] وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ [[١] من تفسير جزء عمَّ لمؤلفه قال أيده الله: كنت أمس ضائق الصدر لمرض صديق أفقد بفقده معينًا على العلم يذكرني إذا نسيت , يلومني لوم المحب إن أخطأت وأصررت. جاءني وأنا على تلك الحال صادق في مودتي , وذكر ما يقول قائل في كلام جاء في تفسير سورة الضحى مما وضعته على جزء عم وهو: (والسائل هو المستفهم عما لا يعلم , وليس هو طالب الصدقة , فإن هذا اللفظ لم يرد في كتاب الله عنوانًا للفقير والمسكين , بل جرت سنة الكتاب المبين على ذكرهما بوصفهما) يقول القائل: كيف هذا وقد جاء (السائل) عنوانًا للفقير أو المسكين في سورتي الذاريات والمعارج - في الأولى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات: ١٩) وفي الثانية {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج: ٢٤-٢٥) ذكر الصادق ذلك من قول القائل فكأني ذكرت به ما كنت ناسيًا , وبادرت إلى نسخة الكتاب فأصلحت الخطأ , وعولت على أن أعلن ذلك في الجرائد حتى لا يضل ضال ولا يتطاول جاهل، وماذا عليَّ في ذلك ولست أعلى كعبًا في استحضار الكتاب من الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، حين هم بعقاب من يقول: إن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم قد مات , حتى ذكره الصديق رضي الله عنه بقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر: ٣٠) فقال: كأني لم أسمعها من قبل أو كما قال - وحين شدد في أمر المغالاة في المهور وهو على المنبر , فقالت له امرأة: كيف ذلك والله يقول: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا} (النساء: ٢٠) فتنبه رضي الله عنه للصواب وقال: رجل أخطأ وامرأة أصابت. ومن أنا من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العلم بكتاب الله والإحاطة بما فيه. لكني رجعت إليَّ بعد ذلك نفسي , فراجعت الأصول التي كانت بين يدي يوم كتبت ما كتبت , فذكرت أنني قصدت من العنوان ما يدل على المعنى بنفسه بدون قرينة تبينه منه , وكنت حققت معنى السائل خصوصًا في آية الذاريات , وهو المستجدي الذي يطلب من مال غيره ولا يلزم أن يكون فقيرًا ومسكينًا , وغاية أمره أن يظن فيه الفقر إذا أحسن الظن فيه ولم يعلم أنه طلب لحاجة عارضة , ولم يفهم منه معنى الفقر في الآيتين إلا بقرينة المال واقترانه بالمحروم , وقد أفادت القرينة مع ذلك أنه يملك شيئًا , ولولا هذا ما عطف عليه (المحروم) الذي لا شيء عنده، وكذلك قوله تعالى في سورة البقرة: {وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} (البقرة: ١٧٧) فإن قرينة إعطاء المال هي التي دلتنا على أن السائلين هنا هم طلابه , والعطف على المساكين دليل على أن السائل لا يلزم أن يكون مسكينًا. وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم عنه المسكنة فيما روي من قوله: (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان واللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان) . قالوا: فما هو؟ قال: (الذي لا يجد ولا يُتَصَدق عليه) . وقد رووا عنه أنه قال: (للسائل حق وإن جاء على فرس) وقالوا: إن السائل هو الطالب , وقد يسمى في عرف الناس الفقير بالسائل , ولكنه في الكتاب العزيز ليس عنوانًا للفقير والمسكين، بل يفهمان منه بالنص كما تفهم المعاني الحقيقية من دوالها الوضعية أو الغالبة فيها , فإذا أُطلق السؤال مفردًا عن القرائن المعينة لمعناه المراد منه لم يفهم منه الفقير على ما جرت به سنة الكتاب العزيز في التعبير. فإن سنته جارية باستعمال السؤال في معني الطلب , لا في معنى الفقر الذي هو من اللوازم البعيدة لضرب منه , وهو طالب المال , كما هي جارية بأنه إذا أراد الحث على معاونة الفقراء والمساكين جاء في التعبير عنهم بما يحقق أوصافهم ويعين المراد منهم , ولهذا يبعد أن يراد من كلمة السائل في هذه السورة الفقير؛ لأنها ليست عنوانًا له كما ذكرنا , ولا يفهم هذا المعنى منها إلا بقرينة كما سبق. وأبعد من هذا أن يراد منها طالب المال مطلقًا؛ فإن السياق يأباه أشد الإباء لأن لفظ السائل لابد أن يكون في الآية دالاًّ على معنى يلاقي شيئًا مما ذكر في الآيات التي قبل {فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} (الضحى: ٩) إلخ لأن هذا التفصيل مفرع على ما قبله , فلو أريد منه طالب الصدقة لم يتوهم أن يكون ملاقيًا إلا لمعنى العائل وهو الفقير , والسائل ليس عنوانًا له , وقد بينا أن الذي يقابل العائل فيها هو التحديث بالنعمة. وإذا لم يصح ملاقيًا لشيء مما سبق إلا بحمله على المستفهم طالب البيان الذي هو عنوان له، يتبادر منه إلى الذهن عند الإطلاق تعين حمله عليه , ويكون على ذلك ملاقيًا لمعنى {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} (الضحى: ٧) ويؤيد هذا المعنى ما ورد في أحوال الذين كانوا يسألونه عليه الصلاة والسلام بيان ما يشتبه عليهم في أهل الكتاب الممارون , ومنهم الأعراب الجفاة , ومنهم من كان يسأل عما لا يُسأل عنه الأنبياء , فلا غرو أن يأمره الله تعالى بالرفق بهم وينهاه عن نهرهم كما عاتبه على التولي عن الأعمى السائل في سورة (عبس) . وعبارة التفسير فيها إجمال جر إلي تأليف حاشية كهذه فأستغفر الله مما صنعت فيها , وأرجو أن لا أعود إلى مثلها. في ٢٢ شوال سنة ١٣٢٢ ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبده