للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حموده أفندي (بك) عبده المحامي


تقويم الأفكار
لحضرة الفاضل حموده أفندي (بك) عبده المحامي

إن جهل الناس بكنه الحقائق لمما يقودهم إلى التخبط في السير والعماية في
الأفعال، ويؤدي بهم إلى الانقلاب في الأحوال والارتباك في الأفكار، وبقدر ما يفيد
معرفة الحقيقة في الناس تعظم أهميتها ويكون الجهل بها من أشد الأضرار على
الأفراد ومن أقوى عوامل الانحطاط. لهذا كان من اللازم على كل أمة ناشئة أن
تجعل من أهم واجباتها تبيان الحقائق، خصوصًا ما كان منها متعلقًا بالنظام.
والجرائد بما لها من الانتشار وتعميمها الجهات المختلفة والأصقاع المتباعدة هي
التي تقوم ببث تلك الحقائق وكشف الغموض عنها، ولا سيما وأن الناس يألفون
مطالعتها وتشتاق نفوسهم إلى تلاوتها، ولا فرق في ذلك بين العامة منهم والخواص،
وهذه هي حكمة إنشاء الجرائد في الأمم، بيد أنه يلزم أن يكون القائمون بأمرها من
أحسن الناس سيرة في الأخلاق والصفات، وأوسعهم اطلاعًا في المعارف
والمعلومات، وأن يكونوا أكثر الناس اختبارًا بأحوال الأمم وأطوارها، هذا مع قوة في
التعبير وبلاغة في التحرير حتى يكون لكلامهم أثر في النفوس وسطوة على الأرواح،
فأرباب الجرائد في الحقيقة وعاظ الأمة ومرشدوها إلى ما يلزمها وما تحتاج إليه من
آداب وإصلاح حال، أما إذا تقلد بالأمر في الجرائد قوم سفهاء جهلاء، فإنهم يقودون
الأمة إلى مهاوي الجهالة، ويثبِّتون فيها عوامل الفساد والسفاهة، ويكونون أشد نكبة
على الناس، فإن العامة ببركة ما طبعوا عليه من السذاجة في الطباع يعتقدون أن ما
يقال في الجرائد هو حق مهما تنكر على نفوسهم، وأنه صواب مهما كان خطؤه
ثابتًا في قلوبهم، لهذا كان ما ينشر فيها من الباطل يظنونه حقًّا، وتتغير في عقولهم
معالم الحقائق، ويتخبط في خيالهم تصور اليقين، ويصبحون لا يصيرهم غير
التضليل والتمويه.
فالواجب على الأمة التي تطلب ارتقاءً أن يكون لمطبوعاتها قانون يوقف كل
فرد عند حده، وتحجر على المتطفلين على موائد التحرير أن يخطوا خطًّا واحدًا،
وتُعاقِب بأشد العقوبات من اقترف جناية التحرير إذا كان من غير أهلها؛ فإن الجناية
على الأخلاق لأشد مفسدة منها على الأجسام.
ما أحوج بلادنا اليوم إلى مثل هذا القانون! فإن الفساد الذي ظهر في أخلاق أمتنا هذه الأعوام سببه إطلاق السراح لبعض السفهاء في إنشاء الجرائد لكسب
الدراهم، وأصبح الفقير اللئيم الذي لا حيلة له في نيل معيشته يستعملها لجلب قوته،
فهو يهجو ويهذي ويهتك الأعراض ويقدح في الأديان لجلب القرش والدينار. فمثل
هؤلاء الأنذال يجب قطع دابرهم واستئصال شأفتهم وإبعادهم عن الأوطان كي لا
يضلوا الناس ويفسدوا الطباع. أين مقام هذه الجرائد السافلة من مقام الجرائد
الحقيقية التي تدعو الناس إلى التمسك بالفضائل، وتنبيهم إلى ترك الرذائل،
وترشدهم إلى استقامة الطباع والتمسك بالآداب، وتهديهم إلى إصلاح الأحوال وتنوير
الأفكار؟ هذه هي الجرائد التي يجب أن تنشر بين أفراد الأمة لتجني ثمارها وتنتفع
بآرائها وتعمل على هداها.
في بلادنا ثلاث حقائق عامة هي: الوطنية والحرية والسياسية، قد اختلفت
فيها أفهام الناس وتغيرت مُثلها في الخيالات، وما علموا إلى اليوم ماهياتها، اللهم إلا
اذا كانوا من الخواص والمتعلمين، وهذا جزء في الأمة قليل، وكان على أصحاب
الجرائد الصادقة اللهجة أن يجعلوا تبيانها للناس نصب أقلامهم، حتى يقف الناس
على مفهوماتها تمام الوقوف ولا يضلوا عن مبانيها ولا ينحرفوا في العمل عن جادتها.
فحقيقة الوطنية هي أن يحب الإنسان وطنه وبني جنسه إلى حد يحمله على
تفضيل فوائدهما على منافعه الشخصية، فالوطني هو الذي يجاهد بنفسه في إتيان ما
يفيد الوطن وأهله، وقد تغيرت حقيقة الوطنية في أذهان بعض الناس وتشكلت
بصور مختلفة. يعتقد بعض الناس أن الوطنية هي عبارة عن ألفاظ وأقوال لا يخرج
مؤداها عن دائرة أفواههم، فإذا دعوا إلى عمل يفيد الوطن وكان القيام بأعبائه يمس
دراهمهم قالوا: إنما نحن فقراء والله يتولى غنى الناس!! وإن دعوتهم إلى سعي
مبرور يعود بالفائدة على أفراد ملتهم ودينهم أطلقوا ألسنتهم على من طُلب السعي له
وقالوا: إنه غير جدير بالمساعدة ولا مستحق لها!! همم خامدة وقلوب محشوة
بالحِقد والنفرة لبني جنسهم، وأميال لا تلوي على شيء فيه نفع لبني جلدتهم، ومع
هذا يدَّعون أنهم الوطنيون وغيرهم المنافقون، أليس هذا من أشنع الجهل وأشد العار؟
هل هؤلاء فهموا معنى الوطنية؟ كلا فإن المعرفة الكاملة بالشيء تؤدي إلى تشبع
الذهن به، ومتى صار كذلك أصبح عقيدة راسخة تؤثر في حركات الجسم والحواس
فتجرى الأميال على ما تقتضيه تلك العقيدة، وإن ادعوا أنهم فهموا معنى الوطنية
وعملوا بضد ما يفهمون وقعوا في شر ما هم فيه؛ لأنهم حينئذ يسمون منافقين
وتكون أقوالهم وألفاظهم آلة لتنبه الناس إلى أنهم وطنيون وهم في الحقيقة مموهون،
وبعض الناس يعتقد أن الوطنية يكفي فيها تأليف جمعية يبثون فيها الأفكار ويذكرون
عن الوطن شيئًا وعن الآداب أشياء، ثم هم لا يلبثون أن تنحل رابطتهم ويتفرق
شملهم، وهؤلاء وإن كانوا يعملون شيئًا مفيدًا إلا أن انحلالهم سريع، وهم - في
الغالب - غير أَكْفَاء للقيام بأمر الجمعيات، فإن هذه تستلزم شروطًا لا تتوفر إلا في
أكابر الأمة وعظمائها، والقائمون بأمرها يلزم أن يكون لهم مادة غزيرة في العلوم
والآداب وصناعة في الخطابة والإلقاء، وأصحاب جمعياتنا ليسوا من هذه الطبقة،
ولا أتعرض في كلامي إلى الجمعية الخيرية الإسلامية، فإنها جمعية خارجة عن
موضوع كلامي بمقتضى موضوعها، فإن موضوعها مادي خيري، وحضرات
الأعضاء من كبار الأمة وعظمائها، لا يوجه إليهم طعن ولا يجوز عليهم لوم، وإنا
ندعو الله أن تدوم إلى ما شاء الله.
فالوطنية - على ما قدمنا - هي أن يكون الشخص غيورًا على بني جنسه،
محبًّا لخيرهم، معينًا لهم، يسعى في تقدمهم كما يسعى لنفسه، ويرقي في شؤونهم
كما يتمنى لأهله، ومتى جُمعت هذه الصفات وما شابهها في شخص عد وطنيًّا كاملاً
مفيدًا لوطنه.
الحقيقة الثانية: هي الحرية - يعتقد العامة أن الحرية هي إتيان الموبقات
جهاراً، وأن هذا كمال من الكمالات الأوروبية التي يجب أن يتحلوا بها! لهذا ترى
كثيرًا من الآداب التي كانت قبل شيوع هذا اللفظ قد انتهكت حرمتها وأصبح فساد
الطباع عامًّا في أخلاقهم، وأصبح هذا المعنى عقيدة من عقائدهم وقوي في أذهانهم،
وكم جر هذا إلى نقض الآداب وأدى إلى فقد رأس الخصال البشرية اللازمة للهيئة
الاجتماعية ونظام الإنسانية وهو خصلة الحياء، ولو علموا أن الحرية هي تخويل
الشخص الاختيار في أداء ما له وما عليه ليس إلا، لبُدل فساد الطباع بالارتقاء في
المدارك، وكانت الآداب اليوم راقية أوجها الأسمى، وطهارة الأخلاق مطمئنة في
برجها الأعلى، وكانت الناس في سعادة بدل هذا الشقاء. فترى من ذلك أن جهل
الناس ببعض الحقائق أدى بهم إلى الاعوجاج في الطباع والانقلاب في الأخلاق
وضياع الآداب، فلو قامت الجرائد الصادقة اللهجة تذكر الناس بما طرأ عليهم
وتنصحهم بتبيان المعاني التي جهلوها وأفسدت أحوالهم، حتى يقفوا على الحقيقة،
لكان خيرًا للناس وأفيد مما يسمعونه ويتلى عليهم، نعوذ بالله من الغواية ونسأله
الهداية، وسيأتي الكلام على معنى السياسة إن شاء الله.
((يتبع بمقال تالٍ))