للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


العقل والقلب والدين

كانت العرب تطلق لفظ القلب على قوة الشعور ووجدان اللذة والألم وقوة الفكر
والعقل الذي يميز المرء به بين النافع والضار؛ لأن قلب الشيء عندها لبه ومحضه
وخالصه , ومن الأول قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ} (آل عمران:
١٥٩) ومن الثاني: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (ق: ٣٧) وقوله:
{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (الحج: ٤٦) وقد جرى عرف بعض الأمم على
إطلاق لفظ القلب على المعنى الأول خاصة , وجعلوا سلطانه على الأمور الأدبية ,
واكتفوا بالتعبير عن الثاني بلفظ العقل وجعلوا سلطانه في الأمور العلمية , وهو
اصطلاح لا تأباه لغتنا التي تجيز تخصيص اللفظ بأحد معانيه وهو ما نجري عليه
في هذه المقالة.
ثم إن أهل هذا الاصطلاح جعلوا الدين من قبيل الأول حتى صاروا يقابلون
العلم بالدين كما يقابلون بين العقل والقلب , وذهب الكثيرون إلى أن هذه المقابلة
مقابلة تضاد فجعلوا العقل خصيمًا للقلب والعلم عدوًّا للدين! ورأى آخرون منهم
أنها مقابلة تباين فجعلوا للقلب حكمه وللعقل حكمه ومنعوا أن يعدو أحدهما طوره
ويحكم غيره.
حجة القائلين بالتضاد أن القلب موضع الشعور الوهمي الذي لا حقيقة له فهو
يخاف مما لا يُخَاف أو لا يخيف , ويرجو ما لا يُرجَى , ويتقحم به الوجدان مواقع
الهلكة فيبذل النفس والنفيس فيما لا فائدة فيه فهو سلطان أخرق جائر لا يدين له إلا
النساء والأطفال ومن ضعف عقله من الرجال، وأعوانه رجال الدين الذين عرفوا
في كل زمان ومكان بإقامة هياكل الوهم، ومعاداة العقل والعلم، وجعل وجدان الدين
آلة القهر في أيدي الرؤساء المستبدين، فإذا كان الشعور بأن في الكون سلطة غيبية
يجب لها الخضوع والعبودية - هو أعلى وجدان للقلب وأنفذه حكمًا على الجوارح،
وإذا كان سائر أنواع شعوره ووجدانه كالخوف والرجاء والبغض والحب والقسوة
والرحمة تخدم هذا الوجدان وتؤيده، وإذا كانت تلك السلطة العليا قد تمثلت للوهم
الإنساني في الجماد وقوى الطبيعة وفي الحيوان فعبدها الإنسان , ثم تمثلت له في
أفراد منه فعبدهم وعدّ نفسه قد ارتقى بذلك ارتقاءً مبينًا، وإذا كان العقل قد كشف
لقوم بطلان الوهم في أكثر تلك المظاهر للسلطة الغيبية ولآخرين بطلانه في جميعها
حتى صار المرتقون من البشر فريقين: فريقًا لا يزال ينقاد لذلك الوجدان ولكنه
ينزهه عن التقيد بأي مظهر من مظاهر الطبيعة ويفند أكثر ما وصفته الأديان به ,
وفريقًا يحكم بأن ذلك الوجدان وهم لا حقيقة له، وإذا كان هؤلاء المرتقون أقرب
الناس من السعادة في معيشتهم ومن النفع للناس وأبعدهم عن الشقاء الذي تثيره
الأوهام التعبدية، وتمده سائر الوجدانات الدينية، وإذا كان الحس الظاهر الذي هو
أقوى من وجدان القلب وفكر العقل يخذل الأول بما ظهر من مخالفة كثير من
النصوص الدينية للأمور المحسوسة وينصر الثاني ويؤيده؛ أفلا يكون القلب والعقل
ضدين في ذاتهما وفي أثرهما في الناس , ويكون من الصواب أن نجعل العقل هو
الحاكم والقلب هو المحكوم وأن نؤدب الوجدان بسوط الفكر والبرهان، وندع لحكم
العقل والحس جميع أحكام الأديان؟
وأما حجة الذاهبين إلى أن لكل من القلب والعقل سلطانًا مستقلاًّ يباين الآخر
ولا يناقضه , وأنه يجب أن لا يعدو واحد منهما طوره ويخرج عن حدوده فهي أنه
لا ينكر عاقل أن الوجدان أمر وجودي ثابت متحقق في نفسه كما أن الفكر أمر
وجودي ثابت متحقق في نفسه وأن لكل واحد منهما أثرًا منه الضار والنافع ,
وأحكامًا منها الخطأ ومنها الصواب وأن الإنسان في حاجة إلى كل واحد منهما فلم
يخلق له أحدهما عبثًا , وأنه لا بد لكل منهما من قانون تعليمي تكون الغاية جعل
أحكامه وآثاره نافعة للإنسان , وأن قانون القلب هو الدين الذي يوجه جميع عوامل
شعوره ووجدانه إلى الخير والفضيلة , ويصرفها عن الشر والرذيلة. وقانون العقل
هو العلم بالأكوان الذي يجلي للإنسان حقائقها ويمكنه من الانتفاع بها فإذا كان خطأ
العقل في بعض المسائل لا يقضي ببطلان الثقة به ولا يقتضي إزالة سلطانه وعدم
الثقة بسائر أحكامه فكذلك نقول في خطأ القلب , وإذا بحثنا في تاريخ الإنسان نرى
أن علماء القلوب الذين جاءوا بقوانين الأديان كانوا أنفع للبشر من علماء الكون
الذين وضعوا قوانين العلوم المادية والنظرية , فلو فرضنا أن الإنسان يستغني
بأحد الفريقين عن الآخر لكان يجب أن يستغني عن الفلاسفة وعلماء المادة دون
النبيين والمرسلين لأنه قد يكتفي في حياته المادية بتجاربه التي يسوقه إليها
الإحساس الفطري عن توسيع دائرة البحث في الجماد والنبات والحيوان وتكثير
الصنائع التي يشقى بها الملايين من الناس ليسعد المئات والألوف بشقائهم , ولكنه
لا يكتفي قط بترك حبل شعوره ووجدانه على غاربه , فإن حكم وجدان اللذة والألم
أقوى على النفس من كل حكم وهو عرضة للبغي والعدوان إذا لم يكن له مؤدب من
جنسه يضع له حدودًا لا يتعداها. وهذا المؤدب هو وجدان الدين.
لا ينكر علينا علماء المادة أنه لا يوجد في الخليقة شيء من العبث وأن كل
شيء خلق كاملاً أو كمل بعمل الطبيعة فيه إلا الإنسان فإنه خلق أشد الكائنات
المعروفة نقصًا وأشدها استعدادًا للكمال , وأن كماله يكون بعلمه وكسبه وأن كل قوة
من قواه الحسية والمعنوية والنفسية والجسدية التي فطر عليها هي آلة من آلات
استعداده للكمال بكسبه التدريجي , فقوة العقل التي أودعت في الإنسان لأجل التمييز
بين المعقولات الصحيحة والباطلة ووجدان الدين العام وهو الشعور بالسلطة الغيبية
الذي أودع في الفطرة لأجل تأديب سائر الوجدانات بما يزعها عن الشر ويصرفها
إلى الخير، كل منهما قد وجد لحكمة ظهر أثرها في ارتقاء البشر بالتدريج كما هي
السنة في جميع قواهم وآثارها. فقول الماديين بالنشوء والارتقاء ظاهر في شئونهم
الدينية والمدنية أو القلبية والعقلية؛ فلماذا نعد خطأ البشر في استعمال الوجدان
الديني في أطوار الانحطاط موجبًا للقول ببطلان هذا الوجدان وضرره , والحكم
بإعفاء أثره , ولا نعد خطأ العقل في تلك الأطوار موجبًا للحكم ببطلان أحكامه
وإزالة سلطانه؟ ! .
تقولون: إن رجال الدين قد عاثوا بسلطتهم الدينية فسادًا في الدين , وخادعوا
الناس بالأوهام حتى استعبدوهم , ونقول: إننا نرى في كل من رجال الدين ورجال
العلم المفسد والمصلح فكم من عالم ببعض خواص الأشياء الطبيعية قد غش الناس
بعلمه , وكم من مدعٍ للعلم بها قد أضرهم بجهله , وهذه العلوم المادية في هذا
العصر الذي هو أرقى عصورها قد اتخذت آلات لإهلاك العباد وتدمير البلاد , وما
السحر الذي تعترفون بأنه من أشد الأمور إفسادًا لعقول البشر وضررًا في مجتمعهم
إلا من خداع العلم فإن كان قد استفاد منه كهنة الوثنية فقد أبطله جميع الأنبياء ,
وكان أقوى الشُّبَه للضعفاء على نبوتهم فهو ضد الدين.
ويقول أهل هذا المذهب لخصمهم من الماديين: إننا نعلم أن أقوى شُبهكم على
الدين أمران:
(أحدهما) ما جاء في كتب الوحي مما قام الدليل الحسي أو العقلي على
خلافه كإثبات التوراة أن الله حكم على الحية بأن تأكل التراب كل أيام حياتها وإثبات
العهد الجديد للتثليث.
(وثانيهما) ما فيه من الأخبار الغيبية التي لا دليل عليها كوجود الملائكة
والشياطين.
والمخرج منهما سهل.
أما الأول فإذا لم تسلموا بتأويل علماء الدين لهذه المشكلات وجزمهم بأن الخطأ
واقع؛ فلنا أن نقول: إن بعض ما في تلك الكتب مدرج من النساخ , وأن ما قاله
الأنبياء في أمور الدنيا لم يقصدوا به بيان حقائق الموجودات , وإنما قصدوا
استخراج العبرة والموعظة وتمثيلها للناس بحسب ما عرفوا من الكون , وإن كانت
معرفتهم ناقصة أو مخالفة للحقيقة , ولو أرادوا أن يبينوا حقائق الأكوان مع إصلاح
النفوس بقضايا الأديان لما تيسر لهم ذلك , ولكان تصديهم له خروجًا عن حدود
وظيفتهم المتعلقة بالقلوب والأرواح وإثارة للشبه والشكوك فيها , فإن المسائل
الحسية والوجودية تعرف بالنظر والتجربة والاختبار لا بالتبليغ عن الخالق. ذلك
أن الإنسان مستعد بفطرته للارتقاء الحسي والعقلي بدون تأييده بالوحي وأما الارتقاء
القلبي أو الوجداني فهو محتاج فيه إلى الوحي لأن منه ما يتعلق بالسلطة العليا
المدبرة لجميع الكائنات وما يتعلق بحياة بعد هذه الحياة , وهذان الشعوران لم يودعا
في نفس الإنسان سدى كما تقدم بل هما المبدأ لغاية كماله الروحاني والوسيلة لتهذيب
جميع أنواع وجدانه وشعوره , وبذلك تحسن أعماله وتصلح أحواله فيكون سعيدًا
بقدر تمسكه به.
وخلاصة هذا الجواب أن وظيفة الوحي إصلاح القلوب والأخلاق فما يذكر فيه
من أمور العالم يراعى فيه معارف المخاطَبين ولا يقصد لذاته فلا يضر الخطأ فيه
عندهم.
وأما الثاني وهو إخبار الوحي بما لا دليل عليه من الحس ولا من العقل
فالمخرج منه أن هذا لا يقال إلا إذا كان علم الأنبياء الخاص بهم مستمدًّا من الحس
والعقل ولكنه وحي من الله , فإذا كان لكم طريق إلى الحكم في كلامهم المتعلق
بالمادة المحسوسة فلا طريق لكم إلى الحكم في كلامهم المتعلق بالإيمان بالله وبعالم
الغيب لأنه ليس من المادة ولا مما يجري على سننها، ولا المتعلق بالعبادة والحث
على الفضائل وبالتنفير عن المعاصي والرذائل لأنه من باب الإنشاء الذي لا يتأتَّى
فيه الصدق والكذب , وإنما يعرف حسن مثله وقبيحه بأثره , وقد ثبت بالتجربة أن
البشر يكونون على خير وصلاح بقدر تمسكهم به وعلى شر وفساد بقدر إعراضهم
عنه. ومما يدل على أنهم يستمدون هذه الأنواع من العرفان من خالق الكون ومدبره
أن علماء الحس والعقل يعجزون على استمداد بعضهم من بعض عن إصلاح نفوس
البشر وصرف شعورهم ووجدانهم إلى الخير من غير استعانة بشيء مما جاء به
الأنبياء الذين لا يمكن إقامة برهان على أنهم استمدوا عرفانهم من الناس. وهب
أنهم استفادوا شيئًا من عرفانهم بالكسب والنظر , فما تقول في تلك الآيات وذلك
السلطان الذي أعطوه على الأرواح؟ يقول كثير من علماء المادة وأدباء الملاحدة:
إننا نقدر على كتابة في الآداب والوعظ لا تعد هذه الأناجيل في جانبها شيئًا مذكورًا
وفاتهم أن في مواعظ الإنجيل من السلطان على الأرواح ما يعجز أكبر الفلاسفة عن
عشر معشار تأثيره في حكمه وفلسفته.
هذا ملخص ما يذهب إليه كثير من علماء الإفرنج وفلاسفتهم في وظائف العقل
والقلب , فهم يوجبون صرف العقل والحواس التي هي آلاته إلى العلوم الكونية
وصرف القلب وشعوره إلى الأمور الدينية , ولا يجيزون لأحدها أن يتحكم في
الآخر. فإذا ظهر لهما أن في العلم والتاريخ ما يخالف بعض مسائل ذكرت في كتب
الدين , أو في الدين مسائل تعارض شيئًا من العلم أو التاريخ فإنهم لا يرون ذلك
مجوزًا لإبطال أحدهما للآخر أو مسوغًا لتركه؛ لأن صلاح البشر متوقف على
صرف كل من العقل والقلب إلى ما هو مستعد له لم يوجد واحد منهما عبثًا ولا
يترك سدى. وبهذا الرأي كان كثير من أساطينهم متدينًا كبسمارك أشهر زعماء
السياسة وعلماء الاجتماع وباستور من كبار علماء المادة والحياة وتولستوي من
عظماء الفلاسفة في العقليات والأدبيات. ويعترف هؤلاء العلماء أن في دينهم كثيرًا
من المسائل التي تخالف العقل والعلم والتاريخ , وأن في كتبها ما هو بشري غير
موحى به من الله , ويقولون: إن هذا نقص في بنية الدين وجسمه لا في جوهره
وروحه , فهو يغفر ويتسامح به لشدة الحاجة إلى روح الدين التي لا غنى للبشر
عنها.
وتجد في هؤلاء العظماء المتحمس في الدين الملتهب غيرة عليه كعظيم
الشعوب الجرمانية (غليوم الثاني) الذي قال: إنه لولا الوحي الديني الروحاني
لقضي على النوع البشري , وقال في المسيح: إنه يملؤنا حماسة وإننا لنشعر بناره
تأجج في أحشائنا , وقال: إن الاعتقاد بأن التوارة ربما كانت مأخوذة من شرائع
حمورابي لا يمنع من الاعتقاد بوحي الله لموسى وظهوره لبني إسرائيل بواسطته
يعني أن استفادة موسى من معارف البشر , ووقوع بعض الخطأ العلمي والتاريخي
في كتابه لا ينافي الإيمان بأنه كان مؤيدًا بروح الله ومظهرًا لعنايته وعظمته , ولا
كون كتابه أعظم صلة بين البشر وبين الله كما نطق به العاهل العظيم في كلمة
أخرى , فهو يكتفي بأن يكون النبي الموحى إليه مؤيدًا من الله بما يتمكن به من
هداية الناس وتوجيههم إلى عبادة الله تعالى , ولا يشترط أن يكون كل ما يقوله
موحًى به من الله وكل ما يفعله مؤيدًا به من الله.
إن أصحاب هذا المذهب على اعتقادهم في الوحي والأنبياء بما لا يرضاه
المسلمون، بل ولا عامة المعتقدين بالنصرانية - هم أسلم فطرة وأهدى قلبًا وأكمل
عقلاً من عبيد المادة وأسرى الحواس الذين زعموا أن الدين من شعور القلب
ووجدانه الوهمي , وأنه يجب على الإنسان أن ينسلخ من كل وجدان، ويعيش حسيًا
كسائر أنواع الحيوان، استحوذ عليهم حب الشهوات الحسية فانصرفوا إليها
وأسرفوا فيها، وما أحبوا الانسلاخ من المزايا الإنسانية والهداية الدينية إلا لأنها
تنعى عليهم إسرافهم فيها، وتطالبهم بما هو أرقى منها، وقد كثر في متفرنجي
المسلمين من يقلدهم فيها. وإن لأولئك المتبوعين من علماء الإفرنج من العذر ما
ليس لهؤلاء الأتباع المقلدين لهم على غير هدى؛ لأن في الدين الذي نشأ بين أهله
أولئك المتبوعون من عداوة العقل والحس وعلومهما ما ليس في دين هؤلاء , ولأن
أولئك قد أوغلوا في العلوم الكونية فشغلتهم عن غيرها كعلوم القلب والروح فلم
يعرفوا حقيقته، على أنهم استعبدوا لأحقر وجدان القلب وهو اللذة الحسية , وهؤلاء
لم يتقنوا علمًا ولم يحسنوا عملاً بل نزلوا على حكم قول الشاعر:
عمي القلوب عموا عن كل فائدة ... لأنهم كفروا بالله تقليدا
هذا وإن للمسلمين في العقل والقلب والدين منزعًا آخر وهاك بيانه: يسعد
الإنسان بعمله ويشقى بعمله ,وعمله تابع لدعوة وجدانه وفكره: يتفقان فيمضي فيه
ويختلفان فيجيب دعوة أقواهما سلطانًا على النفس وتسخيرًا للحس، والوجدان هو
السلطان القاهر والحاكم المطاع , وما الفكر إلا وزير يستشار فيدهن للوجدان تارة ,
وينصح له تارة فأكثر الناس يعملون بدعوة شعورهم ووجدانهم لا يعارضهم في ذلك
فكر ولا رأي لأن أفكارهم مسخرة مستعبدة لشعورهم , ومنهم من يعارض فكره
شعوره في بعض ما يدعو إليه فيطيعه تارة ويعصيه أخرى؛ يطيعه إذا كانت داعية
الوجدان ضعيفة ويعصيه إذا كانت قوية.
إذا كان كل من الوجدان والفكر مدعاة للعمل الذي به يسعد الإنسان ويشقى
وكان قد يقع النزاع بينهما؛ وكان لكل منهما شِرَّة وفترة يطغى في شرته فيسرف،
ويتراخى في فترته فيغفل، فلا جرم أنهما في حاجة إلى مرشد حكيم، ذي سلطان
مكين، مطاع ثم أَمين، يرضيان بحكومته، ويقفان عند نصيحته، مهما ظهرت
لهما آيته، ورفعت فوقهما رايته، وما أراك إلا قد عرفت أن هذا المرشد هو الدين
وأن ظهور آياته للنفس يؤتيها الإذعان، الذي يحيط بالفكر والوجدان، فتخضع له
في عامة شؤونها طوعًا، وتطيعه بالاختيار سرًّا وجهرًا، وإن ارتفاع رايته يمثل
لها القوة والسلطان، مؤدبًا لأهل البغي والعدوان الذين يشذون عن حكم الإذعان،
وبذلك يكون الاعتدال، واستعداد الإنسان للكمال، فالدين هو الأستاذ المؤدب
للوجدان والفكر معًا.
الوجدان حق، وقد يطغى فيعرض له الوهم، والعقل حق وقد يمرض
فيعرض له الجهل، والحواس الظاهرة حق وقد تَعْتَلُّ فتدرك الشيء على غير
حقيقته بل كثيرًا ما تخطئ، وهي صحيحة سليمة. ولا غنى للنفس عن الوجدان
كما لا غنى لها عن العقل والحواس الظاهرة، بل أقول: إنه لا خطأ ولا غلط في
الوجدان الصحيح أو في حكم القلب لذاته، وإنما يعرض له الوهم من الفكر الذي
هو حكم العقل , أو من خطأ الحس الذي هو حكم المشاعر الظاهرة، وكل من العقل
والمشاعر الظاهرة يخطئ فيجني بخطئه على القلب وينحرف بالوجدان عن القصد.
القلب يحب الجمال الحسي والجمال المعنوي وهو الجاه والشرف ويبغض
القبح الحسي والمعنوي - يتلذذ بنيل ما يحب وبرجاء نيله ويتألم بما يكره - يحزن
لوقوعه ويخاف ما يتوقع منه , فإذا رجا ما لا يرجى أو ما لا يخاف أو أحب ما لا
يحب أو يكره ما لا يكره إنما يكون في ذلك تابعًا لحكم غيره؛ إذ ليس من شأنه هو
أن يحكم بأن هذا جميل أو قبيح أو ضار أو نافع، وإنما الحس هو الذي يحكم في
الجمال والقبح الحسيين والعقل هو الذي يحكم في الجمال والقبح المعنويين. ومهما
جزم العقل بأن هذا الشيء يرجى خيره , وذلك الشيء مما يُخشى ضيره , قَبِلَ
القلب حكمه , وسخَّر الجوارح للعمل بنصحه , وقلما يطغى الوجدان في شيء إلا
ويكون الفكر هو المُمِدُّ له في طغيانه , فكلما أوغل العقل في التصوير والتفكير
يوغل القلب في الانفعال والتأثر , فالذنب للعقل والفكر في طغيان وجدان القلب
وتعسفه في مجاهيل الأوهام.
لو فقد الإنسان الوجدان فأمسى لا يحب ولا يكره ولا يخاف ولا يرجو ولا
يرحم ولا يقسو لهلك بترك العمل والسعي في جلب المحبوب ودفع المكروه وإبقاء
الخطر، وانتظار الظفر، ومواساة البائسين، ومؤاخذة المجرمين، ولم تكن
تصورات العقل وأقيسة الفكر لتغني عنه شيئًا. فإذا كان أدرك الوجدان في نفسه
حقًا وكان لا بد منه لبقاء الإنسان وكان العقل مرشدًا يخطئ ويصيب فينصح بعلم
أو يغش بجهل، فهل يصح أن يقال: إنهما ضدان , أو نطلب على حقية الأول
منهما البرهان , كيف وهو أقوى الضروريات , التي هي مقدمات البرهان اليقينيات.
على هذه الطريقة أساء العقل التصرف في وجدان مبدأ الدين في الإنسان فقد
امتاز الإنسان على سائر الحيوان بوجدان كان هو الأصل في ارتقائه التدريجي
وحسب استعداده، وهو الشعور بأن في الوجود سلطة غيبية متصرفة في العالم.
هذا هو مبدأ الدين في البشر، وقد كان العقل في طفوليته يبحث عن علل
الأشياء وأسبابها فكلما عجز عن إدراك شيء منها حكم بأنه هو صاحب تلك السلطة
وتبعه الوجدان في الإذعان له والعبادة، وكان إذا ما ارتقى العقل في شعب من
الشعوب أي استعد أفراد منه للارتقاء عن التعبد للأشياء المحدثة بعث الله تعالى فيهم
من يدعو العقل إلى أعلى مقام في العرفان؛ ليتبعه القلب في العبادة والإذعان يدعوه
إلى التوحيد الذي هو عبارة عن الجزم بأن كل ما يدركه الحس ويتصرف فيه الفكر
فهو من المحدثات إلى تدبرها تلك السلطة الغيبية العليا المطلقة التي لا تتقيد بشيء
ولا تحل فيه ليعلم العقل أن تصديه لعلم حقيقة مصدر تلك السلطة التي يجدها القلب
كما تدرك الحواس المحسوسات ضرب من المحال ولذلك سميت إلهًا؛ لأن العقل
يوله ويتحير في البحث عن حقيقتها , فلسان أولئك الدعاة الكرام عليهم الصلاة
والسلام يقول للعقل الصحيح: إنك تجد في القلب حبًا وكرهًا ورجاءً وخوفًا؛ فلا
تبحث عن حقيقة هذه الوجدانات , ولا تحاول الاستدلال عليها لأنها قطعية في نفسها ,
وإنما وظيفتك إرشاد القلب إلى الإحسان في استخدام الجوارح لها فأولى لك ثم
أولى أن لا تبحث عن حقيقة وجدان الدين وكنهه فضلاً عن مصدره , وإنما عليك
أن تستعين به على تدبير مملكة القلب، على أننا لا نمنعك الاستدلال على مصدر
تلك السلطة الراسخة في الواجدان لحكمة امتاز بها الإنسان، وإنما ندعوك إلى
النظر في وحدة نظام الأكوان، والتأمل فيما أودعته من الحكمة والإتقان، لتوقن
أنها لم تكن كذلك إلا لوحدة مصدرها، وعموم سلطان مدبرها، فتجله عن الظهور
في حجر أو شجر أو حيوان، وعن الحلول في كوكب أو إنسان، وإلى هذا الارتقاء
الديني الإشارة بقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ..} (البقرة: ٢١٣) إلخ وبه ارتقى العلم نفسه.
ألم تر أن العلم كان يسير مع الدين، والتهذيب كان محصورًا في الكهنة
والأحبار والقسيسين، نعم إن هؤلاء الزعماء للدين كانوا يقودون الشعوب بوجدانها ,
ويحظرون على عقولها حرية التصرف ولهم العذر في هذه السياسة لو لم يسرفوا
فيها فإنه لم يكن لضبط شئون العامة من سبيل إلا وجدان الدين مع أن فكر الأكثرين
لم يرتقِ إلى الاستعداد للاستقلال التام والاستغناء عن سيطرة الرؤساء , فلما استعد
لذلك آتاه الله الدين الأخير الذي هو منتهى النشوء والارتقاء , وهو الإسلام الذي
وفق بين الحس والوجدان والفكر , وآخى بين العقل والقلب فكان هو الهداية التي تم
بها الاستقلال، واستعد بها البشر لنهاية الكمال.
كان زعماء الدين قد أساءوا التصرف في وجدانات القلب فساموها الإفراط
والتفريط , وشددوا الحجر على العقل فلم يجعلوا له رأيًا في آداب النفس ولا في فهم
العبادة بل ولا في مصالح المعاش ففصلوا بين القلب والعقل , وجعلوا العلم عدوًا
للدين , وأقاموا أنفسهم مسيطرين على كل شيء ومكنهم الدين من ذلك ببنائه على
أساس التقليد. فلما جاء الإسلام كان من أول عمله نسف هذا الأساس وإبطال تلك
الزعامة حتى أنه لم يجعل للنبي نفسه شيئًا منها: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْء} (آل عمران: ١٢٨) ، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية
: ٢١-٢٢) حتى كان يرجع عن رأيه إلى أصحابه , ثم إنه بيَّن العقائد بالبراهين
العقلية، وقرن الآداب والأخلاق بذكر فوائدها الروحية والجسدية، وعلل الأحكام
بالمصالح والمنافع الاجتماعية، وأمر بالعلم الكوني وجعله أقوى دعائم اليقين،
وأرشد إلى سنن الكون والاجتماع وجعلها معراج الرقي في الدنيا والدين، فجعل
الحواس والقلب والعقل شركاء في هدايته وإرشاده لتكون جميع قوى الإنسان متحدة
في إبلاغه غاية كماله، وكان كتابه حجة عقلية على حقيته بما فيه من أرقى العلوم
والعرفان، وأعظم السلطان على العقل والوجدان، مع عصمته من الاختلاف
والتناقض وحفظه من التغيير والضياع، وغير ذلك مما لا محل لشرحه هنا.
أفيليق بمن عرف هذا الدين أن يقول فيه بنقيض ما جاء به اتباعًا لمن فرقوا بين
عقل المرء وقلبه، وبين علمه بالكون وعلمه بنفسه وبربه، أم يليق أن يترك هداية
هذا الدين، ويتبع وسوسة الماديين؟ ! .
كلا، إن من عرف هذا الدين لا يمكن أن يتركه , ولكن الذين ضلوا وأضلوا
عن هَدي القرآن المجيد بما وضعوا في أعناق المسلمين من وهق التقليد قد حجبوهم
عن محاسن هذا الدين، وأبرزوا لهم في مكانها جميع مساوي المتقدمين، فصدق
عليهم حديث الصحيحين: (لتركبنَّ سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى
لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) فهم العلة لكفر من كفر، وفجور من فجر، فعسى
أن يهيئ الله للمسلمين من أهل الإصلاح من يخرجهم من جحر الضب الذي دخلوه،
ويعيد إليهم هدي القرآن الذي تركوه، أو يهدي غيرهم إلى هذه الحقيقة، ويقيمهم
على هذه الطريقة، فيتآخى بهم العلم والدين، ويكونون هم الأئمة الوارثين، وإن
ذلك لواقع ولو بعد حين، والعاقبة للمتقين.