وقال في فصل عنوانه (حال العلماء اليوم) ما نصه بحرفه ورسمه: ماذا أقول في هذا الباب؟ وماذا ينبغي أن أقول فيه؟ والمقام حرج والحاجة إلى الإبانة شديدة، أأخشى سطوة الرؤساء، وقيامة العلماء، فأكتب من صحائف الإطراء ما تمزقه يد الشهود أم تأخذني العزة بالإثم فلا أرضى أن أنسب لنفسي ولا لأبناء جنسي ما حطَّنا وحقرنا في هذا الوجود أم أسكت وأغالط شعوري وأقول: إني واحد من كثير، أو أعلل نفسي بالقضاء والتقدير. ربي أنت أعلم بحيرتي ودهشتي فانتشلني من أحوال هذا الترديد، وألهمني القول الرشيد، ووفقني لما فيه الخير لي ولأهل ملتي يا رب العالمين. تالله إن من أهم ما يستلفت الأنظار حال علماءنا اليوم، وفائدة الأمة منهم فهم بحسب أصل الوضع المرجع الأعلى في إصلاح شؤون الأمم الإسلامية وغرس الملكات الدينية في قلوب المسلمين، ونشر العلم بينهم ودلالتهم على ما ينبغي أن يكونوا عليه في أمري الدنيا والآخرة وإيقافهم على قبح القبيح وحسن الحسن من الأخلاق والعادات والقول والأفعال؛ إذ هذا هو المقصد من إفراد طائفة بالاشتغال بالعلم وتشييد دور واسعة لهم. ولكن المطَّلع على حالنا اليوم لا يدري هل المقصود من الاشتغال بالعلم الديني هو هذا. أو المقصود أن يحوز الإنسان مُرَتَّبًا يقوم بضروريات معاشه، فيكون العلم الديني من الحِرَف يُقْصَد للتعيش أو المقصود أن يحوز شرفًا وجاهًا وصفة بين الناس لا يحوزها إلا من يؤدي الامتحان، فيقال زكي، نجيب، حاز قصب السبق إلى غير ذلك من العبارات، أو المقصود تكميل الفرق وتتميم الطوائف حتى لا يكون المجتمع الإسلامي خاليًا من فرقة تسمى (العلماء) تتميمًا للنظام، وإن لم تنفع هذا المجتمع بشيء يذكره أو المقصود المحافظة على التقاليد الأولى والأحوال القديمة، ولو بغير معنى، أو المقصود وجوده فرقة تمثل تلك الفرقة العالية التي أقامت هيكل العلم الإسلامي وشيدت له بيتًا من العز في العصور الأولى كما يكون في تشخيص رواية مثلا. ولا يعرف أيضًا هل المقصود من العلم أن يعرفه الإنسان، وإن كان لا يلاحظه في خلقه عاداته وعمله، أو لا بد أن يظهر أثر علمه في شخصه قبل غيره، وهل الغرض أن ينحصر العلم بين جدران المدارس الدينية، أو الغرض أن تكون المدارس كالشمس تنبعث منها الأنوار، في جميع أرجاء العالم ويكون لها أثر في ترقي الأمم الإسلامية مثل تأثير الشمس في إنماء الزروع وإنضاج الثمار وإصلاح هذا الكون. على أني لا أريد أن أفيض في بيان حال علمائنا وما هم عليه فذلك شيء مؤلم، وحسبي منه ما يعلمه الناس، وما مست الحاجة لإبانته في سابق هذا الكتاب ولاحقه ولكني أذكر من ذلك أمرًا واحدًا مهمًا هو علة العلل في كل الأحول، ألا وإنه مبدأ العلماء اليوم ومشربهم، فأقول: ينقسم علماؤنا في مبادئهم إلى قسمين - آخذين بالعادة، وآخذين بالفكر، فأما الآخذون بالعادة فهم جمهور العلماء لا يميلون إلا لما وجدوا عليه من قبلهم معتقدين أن الكمال فيه سواء في ذلك علومهم ومعتقداتهم والكتب التي يدرسونها وطريقة التدريس والأمور الشخصية وسائر الأحوال، والأكابر منهم أهل الكمال، هم الممتازون بالصلاح والتقوى والنظر إلى الآخرة أو بالتدقيق في المباحث اللفظية، والمعاني الخيالية ولكن مع الجهل بالشئون العامة وأكثر العلوم الضرورية والأحوال العمومية، ومع التلبُّس بكثير من المعتقدات الخرافية والأوهام العامية ومع الجمود والوقوف عند حد من الفكر والتعقل أدنى مما ينبغي ومع الاقتصار من العلم على ما لا يكفي ومع عدم النظر إلى نشر العلم أو تقريبه من الفهم وعدم السعي فيما يصلح العامة وما يعود على الأمة بالتقريب في أمري الدنيا والآخرة، ومع عدم الجراءة في شيء مما تنبغي الجراءة فيه ومع عدم الاهتمام بحال المسلمين ولا بما يطرأ اليوم على الإسلام من أوجه الطعن وعدم الاكتراث بإقناع المعترضين ورد المجادلين، بل يكتفون من العلم بتدقيق في الألفاظ وتحقيق لبعض المعاني على ضرب خاص لا يفيد إلا بعد زمن مديد وجهد شديد. وأما الآخذون بالفكر فهم حديثو العهد، ولم يزالوا قليلين جدًّا، وهؤلاء يرون أن ما عليه الأولون غير صواب وينتقدون عليهم في علومهم وأخلاقهم وصلاحهم وسائر أحوالهم، ويرون الكمال في أن يكون الإنسان قوي الفكر شديد العارضة صحيح النظر في الشئون العامة ويعلم من علوم الكون ما يمكِّنه أن يرقِّي به الأمة، ويوقفها في صفوف الأمم الحية ويخرجها من الأوهام وأسر الجهالة ويتغالون في ذلك إلا أنهم مع هذا يثقون بأفكارهم ويستبدون بها ويحكمونها فيما لا ينبغي أن تحكم ويكرهون كل قديم مما عليه الجمهور مع عدم إعطاء تربية الملكة الدينية وما يتعلق بأمر الآخرة من العناية مثل الذي أعطوه للأمور المتقدمة بل مع إغفال ما يقرب الإنسان من الملأ الأعلى ويظهر عليه آثار العبودية. والذي أراه نقص المبدأين وعدم كمال الفريقين، وأن كلاًّ منهما يبتعد عن الغاية التي ينبغي أن يصل إليها أهل العلم بقدر ما يقترب الآخر منها، وأن أجزاء الكمال الواجب للعلماء موزعة عليهم لا مجموعة، وأن كلاًّ مصيب في شيء مخطئ في آخر؛ فإن التمسك بالعادة قبيح كما أن الثقة بالفكر توقع الإنسان في الخطأ من حيث لا يشعر، بل المبدأ الصحيح الذي ينبغي أن يسلكه أهل العقول الراجحة هو كما أقول: (لا تقدس العادة ولا تثق بفكرك) بل تأمل وتدبر فعسى أن يكون ما عليه الناس حقًّا خَفِيَ عليك، وعسى أن يكون ما رأيته صوابًا غفل عنه الناس، وما يتمسك به الأولون من الصلاح والتقوى والانكسار، والإقبال على أمر الآخرة والتحقق بالعبودية حسن، ولكن في موضعه وعلى وجه لا يؤدي إلى الاقتصار عليه وعدم القيام بالشئون الواجبة على العالم من حيث هو عالم يلزمه أن يكون ذا نظر وسعة اطلاع، وإلمام بأخلاق الناس وأحوالهم، وحسن بيان، وعلم بما يلزم من علوم الأكوان ليمكنه أن يقوم بالواجب عليه للناس حق القيام، ويكون لقومه شمسًا مضيئة، ولإعلاء كلمة الحق، وقيام الناس على طريق الهدى؛ سيفًا ماضيًا ومنارًا عاليًا؛ فهذا واجب وهذا لازم، ولهذا وقت ولذاك وقت آخر، فالعالم إذا جَنَّ عليه الليل ذل، وخشع، وانكمش، وانخلع عن هذا الكون الناقص وأقبل على الحق واقترب من ملكوت الله يسجد ويركع، ويسبح، ويقدس، ويمجد الحق، ويناجيه بما شاء حتى تتورم قدماه وينحل جسمه؛ وإذا أصبح أصبح شهمًا جريئًا في موضع الجرأة والشهامة يعظ، ويُرشد، ويُعلِّم، ويقول الحق، ويهدي إلى سواء السبيل، يساير هذا، ويجلس إلى ذلك. إن استعمل الشدة في موضعها فمن غير عنف، وإن استعمل اللين فبغير ضعف، لا تفوته شاردة ولا ورادة مما يرى فيه صلاح الأمة في أمر دنياها وآخرتها؛ فلقد قال الحق في أصحاب رسول الله {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: ٢٩) ، وقد كانوا إذا رآهم راءٍ في النهار ظنهم من قُطَّاع الطريق يشنون الغارة هنا، ويعارضون عير قريش هنا وهكذا لا تأخذهم رأفة في دين الله؛ فإذا أقبل الليل كان لهم أزيز كأزيز النحل [*] يذكرون الله تعالى، ويسبحونه آناء الليل، وأطرف النهار لا يفترون. وما يغلب على القسم الثاني من القيام بإصلاح الأمة وإرشادها إلى طريق سدادها، وعدم إغفال الفكر مع الميل إلى الترقي في العلوم والمعارف والأخلاق..إلخ حسن. ولكن على وجه لا يعقل معه قوام الدين وأساسه، وهو إيجاد الروح الدينية العالية، والتقرب من الملأ الأعلى، وتعمير القلوب بالأنوار الإلهية والمعارف الوجدانية التي هي غاية الكمال لمرتبة الإنسان، والتي تقرِّب من الحق جل وعلا. وأنت تجد أكثر القرآن إنما جاء ليدعو الناس إلى سعادة وراء هذه السعادة الدنيوية وكمال فوق هذا الكمال الظاهر. هذا ولا بأس أن أستعين بالمقارنة والتمثيل بالأئمة الحائزين لخصال الكمال والمشهورين بأنواعها وأقول: إن العالم لا بد أن يكون في جراءة وعقل وفكر وحسن بيان مثل فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده وذل وتواضع وخشوع وصلاح فضيلة الأستاذ الشيخ الشربيني. بل أقول: إن العالم الكامل لا بد أن يكون في إقدام عمرو وحلم الأحنف وذكاء إياس وتقوى ووجدان الجُنيد وبلاغة سَحْبَان وعبد القاهر، ونحو سيبويه وفلسفة ابن سينا وفقه أبي حنيفة ... إلخ، وأقول ثالثًا: إن العالم الكامل هو من يجمع من الكمال ما جمع الغزالي أو يفوقه أو يقرب منه، وأسال الله الكريم أن يوجد بيننا علماء أقوياء كاملين يكون هذا حالهم وهكذا شأنهم إنه سميع قريب مجيب) اهـ بحروفه وغلطه وتحريفه. (المنار) هذا هو اعتقاد أحد المدرسين في الأزهر بعلماء الأزهر الذين يقول بعض الناس: إن حفظ الدين يتوقف على بقائهم على حالهم، وإن حديث الناس في مثل ما كتب هذا الشيخ الأزهري كثير، ولكن لم يتجرأ أحد على كتابة ما يعتقد أو يسمع، وطبعه ونشره بين الناس، ولهذا كان لكتابه تأثير عظيم عند خواص الناس ورجا المخلصون في حب الخير لملتهم أن يكون هذا المؤلف عضدًا عظيمًا للإصلاح ولكنه ما عتم أن زلزل رجاءهم بنبذة نشرها في بعض الجرائد اليومية عنوانها (كتاب مفتوح لأمير البلاد) خالف فيها بعض رأيه في كتاب العلم والعلماء،كُتب في بعض الجرائد ردٌّ عليه يشعر بأنه ما كتب هذا الكتاب المفتوح إلا بتأثير لا يقوى مثله على دفعه.وقد بلغنا أن من طلب منه كتابة الكتاب المفتوح هدده بمحو اسمه من ديوان العلماء والمدرسين إذا هو لم يكتب، فصدق القول؛ لأن للمهدد اتصالاً بمن يظن فيهم القدرة على المحو والإثبات، ولو ثبت على رأيه لكان خيرًا له ولو محي اسمه من المدرسين. على أن محوه لم يكن ميسورًا لأولئك المهددين. وإننا نذكر أخانا المؤلف بأن المعتقدين مثله بحاجة الأمة إلى الإصلاح الديني والعلمي كثيرون، ومنهم من هم أوسع نظرًا، وأبعد رأيًا في طريق الإصلاح، وإنما يعوزهم العزم والثبات، وعدم المبالاة بما يلاقون من المعارضة والصعوبات، فإن استطاع أن يكون كذلك؛ فليقدم ولا يخف في الحق لومة لائم، وإلا فليسكت ويسكن خيرًا له من أن يكون كبعض أصحاب الجرائد يسير يومًا على صراط المصلحين، ويومًا على طرق المعارضين.