(إعادة القانون الأساسي ومجلس المبعوثان في الدولة العلية)
في صبيحة يوم الجمعة المبارك ٢٥ جمادى الآخرة صدرت الإرادة السلطانية بإعادة (مجلس المبعوثان) والأوامر من مقام الصدارة إلى الولايات بالانتخاب. فشمل الفرح والسرور جميع العثمانيين في دار السلطنة وجميع الولايات , وفي جميع أقطار الأرض وعدوا هذا اليوم العظيم عيدًا عامًّا للأمة العثمانية على اختلاف مِلَلِهَا ونِحَلِهَا. أما سبب نيل هذه الأمنية التي تشوف إليها العثمانيون مِن نَحْوِ ثُلُثِ قَرْنٍ بعد ما سلبت منهم، فهو التدبير العظيم الذي قامت به جمعيات الأحرار العثمانيين في أوربا ومصر بعد اتحادها ودخول كبار ضباط الجيش المستنيرين فيها , وربما نُبيّن ذلك في وقت آخر. وما كاد نبأ البرق يوافي مصر بهذه البشرى حتى انبثّ فيها بين العثمانيين مِن الترك والسوريين والأرمن وغيرهم , فأنشأ يُهَنِّئُ بعضُهم بعضًا والبِشْرُ يتدفق مِن وجوههم. ثم طاف جمهور منهم في الشوارع الكبيرة بالقرب من الأزبكية وهم يهتفون بالأناشيد العثمانية. ثم اجتمع مئاتٌ منهم في رحبة قهوة (اسبلنددبار) وطفق يترنّمُ بعضُهم بالأناشيد والآخرون يصفّقون لهم. وقام غير واحد منهم فخطبوا بالتركية , وقام صاحب هذه المجلة فخَطَبَ بالعربية خُطْبَة وَجِيزَة صفَّقَ لها الجمهورُ مِن حَمَلَةِ الطرابيش والبرانيط بهجةً واستحسانًا. كان موضوع الخطاب أن هذا اليوم عيد لجميع العثمانيين على اختلاف مذاهبهم وأديانهم وأجناسهم، وأن الفضل في نيلنا الدستور عائد لمساعي أحرارنا وجمعياتنا السياسية، وضباطنا ذوي البسالة والحَمِيّة، وأنه يجدر بنا مَعْشَرَ العثمانيين أن نفاخر جميع الأمم بنيل الدستور من غير ثورات داخلية تُرَاقُ فيها دِماءُ الألوف ويَهْلِكُ فيها الحَرْث والنَّسْل، وأنه ينبغي لنا أن ننسى الماضي , وأن نعمل للمستقبل فنظهر للأمم كلها أننا أهل لهذا النوع الراقي من الحكومة، فيجب أن يتحد التركِيّ والعربِيّ والرومِيّ والأرمنِيّ وسائر الأجناس العثمانية , ويقوموا بالأعمال التي ترفع شأنَ البلاد على قواعد المحبة والمساواة... ومما قلته أيضًا أننا نشكر للحضرة السلطانية المبادرة إلى إجابة طلب الضباط الناطقين بلسان أحرار الأمة، فَبَطَلَ التصفيقُ أو قَلَّ عند ذِكْرِ السلطان , وأشار كثير من الترك والأرمن إشارات الإنكار. وفي يوم السبت التالي اجتمع في دار رفيق بك العظم جمهورٌ عظيم من فُضَلاء العثمانيين المختلفين في الجنس المُتَحِدِينَ في العثمانية لأجل المذاكرة في تنظيم مظاهرة بإعلان السرور , وإرسال برقيات الشكر إلى جمعيات الأحرار في أوربا وإلى الآستانة، وقد كانت جمعية الشورى العثمانية قررت في يوم الأربعاء الماضي جمع أكثر هؤلاء الأحرار للمذاكرة في شئون الثورة ومطالبة الصدر الأعظم سعيد باشا بأن يختم تاريخه بمساعدة الأمة على إعادة الدستور , وجمع (مجلس المبعوثان) فلما بشرنا البرق في مساء يوم الجمعة بصدور الإرادة السلطانية بذلك تحول مقصد الاجتماع إلى ما ذكرنا. اقترح الجمهور أن ترسل تهنئة برقية إلى الأمير صباح الدين داماد (ابن أخت السلطان) رئيس جمعيات الأحرار بباريس يشكر له فيها سعيه وسعي الأحرار ويكلفه فيها أن يبلغ نيازي بك رئيس الضباط الذين أظهروا الثورة العسكرية في مكدونية وإخوانه كنوري بك وأنور بك شكرهم وسرورهم. ورسالة أخرى إلى الصدر الأعظم. فاقترح صاحب هذه المجلة إرسال رسالة خاصة إلى السلطان. قلت: إن ضباطنا وأحرارنا طلبوا والسلطان أعطى فنشكر له أنه قدر الحال حقَّ قدرها وبادرَ إلى الإجابة ولم يضطر الجند إلى سفك الدماء. فوافقني على هذا الاقتراح مَن حضر من السوريين أكثرهم بالقول وبعضهم بالسكوت، وعارضني أكثر الترك والأرمن، وقال واحد من أشهر أحرار الترك: إنه لم يُجِب الطلب فضلاً وإحسانًا , ولكنه أجابه بعد أن أشرعت في وجهه مئة وخمسون ألف حربة (سنكه) وقال بعض المعتدلين منهم: لا بأسَ بأن يذكر في تلغراف الصدر الأعظم تبليغ السلطان سرور العثمانيين , وبعد طول البحث انتخب الجمهور لجنة منهم لتقرير ما يجب , وجعلوا رئيسها إسماعيل حقي بك القائمقام العسكريّ (لأن الدستور رجع بقوة الجند) , فقررت أن تحتفل في أحد دور التمثيل احتفالاً يَخْطُبُ فيه العثمانيّون بالتركيّة والعربيّة والفرنسيّة والأرمنيّة والروميّة. وأن يعرض على الجمهور المحتفل صورة رسالتين برقيتين إحداهما للأمير صباح الدين أفندي، والثانية للصدر الأعظم، وترسلان بعد إقراره عليهما. وقد بذل الحاضرون ما يلزم من النقود لأجل ذلك بغير اكتتاب بل بمجرد الأريحية. وفي مساء ذلك اليوم اجتمع جمهور من المصريين في حديقة الأزبكية لإظهار السرور بنيل العثمانيين للدستور ومجلس النواب (المبعوثان) حضرنا هذا الاجتماع في أثنائه , واقترح علينا حسين بك تيمور، الذي دعا إلى الاحتفال وبعض العثمانيين، أن نخطُب بالحاضرين خُطْبَة تُناسب المقام , وكان جُلُّ أقوالهم إطراء للسلطان بأنه تفضل وتكرم بالدستور أي بغير عِلّة ولا سبب، ولا ثورة ولا طلب، وأن جيوشه منتشرة من منابع النيل إلى سيلان! ثم رأينا الجرائد كتبت عن هذا الاحتفال , فوصفته الجريدة والمقطم كما حصل وذكر اللواء عنه نُبْذَة صغيرة معظمها كذب، وهذا ما جاء في الجريدة. * * * (مظاهرة في حديقة الأزبكية) أعلن حضرة حسين بك تيمور أنه سيخْطُب في حديقة الأزبكية نحو الساعة السادسة بعد ظهر أمس؛ لإظهار السرور بمنحة الدستور لإخواننا العثمانيين. فبِنَاءً على هذا الإعلان توافدَ الناسُ مِن خاصَّة وعامَّة إلى حديقة الأزبكية، ولما وافت الساعة السادسة الْتَفّوا حول كوشك الموسيقى , فافتتح الخطابة حضرة ربيع أفندي المدرس بالمدرسة التحضيرية , فبسط كلمة عن فوائد الدستور , ثم قال: إننا نؤمل البلوغ إلى غايتنا من نيل المجلس النيابي، وإن طال علينا الأمد. ثم اختتم خُطْبته بالدعاء لجلالة السلطان والأمة العثمانية والجناب العالي. وتلاه شاب يدعى الشيخ حسين الغزي من طلبة العلم في الأزهر الشريف فحذا حذو الخطيب الأول في الموضوع , ثم تلاه حضرة الشيخ صادق عمران فتلا قصيدة يمدح بها جلالة السلطان والأمة العثمانية , ثم طلب جماعة من رجال الصحافة والأدب إلى حضرة الأستاذ العلامة السيد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار، أن يتكلم في الموضوع كلمات تروي الغليل فأجاب دعوتهم , وارتقى مكان الخطابة , فقال ما خلاصته: هذا اليوم هو عيد للعثمانيين عامَّةً وعيد للمسلمين خاصَّةً، فإنه عيد بحكومة الشورى التي يتمتع بخيرها العثمانيون كافَّةً من جميع الملل والأجناس. وحكومة الشورى التي قررها الإسلام بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) , وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: ٨٣) . مسائل الأمن والخوف من الأمور العامة المتعلقة بسياسة الأمة وإدارتها , ولم يفوض القرآن الأمر فيه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وَحْدَهُ وهو الإمام المعصوم وصاحب الشريعة ومبلغها بل جعل الأمر فيها إليه وإلى أُولِي الأمْر مِن الأُمّة يديرونها بالشورى بينهم. من هم أولو الأمر؟ زعم بعض المحرّفين أو المخرّفين أن أُولِي الأمر هم الملوك والسلاطين، وهو زعم ظاهر البطلان، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن معه حين نزلت الآية ملوك وسلاطين , وإنما كان يستشير أولي الرأي والمكانة من الأمة، فهم أولو الأمر بغير نزاعٍ. أفرأيتم هذه الهداية إلى حكومة الشورى وسلطة الأمة. هل يوجد عناية وتأكيد في شريعة ودين أبلغ منها؟ إذا كان رب العالمين لم يَرْضَ أنْ يكون خاتم رسله مستقلاًّ بإدارة الأمور العامة دون أهل الرأي من أمته , فكيف يرضى أو يشرع لغيره ممن هو دونه بذلك؟ مع هذا كله لم تلبث حكومة الإسلام بعد الخلفاء الراشدين أن صارت شخصيةً استبداديةً , ولا نخوض في الكلام عن الماضي , فإنما غَرَضُنَا الكلامُ عن الحاضر. تقلبَ الزمان، ودالتِ الدولُ، ودخل العالم الإنساني في طَوْر جديد، فسبق غير المسلمين إلى حكومة الشورى، وكانت حكومة دولتنا العَلِيَّة، وهي شخصية على خطر بين الحكومات النيابية الشورية المجاورة لها , ففكر بعض أصحاب العقول الكبيرة فيها من نحو نصف قرن في جعل الحكم بيد الأمة , وأنفذوا ذلك من نحو ثلث قرن , فوضعوا القانون الأساسي وأنشأوا (مجلس المبعوثان) الذي تعبرون عنه بمجلس النواب، ولكن لم تلبث السلطة المطلقة أن استردت هذه المنحة أو هذا الحق منهم. لو كانت الأمة العثمانية في ذلك الوقت مستعدةً للدستور استعدادَها اليوم لَمَا أمكن أخذه منها، ولكنها لم تَنَلْهُ باستعداد الجمهور , بل باستعداد أفراد مِن نابِغِي وزرائها أصحاب الأدمغة والأفكار البعيدة، والغيرة الشديدة كمدحت باشا وإخوانه. لم يكن العقلاء في الأمة العثمانية يعدون على الأصابع فيموت الدستور بموتهم، بل كان في الأمة كثير من أهل التربية العالية والمعارف السامية , ولكنهم لم يكونوا منبثين في الأُمّة كلها , ولا مشتغلين بإشراب رُوحِها مَعْنَى الحكم الذاتي. فلما رأوا أنفسهم قد سلبوا ما فيه سعادة الأمة وعزة الدولة، وأنه لا سبيلَ إلى استرجاعه من الأعلى كما جاء أولاً بتدبير مدحت باشا وحسين عوني باشا وإخوانهما رَأَوْا أَنْ يطلبوه مِن جانب الأُمّة بتوجيه نفوس المتعلمين إليه؛ فأنشأوا الجمعيات السِّرِّيَّة التي ظَلَّتْ تَسْعَى وَتَدْأَب وتصارع الصعوبات حتى أتيحَ لها الظَّفَرُ الآن ونالت ما تتمناه. ولما بلغ هذا المقام من البيان التاريخي المفيد كبر على أناس لم يفقهوا قوله فحدث شيء من الشغب وانقطع الخطيب عن الخطابة.ا. هـ كلام الجريدة. وأَزِيدُ على ما ذَكَرَتْهُ الجريدةُ ما جاء في بعض الصحف , وهو أن بعض المصريين صاحَ لِيَحْيَا السلطانُ. لِتَسْقُط تركيا الفتاة. أو حزب تركيا الفتاة. فصاح بصياحه جمهور مِن الحاضرين فاستاء مَن كان هناك مِن فضلاء الترك وغيرهم من العثمانيين , وقال قائل منهم: يا شيخ رشيد , لا تتكلم على هؤلاء الذين لا يفهمون. فما زادهم ذلك إلا صياحًا بسقوط تركيا الفتاة أي الأمة العثمانية في حياتها الدستورية الجديدة! ! ! وظنوا لجهلهم أنّ مِن لوازم حب السلطان أن يعيش على شيخوخته وضعفه عمرًا طويلاً بغير أُمَّة أو بأُمّة ميتة، وُجُودُهَا كَالْعَدَمِ، فَهَكَذا يكون الاحتفال بالدستور! ! أما العثمانيون الأخيار , فقد جعلوا موعد احتفالهم مساء يوم الثلاثاء غُرّة رجب , وأن لا يذكر الخُطَباء فيه اسم السلطان بذمّ ولا مدح , ولا تهنئة ولا شُكْر عَمَلاً بِرَأْيِ السواد الأعظم , وخلافًا لرأي أكثر السوريين , وهم العدد الأقل في جمهور المؤتمرين بالاحتفال , وسنذكر شيئًا عن الاحتفال في الجزء الآتي. أرسل إلينا كثير من المُحِبِّينَ رسائل التهاني بنيل أمتنا للدستور لعلمهم بما أصابنا مِن الاستبداد، منها ما طار به البرق ومنها ما عدا به البريد، منها ما هو بعنواننا الخاصِّ، ومنها ما هو بوصف جمعية الشورى العثمانية. فنشكر لجميع المهنئين عاطفتهم الشريفة , وَنَخُصُّ بالذكر لَجْنَةَ الشورى العثمانية في البرازيل ورُبَّمَا ننشر شيئًا مما فيه العِبْرَة والفائِدَة مِن تلك الرسائل.