للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

(٢١) من هيلانة إلى أراسم في ٢ يولية سنة - ١٨٥
أترى أن الكمال لا يخلو من نقص والحسن لا يعرى من قبح؟ إني -
والحق أقول - أراني مدفوعة إلى اعتقاد ذلك ببواعث كافية.
فما عاينته من أحوال الإنكليز وأخلاقهم ينطبق انطباقًا تامًّا في بعض المواضع
على ما سمعته عنهم من السير جون سنت أندروز , ولكن تصفحي هذه الأخلاق
وترديد فكري فيها قد اضطرني إلى الأخذ بالحزم في امتداحها , وترك المجازفة في
إطرائها.
لأكثر الامهات اللاتي ألاقيهن في بيت السيدة وارنجتون أولاد عديدون، فما
أعجب ما يرى في جميعهم من مقدار تحققهم بما لمخالطيهم من الأوهام وسرعة
انطباع معتقداتهم الباطلة في نفوسهم، فتراهم على قلة علمهم بالأمور يفرقون بين
مطلق رجل والسري المهذب من الرجال , ومطلق امرأة والسيدة الكريمة من النساء
فرقًا تامًّا , ويميزون من ولدوا لخدمتهم ممن يجب لهم عليهم الإجلال والتعظيم لأول
نظرة إليهم غير مترددين في ذلك ولا مرتابين , ويحافظون على شرف الاقتداء بعظماء
الناس في سيرهم لا لأن ذلك مطلوب لذاته , بل لعدم الإخلال بما تواضع عليه
أولئك العظماء من الآداب. وإني لعلى يقين من أنك لو اطلعت على هذا العالم
الناشئ لوجدت فيه شيئًا من التصلف , فلشد ما يُرى فيهم من العجرفة , وما يُبدونه
أمام الأجانب من ظواهر الأبهة الصبيانية.
أليست حقيقة الأمر أن هؤلاء الإنكليز أنفسهم على ما لهم من الحرية الواسعة,
وما فيهم من كمال استحقاقها هم في غاية الخشية والخضوع لرأي الكافة؟ أليس
شأنهم في هذا شأن باسكال [١] الذي يسمي ذلك الرأي ملك الدنيا.
على أنني لا أدري أي تأثير له فيها يستحق به هذه التسمية , ولكني أخال أنه
له في إنكلترا من السلطان والسيطرة ما ليس مثله لفكتوريا , فإن جيراننا ينشأون
من صغرهم عبيدًا مختارين لبعض مواضعات قومية , فيوجبون على أنفسهم تعظيم
ما عظمه جمهور المهذبين من قومهم بدون بحث فيه ولا نظر , فكل منهم في
سيرته وآرائه تبع لغيره معتمد على ما لهذا الغير من الاعتبار وعلو الكلمة , وتراهم
في منتدياتهم قليلي الكلام , بل إن محادثاتهم لا تخرج عن حدود المواضيع التي
قدسها استقرار العادة. فلهم جمل من المعاني والأفكار كأنها تحجرت في أخلاقهم
وعوائدهم , فأجمعوا على عدم المناظرة والجدال فيها.
إني إلى الآن لم أعرف الإنكليز معرفة تكفي لإدراك سر هذه المباينات , وإنما
الذي أراه في كبارهم أنهم قد جمعوا بين غاية الاستقلال في أفعالهم وغاية التقليد في
آرائهم , وأما صغارهم فإنهم كذلك أحرار في حركاتهم وفي معظم ما تتوجه إليه
عزائمهم من أعمالهم , لكنهم يحجرون على أنفسهم أن تتعلق هذه العزائم من
الأعمال بما يخالف تقاليد أهليهم وآثار سلفهم وعوائد الصالحين من مخالطتهم ,
وربما كانت الحكمة في كل ذلك أن القوم قد رأوا طباعهم تجري بهم في بحر لجي
من الحرية جري السفن مدت شرعها فاضطرهم ذلك إلى طلب مرساة يوقفون بها
جريها فالتمسوها في ضبط الأخلاق البيتية وفي العوائد القومية والأصول الملية
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))