تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب في رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز [١]
(المسألة الثامنة) (موت سليمان) قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ} (سبأ: ١٤) اعلم أنه كثيرًا ما يحدث أن الإنسان إذا لَحِقَه الموت فجأة عقب انفعال عصبيّ ومجهود جسمانيّ يحصل له تيبس في الحال في جميع أجزاء جسمه بحيث يحفظ بعد وفاته هيئته وشكل جسمه قبل الممات، ويبقى على هذه الحالة من بضع ساعات إلى يومين فأكثر، وخصوصًا إذا كان الجو باردًا , وتسمى هذه الحالة في كتب الطب باللغة الإنكليزية Spasm Cadaveric أي: تيبس الموت. ولذا يشاهد في بعض الحروب أن بعض العساكر يموت ويبقى واقفًا مستندًا على بندقيته كأنه حي إلى أن يبتدأ التعفن في الجثة , فتزول يبوستها وتسقط. فالظاهر أن سليمان عليه السلام كان واقفًا بعد مجهود جسماني عقلي مستندًا على عصاه {مِنسَأَتَهُ} (سبأ: ١٤) ففاجأه الموت، فحصل له ما يحصل لغيره , وبقي قائمًا كأنه لم يَمُتْ فشاهدت الجن أنه لا يبدي حراكًا، ولا يظهر عليه أنه يتنفس لعدم تحرك صدره؛ فداخلهم شك في حالته , وربما اجتمع على وجهه الذباب فلم يطرده عنه , فازداد شكهم , ثم دخلت فأرة (وهي من دواب الأرض) وأخذت تلعب حوله , وأخيرًا بدأَتْ تقرض عصاه والجنُّ إلى ذلك ينظرون فيتعجبون , ولكنهم خافوا أن يتركوا أعمالهم المكلفين بها , أو أن يظهروا شكهم في حياته، ولبثوا على هذه الحالة مترددين بِضْعَ ساعات أو يومًا أو يومين. فلما حركت الفأرة العصا التي أخذت تقرضها عن موضعها قليلاً اخْتَلّ التوازن فسقط على الأرض وَبِذَا أَيْقَنَتِ الجِنُّ أنه كان ميتًا , وأن اشتباههم كان في محله. ولو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا لحظةً بعد وفاته قائمين بأشغالهم الشاقة , ولعرفوا الوفاة حين حدوثها بلا تردد. ولفظ (لبث) يستعمل في الزمن القليل والكثير كقوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} (البقرة: ٢٥٩) . فهذا هو التفسير الصحيح لهذه الآية الذي ينطبق على العلم، ولا يوجد في تاريخ سليمان ما ينافيه. * * * (المسألة التاسعة) (الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (ص: ٣٤-٣٥) معنى هذه الآية: أن سليمان لَمّا وَرِثَ أباه داود في مُلْكِهِ سأَلَ اللهَ أنْ يرزقَه وَلَدًا لِيَرِثَهُ مِن بَعْدِ مَوْتِهِ , ولِيَبْقَى المُلْكُ في نَسْلِه , فاختبره الله تعالى , ولم يجب دعاءَه في أول الأمر إلا بإعطائه ولدًا ناقص الخلقة (كأن يكون لا رأسَ له ولا مخَّ , أو نحو ذلك مما يحصل أحيانًا لبعض المولودين) ولما كان هذا المولود أقرب إلى الميت منه إلى الحي المدرك سمّاه الله جسدًا كأنه لا رُوحَ له , فلمّا وجد سليمان أن مَن رزقه الله ليخلفه في كرسيه عَدَمُهُ خَيْرٌ مِن وُجُودِهِ ضَجِرَ، وتألَّمَ، ولَمْ يَشْكُرِ اللهَ على كل حال , ولكنه لم يلبث إلا قليلاً ورجع إلى الله يستغفره على ما فرط منه , ويرجوه العفوَ عن عدم رضائه بِما قضاه تعالى , وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} (ص: ٣٥) أي حيثُ إنك لم تَرْزُقْنِي بِمَن يَرِثُني في هذا المُلْك فوسعه علي، وزدني سلطانًا , ومتعني بما لا يصل إليه أحد من الملوك بعدي حتى تعوضني بذلك ما حرمتني من النَّسْل الصالح , فاستجاب الله دعاءَه , وسَخَّرَ له الريحَ , وسَلَّطَه على الجن والإنس والطير , وبعد ذلك رَزَقَه الله تعالى أيضًا بمن يرثه (وهو ابنه رحبعام) ولكنه كان ضعيف العقل سَيِّئ التدبير , رديء السياسة حتى خرجت عليه عَشَرَةٌ من أسباط بني إسرائيل، ووقع الانقسام بينهم في عهده. فمما تقدم تعلم أن قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ} (ص: ٣٤) معناه ذاك المولود الناقص , وهو أول مَن رُزِقَه , وقال: ألقيناه على كرسيه؛ لأنه بمنزلة ولي عهده كما يقولون الآن , وتقول العرب: (أُلْقِيَ الليلةَ على كرسي الفرس مولودٌ) مثلاً إذا رزق كسرى بالولد الذي يرثه في ملكه، ويجلس على كرسيه من بعده. وهذا التفسير هو الذي كان يفهمه العرب من هذه الآية؛ ولذلك ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها ما يقرب منه , ولولا حَشْوُ مفسرينا الإسرائيلياتِ في تفسير الكتاب العزيز ما فَهِمَ أحدٌ منها خلافه؛ فاحذر مما قالوه , ولا تَعْبَأْ به، فإنه مَثَارٌ لشبهات كثيرة. * * * (المسألة العاشرة) (اللؤلؤ والمَرْجَان) قال الله تعالى: {مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن: ١٩-٢٢) , فقال كثير من الناس: إن اللؤلؤ والمَرْجَان يخرجان من البحر المالح, ولا يوجد منهما شيء في البحر الحلو. واعلم أن اللؤلؤ يخرج من كثير من الأنهار , ويوجد في بلاد أوستراليا أنهار مشهورة باستخراج الصدف واللؤلؤ منها؛ وهاك أسماء بعضها: نهر هنتر Hunter , وكلارنس Clarence , وكوك Cook's , وكليد Clyde , وغيرها، وهي موجود في ولاية ويلز الجنوبية الجديدة Wales South New من أوستراليا. * * * (المسألة الحادية عشر) (السماء في القرآن) السماء: من سَمَا، أي: ارتفع , فالسماء في اللغة كل مرتفع فسقف البيت سماء والسحاب سماء , والكواكب سماوات والفراغ اللانهائي الذي فوق رءوسنا هو سماء أيضًا , وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الشريف بعِدَّةِ مَعَانٍ تُعْرَف من السياق , وتفسر في كل مقام بحسبه , وإن اشتركت كلها في معنى الارتفاع والسمو. وكذلك يوجد في اللغة العربية ألفاظ كثيرة تُستعمل في مَعَانٍ مختلفةٍ لا يعينها إلى السياق. مثلاً (لفظ) نَجْم يُسْتعمل في الكوكب , وفي النبات، فمثال الأول: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النجم: ١) ومثال الثاني: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: ٦) والمقام هو الذي عين كلا من المعنيين , ويسمى هذا النوع من الألفاظ بالمشترك. إذا عرفت ذلك فاعلم أن لفظ السماء إذا ورد في القرآن يجب أن يعرف معناه من المقام , ويجب أن لا يحمل في جميع المقامات على معنى واحد مثلاً في قوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} (الرعد: ١٧) معناه: السحاب؛ ولذلك قال في آية أخرى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الوَدْقَ} (النور: ٤٣) (أي: المطر) {يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (النور: ٤٣) الآية , وفي قوله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} (الحج: ١٥) يعني: سقف البيت , وفي قوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ} (الرحمن: ٧) معناه: الكواكب. والألف واللام هنا للجنس , وكذلك في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} (ق: ٦) أي: جعلنا أجزاءَ كل منها متماسكة , ثم هي في مجموعها متجاذبة بعضها إلى بعض كالبُنْيَان يشُد بعضه بعضًا {وَزَيَّنَّاهَا} (ق: ٦) بأن جعلنا أشكالها جميلة مستديرة , وأن بعضها مع بعض لها منظر بهيج , ثم أضأناها بالأنوار الذاتية أو المنعكسة عليها من غيرها {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: ٦) أي: شقوق , فلا ترى كوكبًا منها به كسور أو منشقة أجزاؤه أو متفرقة , فهو كتأكيدٍ لِقَوْلِه: {بَنَيْنَاهَا} (ق: ٦) وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} (الملك: ٥) السماء الدنيا معناها الجو , أو الفراغ المحيط بنا القريب منا , وهو المزين بالكواكب , وأما ما وراءه من الفراغ اللانهائي , فليس به زينة ولا شيء , وجعلناها رجومًا للشياطين بانقضاض الشهب منها لإهلاكهم كما في قوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (الصافات: ١٠) وهذه المسألة لا يوجد في العلم الطبيعي الآن ما يصدقها , ولا ما ينفيها , وغاية الأمر أنها غير معروفة له , فنحن نصدقها لإتيان النبي الصادق بها , وقد ثبتت نبوته عندنا بالبراهين القاطعة كما أوضحناه في مقالات الدين في نظر العقل الصحيح. وقوله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} (الملك: ٣) المراد به: الأجرام السبعة العلوية المشهورة التي كانت تعرفها العرب، وتراها بأعينها وهي القمر وعُطَارد والزهرة والشمس والمِرِّيخ والمُشْتَرِي وزُحَل. وإنما خصّ هذه السبعة بالذكر؛ لأنها أكبر ما تعرفه العرب وأكبر ما تشاهده , وإلا فالأجرام السماوية العظيمة أكثر من سبعة. وليس في القرآن الشريف ما يدل على الحصر. على أن بعض علماء اللغة قالوا: إن العرب إذا أرادت المبالغة في العدد تأتي بلفظ سبعة , وما ركب منها كالسبعين والسبعمائة , واستشهدوا على ذلك بنحو قوله تعالى في وصف جهنم: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} (الحجر: ٤٤) فإن المقام مقام تهويل لا يناسبه إلا ذكر العدد الكبير. وإن لم يكن لِجَهَنَّمَ سوى هذه الأبواب السبعة اقتضى المقام عدم ذكر العدد هنا بالمَرّة؛ لقلته، فلو لم يكن لفظ السبعة يستعمل عندهم في مطلق الكثرة لَمَا ذكره هنا؛ ولذلك قال أئمة المفسرين في مثل هذه المواضع: إن العدد لا مفهومَ له , ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (لقمان: ٢٧) . قد يقول قائل ما بالك تَذْكُرُ هنا في تفسير السماوات السبع القمر والشمس مع أن القمر تابع للأرض , والشمس هي مركز العالم والسيارات تدور حولها , ومنها أرضنا هذه. ونقول: إن هذه المسائل الفلكية لم يتعرض لها القرآن هنا في مثل هذه الآية , وغاية ما ذكره أن الله خلق سبع سموات طِبَاقًا , وقلنا: إن الأجرام التي خلقها الله هي عالية بالنسبة لنا؛ فهي سموات وهي سبع طباق , بعضها فوق بعض بالنسبة لنا أيضًا , فلا دَخْلَ لِذلك في كون بعضها تابع لغيره [١] فإن هذه المسائل لا علاقة لها بتفسير الآية كما لا يخفى على ذِي عقل. ويستعمل لفظ السماء في اللغات الإفرنجية أيضًا في عِدَّة معانٍ مختلفة , ففي الإنكليزية لفظ Heaven قد يُرَادُ به السحاب أو الجوّ أو الذات العليّة أو الجنة أو غير ذلك , والمقام هو الذي يعين هذه المعاني المختلفة كما هو المعهود في اللغة العربية. * * * (المسألة الثانية عشرة) (الأرض والجبال) قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} (الطلاق: ١٢) , وقال: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} (النحل: ١٥) , وقال: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (النبأ: ٧) . لم يذكر في القرآن أن الأرض سبع إلا في الآية المذكورة هنا , ولم يذكر فيه مطلقًا لفظ الأرض بالجمع ولا في الآية السابقة بخلاف السماء فإنها ذكرت بالجمع في أكثر المواضع , فالظاهر أن الأرض شيء واحد ولكنها ذات طبقات سبع؛ فلذا قال هنا: {وَمِنَ الأَرْضِ} (الطلاق: ١٢) (بالإفراد) {مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: ١٢) أي: في العدد , وهي كونها سبعًا , وفي كونها طباقًا , ويجوز أن تكون طبقاتها أكثرَ من سبع , وإنما خَصّ هذه بالذكر لِكَوْنِهَا الطبقات الأصلية أو الأساسية , فإن الآية لا تدل على الحصر , فلا مانِعَ مِن أن يكونَ بعض هذه الطبقات الأصلية مركبًا من طبقات أخرى , وقد يكون لفظ (سبع) لا مفهوم له , ومستعمل هنا للدلالة على الكثرة فقط , كما بيناه سابقًا في مسألة السموات. وقوله: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} (لقمان: ١٠) . تميد مِن مَادَتِ السفينةُ؛ أي: مَالَتْ واضطربت , فمعنى الآية: أن الله أثقل الأرض بالجبال لِمَنْعِهَا مِن الميدان والتزلزل الدائم , وذلك أن الجبال بوجودها في بعض الجهات جعلت ثقل الأرض في جميع الجهات متساويًا بالنسبة إلى المركز , فإذا دارت الأرض حول مركزها لا يحصل أدنى اضطراب فيها , ولو كان بعض جهاتها أخف من البعض الآخر لشعرنا بالاهتزاز يوميًّا من حركة الأرض حول محورها. وأيضًا فإن الجبال بثقلها العظيم على الأرض , وبما امتد من قواعدها من الشعب الصخرية كونت طبقة حجرية عظيمة تقي ما بين الجبال من الوديان من انفجار باطن الأرض الملتهب , ونسف قشرتها أو زلزالها الدائم , ولا يخفى أن أغلب الأراضي المسكونة إنما هي في الحقيقة وديان بين جبال. فلولا الجبال لتوالت الزلازل، ولما هدأ للبشر جميعًا بَالٌ، ولما كان حدوث الزلازل نادرًا كما هو الآن، وحاصلاً لبعض البشر دون بعض. وقوله: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} (النبأ: ٧) هو كقوله بعده: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} (النبأ: ١٠) أي: كاللباس في الستر. فالمعنى: أن الجبال كالأوتاد المغروسة في الأرض , وإذا لاحظنا أن الأرض تجذبها من جميع نقطها إلى مركزها كما تشد الأوتاد بالحبال المربوطة بها أدركنا ما بينهما من الشبه العظيم , وفهمنا نكتة هذا التشبيه. وكما شبه الله تعالى الجبال هنا بالأوتاد كذلك شبه الأهرام المصرية بها في قوله: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} (الفجر: ١٠) . * * * (المسألة الثالثة عشرة) (تفسير آيات عدم صلب المسيح) قال الله تعالى] وَقَوْلِهِمْ [أي: اليهود {إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ} (النساء: ١٥٧) قالوا ذلك تهكمًا , والمسيح معناه عندهم الملك؛ لأنهم كانوا يمسحون ملوكهم بالزيت عند توليتهم , وسمي عيسى مسيحًا؛ لأنه كملك رُوحَانِيّ استولى على قلوب الناس ونفوسهم , وخلصهم من عاداتهم الرديئة , ومن أسر التقاليد والأوهام والعقائد السخيفة ورقى نفوسهم , وأصلح أمورهم، فهو كالملوك العظام الذين كانوا يأتون اليهود , فيخلصونهم من الأسر والبلايا , ويرقون شئونهم ككورش ملك فارس الذي تقدم ذكره وكانوا يسمونه هو وغيره من الملوك النافعين لهم بالمسيح , وكانوا يتوهمون أن المسيح سيأتي , ويرد لهم ما فقدوه من المجد والسلطان (عيسى) تعريب لفظ يشوع ومعناه المُخَلِّص، وهو علم مشهور عند اليهود , وسمي به كثيرون قبل المسيح بينهم كيشوع خليفة موسى عليهما السلام ,وكانوا يتفاءلون بهذا الاسم ويرجون أن يكون لهم بشرى خير لخلاصهم مما كانوا فيه من الرزايا والمصائب. {ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: ١٥٧) أي: اشتبه عليهم الأمر فأخذوا واحدًا يشبهه ظانين أنه هو المسيح , وصلبوه وقتلوه. واعلم أن وجود أشخاص متشابهين في الخلقة أمر مشاهد معروف , وقد يكون الشبه تامًّا بحيث يخدع به أهله وذووه فما بالك إذا كان القابضون على المسيح ما كانوا يعرفونه , ولا الذين حاكموه , ولا الذين حضروا تنفيذ الحكم , فقد فرّ تلاميذُه من حوله وهربوا , وكل ذلك صريح في نصوص العهد الجديد. ويوجد في كتب الطب الشرعي حوادثُ كثيرةٌ في باب تحقيق الشخصيات دالّة على أنه كثيرًا ما يحدث للناس الخطأ في معرفة بعض الأشخاص , ويشتبهون عليهم بغيرهم وقد ذكر (جاي) و (قرير) مؤلِّفَا (كتاب أصول الطب الشرعي) في اللغة الإنكليزية حادثة استحضر فيها ١٥٠ شاهدًا لمعرفة شخص يدعى (مارتين جير) فجزم أربعون منهم بأنه هو هو , وقال خمسون: إنه غيره , والباقون ترددوا جدًّا , ولم يمكنهم أن يبدوا رأيًا , ثم اتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غيرَ مارتين جير , وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون , وعاش مع زوجة مارتين محاطًا بأقاربه وأصحابه ومعارفه لمدة ثلاث سنوات , وكلهم مصدقون أنه مارتين , ولما حكمت المحكمة عليه لظهور كذبه بالدلائل القاطعة استأنف الحكم في محكمة أخرى , فأحضر ثلاثون شاهدًا آخرون , فأقسم عَشَرَةٌ منهم بأنه هو مارتين , وقال سبعة: إنه غيره, وتردد الباقون، وقد حدثت هذه الحادثة سنة ١٥٣٩ في فرنسا، وأمثالها كثير. وقد بلغ شبه بعض الأشخاص لغيرهم أن وجد فيهم بعض ما يوجد في غيرهم ممن شابههم من الكسور أو الجروح أو آثارها، وغير ذلك حتى تعسر تمييز بعضهم عن بعض , ولذلك جدّ الأطباء في وضع مميزات لأشخاص البشر المختلفين. فإذا كان الأمر كذلك فهل في حادثة المسيح أدنى غرابة؟ ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (النساء: ١٥٧) كما في الحادثة التي سبقت , ولذلك اختلفت طوائف النصارى قديمًا وحديثًا في هذه المسألة , واختلف فيها ما وجد عندهم من الكتب كما بيناه في موضع آخر. ولو كانت حادثة الصَّلْب يقينيةً لَمَا وقعَ فيها ما وقع من الاختلاف بينهم. {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء: ١٥٧-١٥٨) أي: إنه لم يقتل , ولكن توفّاه الله، ورفع روحه إليه , وأسكنها عنده في جنان النعيم , كما قال في آية أخرى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (آل عمران: ٥٥) , وكقوله تعالى حكايةً لقول المسيح عن نفسه في الآخرة: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة: ١١٧) فالرفع هنا رُوحاني معنوي , وكذلك وَرَدَ الرفع في القرآن في مواضع كثيرة في الأمور المعنوية. قال تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: ٢٥٣) , وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} (الأعراف: ١٧٦) , فمعنى الآية: أنهم لم يقتلوه , ولكن الله هو الذي قبضه إليه بدون أن تصل إليه أيدي الأعداء بالسوء , ورفع روحه إلى جنته , وأسكنه بجواره , وذلك كله على حد قوله في مواضعَ أخرى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران: ١٦٩) أي: تتمتع أرواحهم في الجنة. وقوله: {إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر: ٥٤-٥٥) , فكل هذه العبارات: كـ (عند الله) , و (رفعه الله إليه) , ونحوها مستعملة في معانيها المجازية لا الحقيقية. فالظاهر أن المسيح عليه السلام ذهب إلى جهة من الجهات , أو جبل من الجبال فتوفاه الله هناك , ولما ذهبوا ليقبضوا عليه وجدوا شخصًا يشبهه فاغتروا به فأخذوه، وقتلوه، وصلبوه. ولعلّ هذا الشخص هو يهوذا الإسخريوطي , وكان يقصد خيانة المسيح , وأن يقبض عليه , ويسلمه، فوقع فيما كان يدبره لسيده , فاشتبهوا فيه، وأخذوه أخذًا وَبِيلاً , وأما المسيح فكان قد توفّاه الله , وأنجاه من مثل هذا العذاب. وذهاب بعض الأنبياء إلى بعض الجبال ووفاتهم بها أمر معهود , كما وقع لموسى عليه السلام (راجع سفر التثنية ٣٤: ١ - ٦) . ثم قال الله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} (النساء: ١٥٩) أي: إن كل شخص من أهل الكتاب لا بُدَّ عند وفاته أن تتضح له الحقيقة , فيؤمن بالمسيح كما جاء به القرآن , وليس معناه أنهم يؤمنون به عند نزوله يوم القيامة كما هي عقيدة النصارى؛ فإن الآية صريحة في أن كل شخص منهم سيؤمن به , وأما عند نزوله فلا يؤمن به إلا الذين يحضرونه، وهو خلاف نص الآية. واعلم أن المسلم لا يجب عليه الإيمان بأنه سيجيء يوم القيامة , والظاهر أن هذه عقيدة سَرَتْ من النصارى إلى المسلمين. ولم يأت بها القرآن. والأحاديث لا يؤخذ بها في العقائد إلا إذا تواترت، وليس في هذه المسألة حديث متواتر. وأما قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} (الزخرف: ٦١) , فمعناه أنه لدليل على قدرة الله على البعث , فإن الذي خلقه بلا أب , والذي أحيا الموتى على يديه قادر على إحياء الموتى يوم القيامة , وهذه الآية كقوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: ٩١) . ولقائل أن يقول: إذا كان المسيح مات وتفرق تلاميذه من حوله بسبب أعمال اليهود , وكانوا قليلي العدد؛ فما معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (الصف: ١٤) , ونقول: أما في عصر المسيح عليه السلام فقد كانوا مؤيدين بقوة اليقين والإيمان ظاهرين على أعدائهم بالحُجّة والبُرْهان, وبما يظهره الله تعالى على يده من المعجزات والآيات البينات , وأما بعد وفاته فقد سلّط الله الرومانيين على اليهود , فشتتوهم في أقطار العالم , وخربوا مسجدهم المقدس , ولم يصب المسيحيين في أثناء ذلك أدنى أذى، ثم صاروا ينتشرون في الأرض ويزداد عددهم شيئًا فشيئًا حتى دخل قسطنطين في المسيحية , وصارت ديانتهم هي الديانة الرسمية للدولة الرومانية، وبذلك تمّ لهم الظهور على أعدائهم اليهود , ولا يزالون كذلك إلى الآن كما قال تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} (آل عمران: ٥٥) , وإنما عبر تعالى بالفاء في قوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (الصف: ١٤) مع أن ظهورهم الماضي لم يظهر إلا بعد مُضِيّ سنين طويلة؛ لأن سنيننا هنا هي عند الله كلحظات {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: ٤٧) {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} (المعارج: ٦-٧) وغلوّ المسيحيين في بعض معتقداتهم , وتأليههم لنبيهم لا ينافي أنهم مؤمنون به؛ فلذا وصفهم الله تعالى بالإيمان في هذه الآية كما وصفهم به في آيات أخرى كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} (الحديد: ٢٨) الآية. فلا منافاة بين الغلوّ في العقيدة وبين أصل الإيمان. (للمسائل بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))