للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأحزاب في مصر

كان يطرق مسامعنا في المجالس، وتبصر أعيننا في الجرائد كلمة (الحزب
الوطني) ولا نجد لها مدلولاً، وما زالت الجرائد الإنكليزية تقول: إن في مصر
حزبًا وطنيًّا سياسيًّا، حتى صار فيها عدة أحزاب، وربما أخذت هذه الجرائد ذلك
من الحركة الوطنية التي قامت في وجه الاحتلال في أوائل ولاية أمير البلاد لهذا
العهد؛ إذ كان متحمس بتلك الحركة يمدح بالوطنية، والمنكر لشيء منها أو
المتقاعس عن مشاركة ذويها يزن بالميل إلى الاحتلال، ثم صار يوصف أهلها
بالحزب الوطني. ويظن بعض المفكرين أن للإنكليز غرضًا في وجود الأحزاب
بمصر لا سيما النوع الذي يعرف عندهم بالمتطرف، فكانت كتابة جرائدهم إغراء
بذلك ودعًّا إليه.
ومن الناس من يقول: إن تسمية أولئك الذين قاموا في وجه الاحتلال حزبًا
خطأ عرفي أو لغوي؛ إذ يفهم منه أن في البلاد حزبًا آخر أو أحزابًا آخرى يناظر
ويعارض بعضها بعضًا، ولم يكن في البلاد شيء من ذلك وإنما كان السواد الأعظم
مغبوطًا بما ظهر به أولئك الذين يكتبون في مقاومة المحتلين، ويستميلون فرنسا
لمساعدتها عليهم، وما كان يوجد لهم معارض، وكان يوجد أفراد يعتقدون أن ما
قاموا به عقيم أو ضار لما أفادهم النظر في العواقب، ولكن هؤلاء الأفراد لم يكونوا
يعارضون ولا يقاومون، وغاية ما كان يظهر من الواحد منهم أن يكاشف صديقه من
الآخرين برأيه، والصواب أن مثل أولئك يصح أن يطلق عليهم لفظ (حزب) لغة،
فإن الحزب كما في المعاجم جماعة الناس والصنف والطائفة منهم، وقال الراغب:
الحزب: جماعة فيها غلظ. وفي لسان العرب (وحزب الرجل: أصحابه وجنده الذين
على رأيه) ثم قال: (وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق
بعضهم بعضًا) .
فأنت ترى أن لتسمية أولئك القوم حزبًا وجهًا في اللغة وجيها، ولكن للأحزاب
في أوروبا معنى أخص؛ وهو عبارة عن ارتباط المتشاكلين في القلوب أي الشعور
بالحاجة إلى مصلحة عامة وفي الأعمال لهذه المصلحة بقانون معروف، ولم يوجد
مثل هذا في مصر إلا في هذا العام، فقد تشكل فيه حزب الأمة والحزب الحر
وحزب الإصلاح الدستوري والحزب الوطني، وسمعنا أيضًا نغمة حزب آخر سمي
الحزب الجمهوري؛ ولذلك سمي هذا العام بعام الأحزاب، وقال الشيخ عبد المحسن
في قصيدة يذكر فيها مرضه وشيئًا من العبرة بحال الزمان وأهله:
وطوارق الأسقام ما برحت ... تنتاب كالأحزاب في مصر
أما موضوع هذه الأحزاب فهو - بحسب ما صرح به زعماؤها - واحد،
المقصد منه خدمة البلاد بالوسائل الممكنة، حتى قيل إن الخلاف بينهم في الألفاظ
والأشخاص فقط. والصواب أن لكل حزب منها قطبًا يدور عليه: وهو مؤسس
الحزب ورئيسه الموثوق به عند المؤسسين المتعارفين المستعذبين لمشرب الحزب
إلا حزب الأمة، فإن رئيسه هو ليس المؤسس له الذي تدور عليه سياسته، وإنما
هو منتخب انتخابًا حقيقيًّا لرياسة شركة الجريدة قبل أن يسمى جمهور المؤسسين
أنفسهم حزبًا سياسيًّا. ولهذا يطمع سائر الأحزاب في سقوط هذا الحزب؛ لأن
الشرق لم يتعود الأعمال المشتركة، وإنما قوام أموره بالأفراد؛ ولأن أفراده ليسوا
متفقين على مقاصده ولا متعاضدين فيه، بل منهم من يتربص به الدوائر ويساعد
غيره عليه؛ ولأنه ليس له سلطة يأوي إليها ويعتمد على مساعدتها وإمدادها،
والسلطة في هذه البلاد سلطتان: سلطة الأمير الرسمية في الأحكام الحقيقية في نفوس
الجمهور ميلاً، وسلطة الاحتلال الحقيقية في الأحكام والأعمال. وهذا الحزب يريد أن
يكون وسطًا بين هاتين السلطتين باسم الأمة، فلا هو مع الإنكليز كما أشيع ولا مع
الأمير فيما يحب الأمير ويرى في السياسة، وإن كان مخلصًا كغيره للخديوية نفسها.
هذا هو مبدأ العاملين فيه الآن، فهو لا سند له إلا من ذاته، فإذا نجح كما نحب فذلك
من دلائل ارتقاء الأمة في الأمور الاجتماعية، وإذا هو سقط فسقوطه برهان على
أن الأمة لم تعدُ طور الطفولية في حياتها الاجتماعية.
والحزب الحر مؤسسه محمد وحيد بك وهو رئيسه الداعي إليه والمدافع عنه
بمساعدة صديقه محمد نشأت بك الذي كان من حاشية الأمير (معيته) وهو كاتب مجيد
بالفرنسية، وليس لهذا الحزب جريدة خاصة كغيره وإنما يكتب عنه محمد بك
في المقطم ومحمد نشأت بك في بعض الجرائد الفرنسية كالبروغريه، ولم يدخل فيه
أحد من أكابر البلاد، وأفراده أقل من أفراد سائر الأحزاب، وهو يمتاز بكثرة الحث
على مسالمة المحتلين والثناء على ما يستحسن من أعمالهم في البلاد، فهجيراه هذه
الكلمة (سلامة المصريين في مسالمة المحتلين) فهو لا يخالف غيره من الأحزاب إلا
في هذا، وهو خلاف قولي؛ إذ لا يقول حزب من الأحزاب بوجوب مقاومة المحتلين
ومعاداتهم بالعمل، وإنما قصاراهم أن يبالغوا في انتقاد ما يرونه منتقدًا من أعمالهم،
ويكبروه ويسكتوا عن الثناء على ما يرونه حسنًا نافعًا أو يصغروه. فذاك يمدح ولا
يذم ولا ينتقد، وهم يذمون وينتقدون، وقلما يمدحون ولا خلاف في سائر المطالب
الأساسية.
وأما حزب الإصلاح الدستوري فمؤسسه الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد
وهو رئيسه، وقد اختار له من الأعضاء من يجمعهم الرأي وترشدهم الرؤية،
ويثبتهم الركن الركين الذي يأوون إليه، فقانونه أوضح قوانين الأحزاب، ورجاله
أدهى رجالهم، والشيخ علي نفسه أبعد المشتغلين بالسياسة المصرية غورًا وأشدهم
حزمًا وأحذقهم في الدخول في الأمر والخروج منه. الفرق الحقيقي بين هذا الحزب
وغيره من الأحزاب التي تشاركه في الخدمة العامة للأمة أنه مؤيد لسياسة الأمير،
لا يتحول عنها في حال من الأحوال، يتهم إذا اتهمت، وينجد إذا أنجدت، ويوالي
من والت، ويعادي من عادت، فهو حزب طبيعي متين والرجاء في ثباته وبقائه
أقوى من الرجاء في سائر الأحزاب بحسب ما عليه مصر من الحالة الاجتماعية
والسياسية الآن، ولا دليل على تغيرها في زمن قريب.
وما صرح به هذا الحزب في قانونه من كون طلب المجلس النيابي أصلاً من
أصوله، لا ينافي تأييده لسياسة الأمير صاحب الحكم الشخصي، فإن طلب المجلس
النيابي مرضي للأمير أيده الله بتوفيقه، كما علم من حديثه المشهور مع مكاتب
جريدة (الطان) الفرنسية، بل لا يبعد أن يكون هو أول من فكر بوجوب طلب الأمة
له كما يقول بعض العقلاء.
وأما الحزب الوطني فمؤسسه الآن مصطفى كامل باشا صاحب جريدة اللواء،
وهو رئيسه، وهو جزء من الحزب الوطني الذي كان موجودًا بالقوة أو بالفعل من
قبل على ما بيناه في صدر هذا المقال، والقسم الآخر من ذلك الحزب هو حزب
الإصلاح الدستوري. والفرق بين هذين الحزبين على ما أرى وهو رأي يوافقني عليه
كثير من العقلاء هو أن حزب الإصلاح الدستوري يجمعه الرأي وبه يعمل،
والحزب الوطني يجمعه الإحساس والشعور وبه يعمل، وإن شخص صاحب جريدة
المؤيد ليس ركنًا من أركان الحزب الأول وإن كان قطبه وأقدر العاملين فيه ولكن
شخص صاحب جريدة اللواء ركن من أركان الحزب الآخر مقصود بالذات منه،
ولذلك اتفقوا على أن يكون رئيس الحزب ما دام حيًّا بلا شرط ولا قيد. ويظهر لنا
أن المعجبين بالحزب الوطني أكثر عددًا من المعجبين بغيره من الأحزاب؛ لأن منهم
فيما يقال أكثر تلاميذ المدارس والخائضين في السياسة من العامة وذلك معقول؛ لأن
هؤلاء الذين يتبعون داعي الشعور ويخضعون لسلطان الوجدان ويحبون الغلو أكثر
ممن عداهم. وقد سلكت جريدة اللواء طريقة تحريك الوجدان وتهييج الشعور
الوطني بعناية عظيمة تناسب الاستعداد الغالب على الشعب. ويظن أن غرض
صاحبها من ذلك ومن نشر الدعوة إلى حزبه في الأرياف؛ هو أن يستميل رأي
السواد الأعظم إلى نفسه، حتى يكون زعيمًا حقيقيًّا إذا دعا إلى شيء تؤيده الأمة
بالمال والحال ... وادعاؤه هذه الزعامة من قبل دليل على استعداده لها، فإننا قد
تعودنا أن نرى كل رأي للواء معزوًّا إلى الأمة برمتها، حتى مثل العفو أو عدم
مقاصة ذلك المجرم القاتل في السودان. وقد أمدته في استعداده هذا الجرائد
الإنكليزية في أثناء حادثة العقبة؛ إذ كانت تصفه بالزعيم المهيج وغرضها من ذلك
معلوم فيالله من دهاء الإنكليز.
هذا، وإن في كل حزب من الأحزاب من الرجال المحبين للبلاد والمخلصين
في خدمتها بحسب اعتقادهم من يعتمد عليهم في القيام بشؤونها، وقد جهل بعض
الحقيقة من قال: إن كل حزب قد أنشئ لتأييد جريدة، ومدير تلك الجريدة هو منشئه
ومسخره لجريدته، ومن أنه لا فرق بين هذه الأحزاب في المقصد.
ونرجو أن يكون إنشاء الأحزاب في مصر آية من آيات الأخذ بالارتقاء
الاجتماعي، وأن يكون تعددها سببًا لطول حياتها؛ لما تقتضيه المباراة والمزاحمة
من تمسك كل حزب بما قام به، ونسأله تعالى أن يوفق الجميع لما فيه الخير
والمصلحة للبلاد.