للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر
(باب الولد من كتاب أميل القرن التاسع عشر)
(٩) من أراسم إلى هيلانة في ٢ يونيه سنة -١٨٥
لا مراء في لزوم الاستعانة بضروب السلطة المطلقة في تربية الأطفال إذا
كانوا حديثي السن جدًّا رعاية لمصلحتهم , فيؤمر الطفل منهم بالإقبال فيقبل , وبفعل
كذا فيفعل , وينهى عن الانطلاق إلى جهة كذا مع قرن هذا النهي بفعل يحول بينه
وبين الذهاب إليها فلا يذهب. مثل هذه الأوامر الصريحة التي تصدرها الأم لولدها
مع تلطيف شدتها بنغمة الصوت فيها , ومباشرة ائتماره بها بنفسها مما لا بد أن يقبل
عذرها فيه؛ لأنها إنما تخاطب بها ذاتًا مجردة من العقل. على أن الأفضل التعجيل
بالكف عن الإلزام والقسر متى صار ذلك ميسورًا.
إن قهر الطفل على الامتثال وإلزامه إطاعة الأوامر يستلزم حتمًا إخماد وجدان
الاستقلال في نفسه خصوصًا إذا طال أمد ذلك العهد، فإنه إذا كان غيره يتكلف
الحلول محله في الإرادة والحكم المطلق على الخير والشر والإنصاف والجور فأي
حاجة تبقى له في الرجوع إلى وجدانه واستفتاء قلبه , وعسى أن لا يكون هذا شأننا
مع (أميل) لأن بالحلول محله في عمله - أعني إلزامه اتباع أوامرنا - يميت فيه
قوى عزيمته الشخصية , فمن أجل أن يكون له قيمة حقيقية يجب أن يصير خيرًا
صالحًا باختياره لا رغم أنفه , وأن تكون أفعاله صادرة عن إرادته , وإني أود كثيرًا
أن يكون من صغره عارفًا بخصائصه ونقائصه ليزيد في الأولى , ويتجرد من
الثانية بتقدمه في سبيل الحياة , فعلينا إذن أن لا نتعامى من أول الأمر عن حقيقة
وظيفتنا وحدودها. فإن الطفل لا يصير صالحًا بعمل الغير , بل يكون كذلك بنفسه ,
ووظيفتنا كلها في تربيته تنحصر في إرشاده إلى استخدام وجدانه , ويجب علينا
أيضًا في سبيل إرجاعه عما يقع منه من الهفوات في سيرته أن نقنعه بمضرة
الأشياء القبيحة بما في تلك الأشياء من البراهين الذاتية على ضررها , لا بما لنا
من الحجج المتسلسلة , وإني لو أسعدني الحظ فتوليت تربية (أميل) بشخصي
لما طالبته بطاعتي فيما آمره به , بل إني متى تمكنت من مخاطبة عقله نصحته بأن
يسير على مقتضى القوانين التي تجري عليها شؤون الكون المعنوية
وحوادثه المادية.
يجري معظم الآباء مع أبنائهم على هذه الطريقة في الاستدلال وهي: اعتقد
صدق ما أقوله لك , وافعل ما آمرك به , وسأثبت لك بعد ذلك أنه هو الحق والعدل وأنا لا أسير عليها مطلقًا , بل إني أجتهد في إقناع (أميل) بأن الأمر الذي
أنصحه باتباعه أو باجتنابه هو حسن أو قبيح لا لأني أراه كذلك بل لأنه قد يكون
مفيدًا للناس أو له أو مضرًّا بهم , وكأني بك تقولين أن ذلك يقتضي أن يكون للطفل
مزايا عقلية خاصة به , فأقول: إنه لا يقتضى إلا ذوقًا كبيرًا , وبساطة كلية فيمن
يتولون تربيته وتعليمه , فليس الذي يؤثر في ذوق الأطفال السليم هو كثرة الكلام
الذي يرمى به جزافًا أو طول الشرح في القول , وإنما الذي يؤثر فيهم هو حسن
النوايا ونبل المقاصد لأنهم أقوى بصيرة مما نتوهمه بألف مرة.
الطاعة الصادرة عن حرية واختيار ترفع طبع الطفل، والإذعان الناشئ من
القسر يحطه , فللأم ومعلم المدرسة كلمة يقولونها عن الطفل العنيد العاصي
لأوامرهما وهي قولهما: (سأذللُه) والحقيقة هي أن الناشئين على طريقتنا
الفرنسوية في التربية مذللون دائمًا.
نعم قد يقال: إنه في السير عليها مصلحة للأحداث وللمجتمع الإنساني , ولكن
سائس الخيل له أيضًا أن يقول للحصان الذي يروضه: لا تجزع فإني إنما أفعل هذا
بك لمصلحتك. على أن إطلاق الترويض على الحصان أصلح من إطلاقه على
الإنسان لأن هذا الحيوان لا يخسر بترويضه باللجام والمهماز إلا حدته الوحشية ,
وأما الإنسان فإنك إذا أخذته بالقهر , وسسته بالإرغام والقسر تذهب بحب الكرامة
من نفسه وتبخس قيمته في نظره. على أن الخوف وازع ضعيف فإنه لا لص ولا
فاتك إلا وهو يرجو النجاة من العقوبة على جريمته حال ارتكابها , ولا طفل يعصي
ما يأمر به قيمه ومعلمه أو يعمل الشر إلا وهو يتخيل في نفسه مهارة في الخلاص
من تبعة ذلك , فإذا نجح في هذا ولو مرة واحدة يحمله هذا النجاح على الثقة بنفسه
في خداع القائمين بتربيته وتهذيبه ومواربتهم.
والطفل الذي يعامل بالقسوة ويؤخذ بالعقوبة يستجم قواه , ويستجن بكبره
وعناده لمقاومة حملنا عليه بسلطتنا وقوتنا.
لا شيء أسهل على الوالدين من إلقاء نير استبدادهما على عنق الطفل , كما
أنه لا شيء أصعب عليهما بعد ذلك من استرداد ما يفقدان من ثقته بهما , ومتى
شعر بأنهما يسوسانه بالهوى والاستبداد فإنه لا يخضع لهما إلا بالضغط والإلزام ,
وفي هذه الحالة ترى عليه أمارات الانقياد والطاعة , ولكنه يطوي جوانحه على
نوع من التذمر والعصيان يستره الرياء , وتترقب إرادتُه التي ترضخ لألم العقاب
بالسوط الوقتَ الملائم لاستعمال الخداع والمكر , فإن الخداع هو سلاح الضعيف
يُعده للاحتماء به من شر القوي , ولما كان عاجزًا عن الكفاح كان يبحث دائمًا عما
يخلصه من سلطة أهله.
وما أشد عجبي من خبثه واجترائه على الاختلاق في مثل هذه الحالة , فإن
كثيرًا من الأطفال لا يبلغون السابعة والثامنة من عمرهم إلا ويحاكون في المكر
والاحتيال سري بلوت [١] وإسقابيني موليير [٢] بل وفيجاور يومارشيه [٣] .
ومن عواقب القهر الوخيمة أنه يغيض ينبوع الفرح والسرور من نفوس
الأطفال , فما أشبه الطفل المحروم من حريته بفصل الربيع الذي لا تشرق فيه
الشمس. أتحسبين أن هذه العواقب تنتهي بانتهاء سن الطفولية , ولا يكون لها أثر
في مستقبل حياته؟ كلا , إنني لأعرف لأول وهلة من رؤية الرجل ما كان من
نعمته أو بؤسه في طفوليته. ترين الذين يربون بالقهر جبناء عابسي الوجوه كاسفي
البال ويكون لذلك ظلمةً في عقولهم وعصل في طباعهم. (أي: اعوجاج بصلابة) .
وأنا أسال الله سبحانه أن يحفظنا من مدعي العلم والمعلمين , فإنهم هم الذين
يفسدون أخلاق الناشئين.
((يتبع بمقال تالٍ))