفهم شيئًا مما
تردده من الكلام وبين كثير من الأطفال الذين يرددونه على قلة فهمهم إياه أو على
فهمه مقلوبًا إلا فرق خفيف.
على أني أرى أن الميل إلى التكلم بغير فائدة مرض من أمراض العقل عند
الإنسان، فكم من النساء من يجتهدن في إماتة ما يجدنه من الضجر والسآمة بأغاني
ليس فيها شيء من المعاني المعيَّنة , ولقد عرفت مسجونًا كان على قصور إدراكه
جدًّا كلما وضع في السجن المظلم عقابًا له على ما كان يرتكبه من الذنوب يجتهد في
مخادعة العزلة والظلام بأحاديث خالية من المعاني.
وإنه يوجد في الشعائر الدينية القديمة لكثير من الأمم صيغ من العزائم
والتعاويذ هي عبارة عن كلمات أو جمل مرتبة تلتذ بسماعها الأذن , ولكن لو أراد
سامعها البحث عن معانيها لكان محاولاً عبثًا. وما لنا وللرجوع إلى تلك الأزمان
الغابرة نستشهد بما كان فيها على ما نقول , وأمامنا كنائسنا الكاثوليكية نسمع
المؤمنين يدعون الله فيها بأدعية لاتينية لا يفهم معانيها إلا النزر القليل منهم.
ولكن أرى أن عدم صرف اللسان عن هذه الوجهة الفاسدة وإعانته على الجري
في مضمارها من الأمور الشديدة الخطر على العقل فإذا لم يحترس منهما أصبحت
الألفاظ خلوًا من معانيها وصارت عُوَذًا للعقل.
الطفل فيه شيء من خاصية الببغاء ولا وجه للشكوى من ذلك فإنه بهذه القوة
التقليدية يتيسر له الاختلاط بمن حوله ومعاشرتهم , ولكن حلَّ عقدة لسانه أيسر من
فتح مغلق عقله , فليست الألفاظ تؤدي دائمًا إلى فهم الأشياء التي وضعت لها ,
وإني لأرى في لغة الخرس مزية لا توجد في لغتنا معاشر الناطقين ذلك لأن
الإشارات عندهم هي رسوم للمعاني والوقائع , وليس الأمر كذلك في النطق الذي
هو عبارة عن أصوات متنوعة وأجراس مختلفة كما يعلمه كل منا. ثم اعلمي أن
محادثة الأطفال مما لا شك في فائدته فإنها من دواعي ابتهاجهم وانشراح صدورهم
ولكن على شرط أن تكون الكلمات وسيلة إلى انتقال أذهانهم إلى مدلولاتها فيجب
عند تلقيهم للدوال اللفظية أن ينبهوا إلى ما تدل عليه ويفهموا ما بين الدوال
والمدلول من الارتباط , فبهذه الطريقة تعوّد أذهانهم على الاستقرار وعدم التشتت.
لست أدري لماذا نهتم كثيرًا بمقاومة ما يجده الأطفال من اللذة في تقليد
أصوات بعض الحيوانات فما أسعد حظ امرئ يكون فيه من المواهب الإلهية ما
يؤهله لفهم جميع ما يعيش على وجه البسيطة. لا أقصد بقولي هذا أن من يحاول
محاكاة أصوات بعض الحيوانات يفهم معنى لسانها , ولكني أريد به أن مثل هذا
السعي في التقليد يدل على أن صاحبه قد وصل إلى درجة ما من النظر والملاحظة
فالطفل الذي يحاول تقليد صوت الكلب أو الديك مثلاً قد لاحظ أن في هذا العالم
مخلوقات أخرى غيره وأن لها في التعبير عما في أنفسها من الوجدانات طريقة
خاصة بها.
اللغة الإنسانية وإن كانت وضعية فأصولها على التحقيق فطرية. انطري إلى
الأطفال؛ تجدي لهم لغة معروفة في جميع أقطار الأرض وهي وإن اختلفت يسيرًا
من أمة إلى أخرى تتألف في الأصل من أصوات آحادية المقاطع فأصول الكلام
الملفوظ عند جميع الأمم لا تخرج عن حرف ساكن وحرف لين يتكرران بحركة
الشفتين مثل (بابا ماما تاتا دادا) وغيرها ما عدا بعض تنويعات خفيفة , والطفل
يقضي من دور طفوليته زمنًا طويلاً لا يعرف فيه أداة التعريف ولا الضمير وأما
الفعل فلا يدرك منه إلا المصدر , ولا ينفذ ذهنه إلى فهم صيغ الماضي والمضارع
والأمر وغيرها من المشتقات , ولا يعرف من النعوت إلا قليلاً , وأقل منه معرفته
بحروف العطف فلغته شبيهة بلغات الأجيال الأولى.
وقد روى لنا أحد السياح أنه يوجد في أفريقيا قبيلة يتألف لسانها من اثنتي
عشرة كلمة لا غير , وقال: إن أفراد هذه القبيلة على قلة ألفاظ لغتهم إلى هذا الحد
يتفاهمون جيدًا فيما بينهم بإضافة الإشارات إلى الأصوات , وكم يوجد من الأطفال
من يُفهِمُون أمهاتهم ما يريدونه بما هو أقل من كلمات تلك اللغة مثل تحريك الأعين
أو الإشارة أو ما لا يكاد يكون شيئًا يذكر مع إفصاحه عن أفكارهم وإظهاره
لمقاصدهم.
وهناك أمم أخرى تكاد تكون أميّة , ولكنها تبرز علينا في علم ربط الوقائع
بعضها ببعض وانتزاع الأحكام منها , فالعرب القاطنون فيما بين النهرين (الدجلة ,
والفرات) لا يكادون يقرءون شيئًا من الكتب لأنه لا مدرسة لهم سوى الصحراء ,
ولكن من المحقق أن البدويَّ منهم اذا رأى آثار الخُطا على الرمل؛ حكم فورًا إن
كانت آثار إنسان أو حيوان وإن كان إنسانًا؛ عرف قبيلته وكونه عدوًّا أو صديقًا ,
وقدر تاريخ مروره سواء كان قديمًا أو حديثًا , واستنتج ماذا عسى أن يكون قصده
من سفره , وحكم أيضًا ببعض علامات يراها منتشرة في الطريق إن كان البعير
حاملاً شيئًا أو خاليًا , شبعان أو جائعًا , مستجم القوى أو مهزولاً , وإن كان صاحبه
من سكان الحضر أو البدو. فإذا تأملنا قليلاً في سبب وجود هذه المعرفة عند هؤلاء
القوم؛ ظهر لنا أن طريقة البدوي في ربط الوقائع بعضها ببعض وانتزاع الأحكام
منها هي بعينها الطريقة المعروفة في العلوم الصحيحة.
من الجلي أن أحدًا لا يسعه إنكار أهمية اللغات وما لها من الفوائد في تربية
عقل الإنسان , ولكن مما ينبغي الاعتراف به أن الألفاظ إذا كانت تعفي من النظر
في الأشياء وملاحظتها كما هو الشأن فيها غالبًا فهي مضرة بالإدراك لا مفيدة له
فالطفل وإن قدر على تسمية الفرس بخمس لغات مختلفة لا يعرف في نهاية الأمر
إلا حيوانًا واحدًا فلو اتفق أنه لم يره في حياته كان لم يعرف شيئًا.
أراك تذكرين ما اشتهر عند هاملت [١] من تعجبه من تشبث الناس بالألفاظ
حين قال: (ألفاظ ألفاظ ألفاظ) فهذا الأمير كان درس في المدارس , وكأنه بهذا
الاستغراب يتفقد طريقتنا في التربية , فإن المشتغلين بهذه الطريقة يوجبون على
الطفل من أجل كمال تربيته أن يحفظ أفكار غيره ويرددها مع أن الواجب عليهم أن
يسألوه دائمًا عن أفكاره ويبادرونه بالحث على النظر في الوقائع والقياس بينها ,
وتمرين نفسه على الحكم عليها. قد رأيت فيما سبق أن العمل هو اللازم في تربية
العواطف الفاضلة وضروب الوجدان الشريفة فكان الواجب على المربين أن يكون
مرجعهم هنا أيضا إلى العمل لإحياء جرثومة الإدراك في الطفل وتلقيحها لتنتج
الثمرات المطلوبة اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))