كتب إليّ بعض علماء الشام [١] جوابًا عن كتاب هنأه فيه بمنصب الإفتاء، وهو ألطف كتبه وفيه من الشكوى من سوء حال قومه ولا سيما الجامدين الرسميين ومن التحدث بالنعمة ما ليس في غيره. أنصفني قومك إذ سروا بتناولي منصب الإفتاء، ولعل ذلك لشعورهم بأنني أغير الناس على دين الله، وأحراهم بالدفاع عن حِماه، وأدراهم بوجوه الفرص عند سنوحها، وأحذقهم في انتهازها لإبلاغ الحق أمله، أو يبلغ الكتاب أجله، على أنهم مني بحيث لا يفسد نفوسهم الحسد، ولا يتقاذف بأهوائهم اللدد، وكل ذي دين يشتهي أن يرى لدينه مثل ما أحث إليه عزيمتي، وأخلص في العمل لتحقيقه نيتي، خصوصًا إن كفي فيه القتال، ولم يكلف بشد رحال، ولا بذل أموال. أما قومي فأبعدهم عني، أشدهم قرباً مني، وما أبعد الإنصاف منهم، يظنون بي الظنون، بل يتربصون بي ريب المنون، تسرعًا منهم في الأحكام، وذهابًا مع الأوهام، وولعًا بكثرة الكلام، وتلذذًا بلوك الملام، أقول فلا يسمعون، وأدعو فلا يستجيبون، وأعمل فلا يهتدون، وأريهم مصالحهم فلا يبصرون، وأضع أيديهم عليها فلا يحسون، بل يفرون إلى حيث يهلكون، شأنهم الصياح والعويل، والصخب والتهويل، حتى إذا جاء حين العمل، صدق فيهم قول القائل في مثلهم: لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا وأقول: ولا من الخير. وإنما مثلي فيهم مثل أخ جهله إخوته، أو أب عقّته ذريته، أو ابن لم يَحْنُ عليه أبواه وعمومته مع حاجة الجميع إليه، وقيام عمدهم عليه، يهدمون منافعهم بإيذائه ولو شاءوا لاستبقوها باستبقائه، وهو يسعى ويدأب، ليطعم من يلهو ويلعب، على أني أحمد الله على الصبر وسعة الصدر إذا ضاق الأمر، وقوة العزم وثبات الحلم، وإن كنت في خوف من حلول الأجل قبل بلوغ الأمل، خصوصًا عندما أرى أن العمل في أرض ميتة لو ذابت عليها السماء مطرًا لما أنبتت زرعًا، ولا أطلعت شجرًا، أفزع لذكرى ذلك وأجزع، ويكاد قلبي يتقطع، ثم أرجع إلى الله فأعلم أنه مع الصابرين، وأنه لا يضيع أجر العاملين، فيثلج صدري، وأمضي في جهادي الدائم، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا. ممن أشتكي؟ لو أن ما ألقى كان من لغط العامة ولقلقة الجاهلين لهان الأمر وتيسر المخرج. ولكن البلاء كل البلاء أن أشد الناس عداوة لأنفسهم هم أولئك المعلمون الذين يبعدون عن الدين، مدعين أنهم دعاته، ويمزقون أحشاءه زاعمين أنهم حماته، وما منهم إلا أحد شخصين: شخص ركب هواه فأعماه، فهو يرى الحق باطلاً، والصواب خطأ، وآخر غرَّته دنياه، وأضله جشعه، فران على قلبه ما يكسب، وامتنع عليه معرفة الصدق من كثرة ما يكذب، ولم يعد للحق إلى قلبه سبيل. ليتني كنت أشكو إلى الله جهل العالمين وحمق المعلمين، في مثل الجاهلية التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لمحو أحكامها، وإزالة أيامها، تلك جاهلية كان الضلال فيها بعيدًا، ولكن كان فهم القوم حديدًا، لذلك عندما لاح لهم ضوء الهدى أبصروه، وعندما قرع أسماعهم صوت الداعي أجابوه، كان القرآن يصدع أفئدتهم، فيليِّن من شدتهم، ويفل من شرتهم، ويفجر من صخر القسوة ينابيع الحنان والرحمة، وما كان أهل العناد فيهم إلا قليلاً، عرفوا الحق فأنكروه، وطائفة كانوا يفرون منه خوف أن يعرفوه، ولو سمعوا، لفهموا، ثم لم يجدوا بدًا من أن ينصروه، وإن الجحود مع ألفهم، كاليقين في العلم، كلاهما قليل في بني آدم. أما اليوم فإنما أشكو من قلة الفهم وضعف العقل واختلال نظام الإدراك وفساد الشعور عند الخاصة، فلا تجذبهم فصاحة، ولا تبلغ منهم بلاغة، وغاية ما يطلبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، وأن يوصفوا بالعلم وإن لم يعقلوا، وأن تُقضى حاجاتهم إذا سألوا، وأن ترفع مكاناتهم وإن تنزّلوا، وأن استعداد السامع للفهم يستدر المقال، ويسدد الفكر للنضال في الجدال، أما عيشك فيمن لا يفهم، فإنه ينضب منك ينبوع الكلام، ويطمس عين الفكر، ويزهق روح العقل. جعلني الشيخ عبد الرزاق البيطار ثالث الرجلين [٢] وما أنا في شيء من أمرهما، إلا نزر من الهمة، وكثير من معرفة قدرهما. الحمد لله لا أحصي ثناء عليه، وأشكره وأشكر نعمة مرجعها إليه، وأذكر من نعمه أكبر نعمة أمدني بها، وأكرمني بأسبابها إحسانه إليَّ، بعطف قلب الأستاذ علي وتقريبي من فؤاده وإحلالي مكانًا من وداده، كرمت نفس الأستاذ فكرم فيه مثالي، وكملت سجاياه فتخيل منها كمالي. نسب إليّ الشيخ الجليل شؤونًا كلها من سرائره، وألبسني من الأوصاف ثوبًا نسجته يد مظاهره. جعل لي السيد من حسن ظنه معينًا، وأفادني بثقته ركنًا ركينًا، وسندًا أمينًا، فأسأل الله تحقيق ظنونه، وأن يمدني دائماً بدقائق فنونه، وأن ينصرني بولائه، وأن يسلكني في عقد أوليائه، والسلام.