يعزُّ عليَّ يا حسين أن أسمع لك نعيًا، وأن أراك مَبْكِيًّا مَرْثِيًّا، يعزُّ عليَّ يا حسين أن أكون أنا الذي يُعَزَّى عنك، وأنت أنت الذي كنتم أودُّ أن تُعَزَّى عنِّي، يعزُّ عليَّ يا حسين أن لا يمرَّ عشر المحرم من هذا العام، إلا وأنت الشهيد الذي يجدد لنا ذكرى جدنا الحسين عليه السلام، يعز عليَّ يا حسين أن تُرْثَى في المنار، وقد كنت أرجو أن تَرِثَ المنار، يعز عليَّ يا حسين أن تغتضر في ريعان شبابك، وعنفوان قوتك، وأول العهد بتحقيق رجائي ورجاء الأمة فيك، فلئن بكيتك فأنت أحق الناس ببكائي، وأجدرهم ببثي وحزني؛ للصفات والمزايا التي اجتمعت فيك، وما كانت ولن تكون لسواك، فأنت أخي الشقيق، وتلميذي النجيب، وولدي البارّ، ليس في إخوتي ولا سائر أهلي من هو أقرب إليَّ منك، ولم أعن بتربية أحد ولا تعليمه كما عنيت بك، على ما آتاك الله تعالى من سلامة الفطرة، وعلو الهمة وذكاء الفطرة، وشرف النحيزة، وعزة النفس، والميل إلى معالي الأمور، والعزوف عن سفسافها. ألا إن مصيبتي فيك أيها الشقيق العزيز لأكبر من مصيبة أمك الرءوم، ولكنها ليست بأكبر من مصيبة أمتك العقور، المبتلاة في ولدها بالعقم أو العقوق، تثكل البارّ منهم قبل أن تجني ثمرة خيره وبره، ويعمر العاق فتتجرع الحميم والغسلين من عقوقه وشره، فإن بكيتك معهما، فإن مصيبتي بين مصيبتيهما، وإن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك لمحزونون. ولو شئت أن أبكي دمًا لبكيته ... عليك ولكن ساحة الصبر أوسع
فإن كان رُزْؤُك كبيرًا فالله أكبر، وإن كان الرجاء فيك عظيمًا فالرجاء في الله أعظم، فلله ما أعطى ولله ما أخذ، و {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: ١٥٦) ، فهنالك الملتقى إن شاء الله تعالى، فأنت في قوة إيمانك، وسلامة قلبك، وعظم إخلاصك، وطهارة شبابك، وقيامك بالواجبات، وتنزهك عن الفواحش والمنكرات، بل ترفعك عن مواقع الدنايا والهفوات، وبما رزقك من الشهادة، وما حباك به من حسن الخاتمة، جدير بأن تكون في مقعد الصدق، من حظيرة القدس، وهذا أعلى ما يعزينا عنك. إن الله جلت حكمته، ونفذت مشيئته، قد امتحن قلوبنا بخطبك، وابتلى إيماننا برزئك، فأرجو أن أكون من الصابرين على قضائه، المستحقين لصلواته ورحمته، الشاكرين له ما أنعم به من صدق الإيمان، وقوة الإرادة، واتباع هدي الكتاب والسنة، فقد جاءتني الصدمة الأولى وأنا بين صحبي، فملكت بفضله تعالى نفسي، وحبست مجاري الدمع من عينيَّ , وربطت على قلبي وكاد يتصدع بين جنبيَّ، وعقدت جلسة لجنة مدرسة الدعوة والإرشاد، ولم أُشعر بمصابي أحدًا من الإخوان، وإنما أذكر هذا تحدثًا بالنعمة، ورجاء أن أكون أهلاً للأسوة الحسنة، فاجعل اللهم هذا جهادًا في سبيلك، وسببًا لمرضاتك، وآتنا به ما وعدتنا على رسلك، وعوضنا خيرًا مما أخذت منا فإنك على كل شيء قدير. كان هذا المصاب أثرًا من شر آثار الفوضى واختلال الأحكام، وفساد الحكام في البلاد السورية، وغيرها من البلاد العثمانية، فقد اشتدت هذه الفوضى في وطننا (لواء طرابلس الشام) في السنة الماضية حتى ترك كثير من الأحداث والشبان الأعمال، وتدججوا بالأسلحة النارية في عامة أوقاتهم، وكثر حديثهم في الرجولية باستعمالها، والفتك بها، وزالت من نفوسهم هيبة الحكومة، واعتقدوا أن القصاص قد نسخ منها، ولم يبق بين الواحد منهم وبين قتل العمد إلا غضبة تعرض له، أو استياء من أحد يلم بنفسه، واتفق أن الفقيد صادف واحدًا من هؤلاء التحوت الأنذال يؤذي بنتًا في الطريق فنهره فاستلَّ النذل مديته وهجم بها على فقيدنا وقال له: إنني أنتظر هنا لأقتلك أنت، فقبض عليه الفقيد وما زال يعالجه حتى أخذ منه المدية، وأراد أن ينصرف، فأخرج الشقي مسدسه وأطلقه عليه ست مرات وكان في كل مرة يروغ فتخطئه الرصاصة حتى أصابته السادسة فحملها وذهب إلى الدار. وعلم بذلك الأصدقاء في طرابلس فبادروا مع طبيب عسكري وطبيب غير عسكري إلى الكشف عليه فلم يهتد الأطباء إلى الرصاصة وظنوا من غير عملية جراحية أنها غير قاتلة، وقد كتب الفقيد إليَّ وإلى شقيقنا السيد صالح بطاقة هذا نصها: سيدي الشقيقين: إني أحمد الله إليكما أن نجاني من مصاب كبير، وخطر خطير، وذلك أن الشقي عبد الوهاب الباشا أطلق علي عيارات نارية أصابني واحد منها في أليتي وقد ضمد الجرح الآن، على أنه لم يمض عليه أسبوع، ولا بد من بقائي في البيت أيامًا. وصل كتابك الأخير وسأجيبك عنه إن شاء الله تعالى، الجميع بخير. ... ... ... ... ... ... ... ... ٣ المحرم سنة ١٣٣٠ ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا فكتبت إليه وإلى غيره إنني لا أطمئن ولا يرتاح قلبي إلا إذا استخرجت الرصاصة أو عرف مكانها وأنه غير مقتل، ولكن لم يرجع إلا النعي، فقد تبين أن الرصاصة اخترقت الجنب ووصلت إلى الأحشاء، وفعلت فعلها في الأمعاء، وذلك مساء عاشر المحرم، وخرجت روحه الطاهرة في صبيحة حادي عشره، بعد أن نطق بالشهادة وحمد الله أنه لم يسفك دمًا، ولا قارف محرمًا، وكانت هذه البطاقة آخر العهد بكتابة فقيدنا رحمه الله تعالى. كان المصاب بالحسين عظيمًا على كل من عرفه من أهل العلم والفضل والأدب أو عرف شيئًا من مزاياه العالية، وما عارِفُوه على حداثة سنه بالقليلين. وسنذكر نموذجًا من تعازيهم في جزء آخر، ونكتفي هاهنا بكلمة من كتاب تعزية لأحد أهل العلم والأدب في طرابلس الشام في سوء الحال والفوضى هناك وهو الشيخ محمد نجيب الحفار قال: أرفع لمقامكم السامي هذه العريضة، وإن قلمي يضطرب من شدة هول تلك الحادثة التي أودت بجميع من عرف ومن لم يعرف صفات فقيدكم بل فقيد جميع الناس المرحوم أخيكم السيد حسين رضا من رصاصة أتته من يد أثيمة كلا بل من دولة أثيمة لا تعرف للإنسانية حقًّا ولا للرعية ذمة يجبرانها على القيام بحفظ أموالهم وأعراضهم وأرواحهم وخصوصًا أهل العلم والفضل والشرف منهم الذين يذهبون كل يوم ضحية تهاملها وتكاسلها عن تعقيب أولئك الكفرة الفجرة الذين يعيثون في الأرض فسادًا لا يهابون الناس ولا الحكومة بدليل أنها أرسلت منذ عشرة أيام أحد ضباطها رديف بك وهو من خيرة رجالها لتعقيب بعض الأشياء الذين عجزت عن إلقاء القبض عليهم نظرًا لعدم اهتمامهم بقوة الحكومة وسطوتها فرجع المسكين محمولاً على الأكف مدرجًا بدمائه الطاهرة بعد أن كان كالأسد لا يهاب من وظيفته أحدًا فواروه جدثه ولم تزل الأشقياء للآن زُمرًا زمرًا داخل البلدة وخارجها يقومون بأعمال لا قِبل للإنسانية على تحملها وأصبحت الأهالي في اضطراب شديد من هول هذه الأعمال القبيحة، ومن جملتها مصيبتنا بالغصن الرطيب والركن العلمي والذكي المفرط المرحوم السيد حسين رضا) إلخ. ((يتبع بمقال تالٍ))