ألقيناها على منبر جامع المجيدية في بيروت بعد صلاة العصر وصلاة جنازة الغائب على المصلحين الكرام: السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده المصري، وعبد الرحمن أفندي الكواكبي السوري، وذلك في يوم الخميس ٢٨ من شهر شعبان، وقد لخص هذه الخطبة بعض من حضرها من الأدباء بما يأتي مع تصحيح وتوضيح: السلام عليكم ورحمة الله. الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن الإسلام دين سهل سائغ موافق للفطرة البشرية، قام به أهله عند ظهوره خير قيام، وليس لهم كتاب غير القرآن، ولم يكن القرآن في أول الأمر مصحفًا مجموعًا كما هو الآن، وإنما كتبت آياته على الجلود والعظام وسعف النخل، ثم جمعت في مصحف واحد بإجماع الصحابة، فالإسلام هو هذا الكتاب الحكيم، وما بيَّنه من سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: ٤٤) . إني سائلكم: أهذا هو الإسلام الذي غير وجه الأرض، ونقل البشر من طور إلى طور؟ نعم، إنه هو، ولو أخذته اليوم طائفة من المسلمين بقوة كما أخذه الأولون لغيرت وجه البسيطة مرة ثانية، كما غيره سلفها من قبل، ولست أعلم لماذا رغب المسلمون عن القرآن وذهبوا يؤلفون الكتب الكثيرة في الدين، وقد رأينا أن الاشتغال بهذه الكتب مع الإعراض عن القرآن ما زاد الإسلام إلا ضعفًا، والمسلمين إلا خسفًا. أنزل الله دينه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فعمل به أولئك الأميون من عرب الجاهلية، وهم على ما تعلمون من التفرق والتعادي والفساد، فعلمهم الإسلام وهذبهم وأخرجهم من الظلمات إلى النور، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: ٢) . من المعلوم في طبائع البشر أنه لا يتربى ويتزكى بعد الكبر، إلا أفراد قلائل من أصحاب الاستعداد العالي، لأن الأخلاق متى رسخت في النفس قلما تتغير، ولكن أولئك الصحابة الذين غيروا وجه الأرض، قد تربَّوْا بعد الكبر، تلك التربية التي كانوا بها أئمة، وكانوا هم الوارثين. نشأوا يعبدون الأصنام، ويئدون البنات، ويستحلون السلب والنهب، إلا أنه كان فيهم استعداد لهذا الإصلاح الذي ساقه الله إليهم: كان فيهم ذكاءُ عقلٍ واستقلالُ فكر وقوةُ إرادةٍ، فلما فهموا الإسلام قبلوه وأيدوه ونصروه، وحملوه إلى غيرهم ونشروه. إن الإسلام دين عام لجميع البشر، ليس خاصًّا بمن ظهر فيهم أولاً من العرب، ولكن لماذا ظهر هذا الدين الحكيم في تلك الأمة الجاهلية، ولم يكن بدء ظهوره في أمة من أمم المدنية كالمصريين والروم، واليونانيين والفرس؟ ! السبب في ذلك عظيم جِدًّا، يتعلق بالاستعداد، وهو ما كانت عليه العرب من سذاجة الفطرة واستقلال الفكر والإرادة. كانت الأديان والحكومات بما طرأ عليها من الفساد قبل الإسلام، قد أضعفت استعداد تلك الأمم بما طبعتهم على التقليد والخضوع والخنوع لرؤسائهم، والجمود على تقاليدهم وعاداتهم، فإذا دُعِيَ أحدهم إلى إصلاح جديد قال من فوره: إن هذا يخالف ما وجدنا عليه آباءنا، فإن لم يمنعه من الاستجابة التقليد لسلفه في الدين، منعه ما طُبِع عليه من العبودية لحكامه الظالمين، وأما العرب فلم يكن لهم من العلوم والمعارف الدينية وغير الدينية ما يحقر في أنفسهم ما يلقى إليهم من دين أو علم جديد، ولم يكن لهم من الحكام المستبدّين من يفسد عليهم بأسهم، ويذهب بعزيمتهم، بل أعدهم لذلك بطبيعة البدواة وسذاجة الفطرة، فجعلهم من أهل الشجاعة التي هي مظهر استقلال الإرادة، والحرية التي هي مظهر استقلال الفكر، فكان فيهم كثيرون إذا دُعُوا إلى الحق والخير فقهوا الدعوة، وإذا اعتقدوا الشيء قاموا ودافعوا عنه بالقوة، لذلك أنزل الله عليهم كتابه، وبعث فيهم رسوله، فاستجاب له من سمع ووعى، وقالوا: إنا نمنعك (أي نحميك) مما نمنع منه أنفسنا وأهلنا، وقام الإسلام بهم خير قيام، حتى كان من أمره وأمرهم ما كان. هذه مقدمة يمكنني أن أبين بعدها ما هي حقيقة الإسلام، ليعلم غير العالم من الحاضرين ويتذكر أولو العلم منهم أن المسلمين يسهل عليهم اليوم أن يعرفوا دينهم ويهتدوا به من غير حاجة إلى مدارس تدرس فيها الكتب الكثيرة. الإسلام أمر سهل جِدًّا، وهو عبارة عن الرجوع إلى الفطرة البشرية، وما هي الفطرة البشرية؟ هو ما انطوت عليه نفسك من الإذعان للسلطة الغيبية واختيار ما تعتقد أنه الخير والمصلحة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: ٣٠) إلا أن الفطرة يعرض لها الفساد بالجهل وسوء القدوة، فإذا ذكر صاحبها بآيات الله فاهتدى بها رجعت إلى أصلها {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: ٤) فحصل مقصد الإسلام، وحينئذ يجد المسلمون سَعَة في الوقت لتحصيل ما يحتاجون إليه من العلوم والفنون، وما يترتب عليها من الأعمال والصناعات التي تقوى بها أمتهم وتعتز دولتهم. قلنا: إن الاهتداء بالإسلام لا يتوقف على درس الكتب الكثيرة، والأعمال التي تستغرق الأوقات، وذلك أن الإسلام مبني على ثلاث أسس: (الأول) إصلاح العقل بالعقيدة المطهرة للجنان، المبنية على البرهان. (الثاني) إصلاح النفس بتزكيتها وتطهيرها من الرذائل، وتحليتها بالفضائل. (الثالث) إصلاح الأعمال من العبادات والحقوق التي يستقيم بها أمر الأفراد وترتقي الهيئة الاجتماعية. الأساس الأول يبنى عليه الإيمان بوجود الله تعالى، ووحدانيته، ومعناها أنه سبحانه وتعالى هو المتفرد بالسلطة الغيبية العليا، التي تلجأ إليها النفوس عند العجز عن الأسباب والسنن، فلا ينفع غيره ولا يضر سواه، إلا ما يتعامل به الناس بالأسباب التي سخرها الله لهم بحكمته، وأَقْدَرَهُمْ عليها بمشيئته، وأنه منزه عما لا يليق به من صفات الحوادث، وما يلمّ بالبشر وغيرهم من النقص، وأنه هو المتفرد بشرع الدين والتحليل والتحريم. ويتلو ذلك تصديق الأنبياء فيما جاءوا به من الوحي، والإيمان بعالم الغيب من الملائكة، والجزاء على الأعمال التي تزكي النفس فترفعها إلى عِلّيين، أو تدسيها فتلقيها في أسفل سافلين، فهذه العقيدة تصلح العقل، بإطلاقه من العبودية لبعض البشر أو المظاهر الطبيعية، وهي الوثنية التي أفسدت عقول الأولين، والخضوع الأعمى للرؤساء المسيطرين، وكل ذلك مبين في القرآن أكمل تبيين، مؤيد بالدلائل والبراهين. الأساس الثاني يبنى عليه تزكية النفس من الأخلاق الذميمة، وتحليتها بالأخلاق الحسنة، وإذا تهذبت أخلاق الناس صلح أمرهم، واستقام نظامهم، وقد فصل لنا القرآن ما تحتاج إليه من ذلك تفصيلاً. الأساس الثالث تبنى عليه العبادات والآداب العملية، وقد بين القرآن ذلك بالإجمال، ووكل بيانه بالتفصيل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) , فكان يعلمه الناس بالعمل، وعبر عن ذلك بقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وكذلك كان الصحابة يُعلِّمون من دخلوا في الإسلام على أيديهم، فلم يقل أحد: إنه كان لهم في الشام ومصر وفارس كتب يعلمون بها الناس دينهم عندما يدخلون في الإسلام؛ ولكن المسلمين دونوا عبادتهم في الكتب، وأكثروا فيها من الأقسام والفروع والاصطلاحات، حتى وصلنا إلى أزمنة صارت فيها هذه الكتب صعبة لا يتيسر للأكثرين درسها وتعلمها، فتركها السواد الأعظم، وصارت دراستها محصورة في فئة تستفيد منها في دنياها، كمريدي القضاء والفتيا والتدريس. على أنهم على طول مزاولتها لا يستغنون عن أخذها بالعمل، فقد حدثني أحد كبار العلماء أنه قرأ كتاب الحج مرارًا كثيرة، ولما أراد أن يحج لم يستغن عن المطوفين الذين يعلمون العوامّ مناسكهم بالعمل. وتعلم العبادات بالعمل سهل جِدًّا، وما لا بُدّ فيه من القول يمكن أن يقال في مجلس واحد، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الأعرابي دينه في مجلس واحد، فإذا عاهده على العمل به رضي منه وقال: (أفلح الأعرابي إن صدق) . التاريخ يخبرنا بأن الإسلام انتشر في مدة قليلة في ممالك كثيرة لسهولته، وأية سهولة على المرء أسهل عليه من مجاراة فطرته، وتقويم ما يعرض لها من العوج، فالإسلام يدعوكم إلى ما في فطرتكم من الميل إلى اختيار ما فيه الخير والمصلحة، ولذلك يرشدنا إلى التذكر في مواطن كثيرة من مواطن هدايته , فيقول: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأنعام: ١٥٢) - {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (الأنعام: ١٢٦) - {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: ١٣) ، وإنما يتذكر الإنسان ما كان يعلمه ثم نسيه أو غفل عنه، فكأنه يرشدنا بذلك إلى أن ما يدعونا إليه من الخير هو مما أودع في فطرتنا , ثم غلفنا عنه بسوء القدوة وفساد التربية - فدين الإسلام أسهل الأديان، لا حرج فيه ولا مشقة {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: ٦) - {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: ١٨٥) ، فإذا كان على سهولته ويسره كافلاً لسعادة الدنيا والآخرة، فأي عذر لنا إذا أهملناه وتركنا هدايته؟ {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: ١٣٠) ، يرضى بأن يكون كالدواب لا يهمها إلا علفها، أو كالكلاب العاقرة ينهش بعضها بعضًا. ربما يعترض بعض الناس على ما أقول من أن تلقين الدين لا يشغلنا عن تعلم العلوم والفنون الدنيوية، التي هي مبادئ الصناعات التي تعتز بها الأمة وتَقْوَى الدولة، حتى تكون في مصافّ الدول الكبرى، لأنهم يزعمون أن الدين ينهانا عن ذلك، ولو لم يوجد فينا أمثالُ هؤلاء، لَمَا وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من الضعف والانحطاط في الثروة والقوة. نحن اليوم في حالة لا تخفى على أمثالكم: صرنا وراء جميع الأمم، والذنب في ذلك علينا لا على الإسلام. فالإسلام لم يجن علينا، وإنما نحن جنينا عليه وعلى أنفسنا؛ إذ جعلنا بيننا وبين القرآن حجبًا كثيفة، فأعرضنا عنه وعن العلوم التي تحفظ بها بيضتنا. كانت العلوم الرياضية والطبيعية عند ظهور الإسلام مندرسة، ليس لها سوق نافقة عند أمة من الأمم، فأحياها المسلمون عندما ظهر الإسلام ونفذت شوكته. ومن العجب أن الجامدين الذين يحرمونها اليوم يعترفون بأن أولئك الأساطين الذين درسوها من علمائنا هم خيرة علمائنا! ((يتبع بمقال تالٍ))