للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [١]

الموضع الثالث عشر
آل البيت [٢]
نقل الناقد ما ذكر في حاشية ص ٤٣ من ذكرى المولد من القولين في تفسير
حديث زيد بن أرقم- رضي الله عنه- أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين
تحرم عليهم الصدقة، وقول غيره. هم علي وذريته من فاطمة عليهم السلام،
واستنبط من تقديمنا القول الأول وإبهام القائلين بمقابله ترجيحَه , وتعقبه بقوله:
(ولعل الصواب ما يقوله الآخرون كما حققه شيخ مشايخنا العلامة مولانا
السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين العلوي) كما قال: (إن المراد بآل
البيت في آية التطهير: علي وفاطمة والحسن والحسين) وهو قول جمهور
العلماء وأكابر أئمة الحديث المعتد بروايتهم ودرايتهم. وإن الأدلة تضافرت بذلك عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمصير إلى تفسير من أنزلت عليه متعين
(ثم بين ذلك بحديث أم سلمة المعروف في تفسير آية التطهير، وأشار إلى حديث
عائشة بمعناه , وذكر أن جميع ذرية فاطمة داخلة في ذلك إلى يوم القيامة، وأن
الأحاديث مصرحة بذلك، ومثل بحديث الجمع بين القرآن والعترة، وبحديث أهل
بيتي أمان لأهل الأرض) وجزم بأن ذلك دالٌّ قطعًا على أن هذه السلالة الطاهرة
هم أهل البيت المطهرون المرادون بكل ما ورد في فضل أهل البيت من الآيات
والأحاديث، وأنهم عدول هذه الأمة وأحد الثقلين المأمور بالتمسك بهما، قال: (وقد
أجمعت الأمة على ذلك) .
وأقول (أولاً) : إنني لم أرد بتقديم قول زيد ترجيحه، ولا بتأخير قول
الآخرين تضعيفه؛ لأنني لست بصدد ذلك, وإنما أخرت ما أخرت لأبني عليه ما
ذكرته بعده من الثناء والمناقب، وهذا سبب من أسباب التأخير معهود في أساليب
الكلام الفصيح ما كان له أن يفهم منه الترجيح , و (ثانيًا) : إن ما ذكره من
التصويب وادعى أنه هو التحقيق، وأن الأحاديث الصحيحة ناطقة به والأمة
مجمعة عليه - فيه نظر ظاهر، ولا أحب أن أعبر عنه بما دون ذلك، فالأحاديث
الصحيحة في الآل والذرية والعترة كثيرة، والخلاف فيها كثير، والمتبادر من آية
التطهير أنها في نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تعليل لما قبلها من الأوامر
والنواهي الخاصة بهن، وما بعدها خطاب لهن كالذي قبلها، فلا يمكن أن يكون هذا
التعليل أجنبيًّا في وسط الكلام، ولا يمكن أن يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم
تفسير آية بما ينافي أساليب البلاغة، فكيف بما ينافي المتبادر من اللغة؟ وقد بينت
هذا في المنار من قبل.
ولولا التعصب الذي أوقع أدق علماء اللغة وفرسان بلاغتها في الغلط أحيانًا،
لَما كان يقبل أحد له شمة من العربية أن يقول فيما نزل نصًّا قاطعًا في خطاب معين:
إنه في غير ذلك المخاطب المعين، حتى إنه يشمله بعمومه خلافًا للأصل الذي جرى
عليه جميع العلماء. قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: ٣٣) : هذا نص في دخول أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا لأنهن سبب نزول هذه الآية وسبب
النزول داخل فيه - قولاً واحدًا - إما وحده، على قول، أو مع غيره، على
الصحيح، اهـ، ويريد بالصحيح: ما جرى عليه أهل الأصول من أن العبرة بعموم
اللفظ لا بخصوص السبب، ولفظ (أهل البيت) هنا عام يدخل فيه كل منتسب إلى
ذلك البيت، ولكن المخاطب منهم في الآية نساؤه صلى الله عليه وسلم، وهُن أهل
البيت السكني المتبادر هنا، وأهل بيت الرجل وآله يطلق على بيت القرابة وعلى
أتباعه، ومنه قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} (غافر: ٤٦) وقول
عبد المطلب يوم الفيل:
وانصر على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلك

ولا يمكن أن يراد هذا الأخير من الآية لقرينة الخطاب.. ومثله (آل) القرابة
لولا ما ورد من في الحديث من إدخاله صلى الله عليه وسلم أهل العباء فيهم خبرًا أو
دعاءً, والدعاء هو الذي ثبت في الصحيح. وأما حديث أم سلمة فمضطرب المتن،
ومخالف لمنطوق الآية، وفي أسانيد طرقه كلها علل تمنع الاحتجاج به، فكيف يمكن
ترجيح مفهومه على منطوق القرآن؟ وفي حديث علي عند النسائي , وأبي هريرة
عند أبي داود مرفوعًا: (من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا آل البيت
فليقل: اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين , وذريته وأهل بيته،
كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) فقد عَطف آل البيت) على الأزواج
والذرية , والأصل في العطف المغايرة.
إنني لا أحب أن أطيل الكلام في مناقشة الناقد في هذه المسألة من عندي، بل
أستغني عن ذلك بأن أنقل له أوسع ما رأيته في تفسير آية التطهير وأجمعه لأقوال
أهل السنة والشيعة؛ ليعلم مكان ما ادعاه من اتفاق العلماء أو إجماع الأمة من
الصحة، وهو ما أورده الشهاب الآلوسي في روح المعاني تفسيرًا لقوله تعالى:
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: ٣٣) .
قال: استئناف بياني مفيد تعليل أمرهن ونهيهن، والرجس في الأصل: الشيء
القذر، وأريدَ به هنا عند كثير الذنب مجازًا، وقال السدي: الإثم , وقال الزجاج:
الفسق, وقال ابن زيد: الشيطان , وقال الحسن: الشرك , وقيل: الشك , وقيل
البخل والطمع , وقيل: الأهواء والبدع , وقيل: إن الرجس يقع على الإثم , وعلى
العذاب , وعلى النجاسة , وعلى النقائص , والمراد به هنا: ما يعم كل ذلك، ولا
يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال من الضعف , و (ال) فيه للجنس أو
للاستغراق، والمراد بالتطهير، قيل: التحلية بالتقوى، والمعنى على ما قيل:
إنما يريد الله ليذهب عنكم الذنوب والمعاصي فيما نهاكم، ويحليكم بالتقوى تحليةً
بليغةً فيما أمركم. وجوز أن يراد به الصون, والمعنى: إنما يريد سبحانه ليذهب عنكم
الرجس ويصونكم من المعاصي صونًا بليغًا فيما أمر ونهى جل شأنه، واختلف في
لام (ليُذهب) فقيل: زائدة وما بعدها في موضع المفعول به لـ (يريد) فكأنه قيل:
يريد الله إذهاب الرجس عنكم، وتطهيركم. وقيل: للتعليل. ثم اختلف هؤلاء،
فقيل: المفعول محذوف , أي: إنما يريد الله أمركم ونهيكم ليذهب، أو: إنما يريد
منكم ما يريد ليذهب، أو نحو ذلك، وقال الخليل وسيبويه ومن تابعهما: الفعل في
ذلك مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء، واللام وما بعدها خبر , أي: إنما إرادة الله
تعالى للإذهاب، على حد ما قيل في (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) فلا مفعول
للفعل. وقال الطبرسي: اللام متعلق بمحذوف تقديره: وإرادته ليذهب , وهو كما
ترى، وهذا الذي ذكروه جارٍ في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} (النساء:
٢٦) {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ} (الأنعام: ٧١) وقول الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل مكان

ونصب (أهل) على النداء، وجوز أن يكون على المدح، فيقدر: أمدح، أو
أعني، وأن يكون على الاختصاص، وهو قليل في المخاطب، ومنه: (بك
الله نرجو الفضل) وأكثر ما يكون في المتكلم كقوله:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق

و (ال) في (البيت) للعهد، وقيل: عوض عن المضاف إليه، أي: بيت
النبي صلى الله - تعالى - عليه وسلم , والظاهر أن المراد به بيت الطين والخشب،
لا بيت القرابة والنسب، وهو بيت السكنى لا المسجد النبوي كما قيل , وحينئذ
فالمراد بأهله نساؤه صلى الله - تعالى - عليه وسلم المطهرات؛ للقرائن الدالة على
ذلك من الآيات السابقة واللاحقة، مع أنه عليه الصلاة والسلام ليس له بيت يسكنه
سوى سكناهن، وروى ذلك غير واحد: أخرج ابن أبي حاتم، وابن عساكر من
طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: نزلت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} (الأحزاب: ٣٣) إلخ في نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصةً. وأخرج
ابن مردويه من طريق ابن جبير عنه ذلك بدون لفظ (خاصةً) وقال عكرمة: من
شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله - تعالى - عليه وسلم. وأخرج ابن
جرير وابن مردويه عن عكرمة أنه قال في الآية: ليس بالذي تذهبون إليه، إنما هو
نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وروى ابن جرير أيضًا أن عكرمة كان ينادي
في السوق أن قوله - تعالى -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: ٣٣) نزل في نساء النبي عليه الصلاة والسلام. وأخرج ابن سعد عن
عروة {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: ٣٣) قال: يعني أزواج
النبي صلى الله - تعالى - عليه وسلم.
وتوحيد البيت لأن بيوت الأزواج المطهرات - باعتبار الإضافة إلى النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم - بيت واحد، وجمعه فيما سبق ولحق باعتبار الإضافة
إلى الأزواج المطهرات اللاتي كن متعددات، وجمعه في قوله سبحانه الآتي إن شاء
الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} (الأحزاب:
٥٣) دفعًا لتوهم إرادة بيت زينب لو أُفرد من حيث إن سبب النزول أمر وقع فيه،
كما ستطلع عليه، إن شاء الله تعالى. وأورد ضمير جمع المذكر في (عنكم)
و (يطهركم) رعايةً للفظ الأهل، والعرب كثيرًا ما يستعملون صيغ المذكر في مثل ذلك
رعايةً للفظ، وهذا كقوله - تعالى - خطابًا لسارة امرأة الخليل - عليهما السلام -
{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (هود: ٧٣) ومنه - على ما قيل - قوله سبحانه: {فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ
نَاراً} (طه: ١٠) خطابًا من موسى عليه السلام لامرأته , ولعل اعتبار التذكير هنا
أدخل في التعظيم. وقيل: المراد هو صلى الله - تعالى - عليه وسلم، ونساؤه
المطهرات - رضي الله تعالى عنهن - وضمير جمع المذكر لتغليبه عليه الصلاة
والسلام عليهن.
وقيل: المراد بالبيت: بيت النسب، ولذا أُفرد ولم يُجمع كما في السابق
واللاحق. فقد أخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معًا
في الدلائل عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى
الله - تعالى - عليه وسلم: (إن الله - تعالى - قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما
قسمًا، فذلك قوله - تعالى -: (وَأَصْحَابُ اليَمِينِ ... وأصحاب الشمال) فأنا من
أصحاب اليمين , وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثًا فجعلني في خيرها
ثلثًا، فذلك قوله تعالى [٣] : {وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ} (الواقعة: ٩-١٠) فأنا من السابقين , وأنا خير السابقين، ثم جعل
الأثلاث قبائل , فجعلني في خيرهم قبيلة وذلك قوله - تعالى -: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) وأنا أتقى ولد آدم
وأكرمهم على الله - تعالى - ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتًا , فجعلني في خيرها
بيتًا، فذلك قوله - تعالى -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: ٣٣) أنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب) فإن
المتبادر من البيت الذي هو قسم من القبيلة البيت النَّسبَي.
واختلف في المراد بأهله، فذهب الثعلبي إلى أن المراد بهم: جميع بني هاشم
ذكورهم وإناثهم، والظاهر أنه أراد مؤمني بني هاشم , وهذا هو المراد بالآل عند
الحنفية، وقال بعض الشافعية: المراد بهم: آله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين
هم مؤمنو بني هاشم والمطلب. وذكر الراغب أن أهل البيت تعورف في أسرة
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مطلقًا , وأسرة الرجل - على ما في القاموس -
رهطه , أي: قومه وقبيلته الأدنون، وقال في موضع آخر: صار أهل البيت متعارفًا
في آله عليه الصلاة والسلام، وصح عن زيد بن أرقم في حديث أخرجه مسلم أنه قيل
له: مَن أهل بيته؟ نساؤه صلى الله - تعالى - عليه وسلم؟ فقال: لا، ايم الله إن
المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل
بيته: أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده صلى الله تعالى عليه وسلم. وفي
آخر أخرجه هو أيضًا مبين هؤلاء الذين حرموا الصدقة أنه قال: هم آل علي وآل
عقيل وآل جعفر وآل عباس.
وقال بعض الشيعة: أهل البيت - سواء أريد به بيت المدر والخشب أم بيت
القرابة والنسب - عام، أما عمومه على الثاني فظاهر, وأما على الأول؛ فلأنه
يشمل الإماء والخدم، فإن البيت المدري يسكنه هؤلاء أيضًا، وقد صح ما يدل على
أن العموم غير مراد. أخرج الترمذي والحاكم - وصححاه - وابن جرير وابن
المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة - رضي الله
عنها - قالت: في بيتي نزلت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
البَيْتِ} (الأحزاب: ٣٣) وفي البيت فاطمة، وعلي، والحسن والحسين، فجللهم
رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم بكساء كان عليه، ثم قال: (هؤلاء أهل
بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا) وجاء في بعض الروايات أنه
عليه الصلاة والسلام أخرج يده من الكساء، وأومأ بها إلى السماء وقال: (اللهم
هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا) ثلاث مرات،
وفي بعض آخر أنه عليه الصلاة والسلام ألقى عليهم كساءً فدكيًّا، ثم وضع يده
عليهم ثم قال: (اللهم إن هؤلاء أهل بيتي - وفي لفظ: آل محمد -، فاجعل
صلواتك وبركاتك على آل محمد، كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)
وجاء في رواية أخرجها الطبراني عن أم سلمة أنها قالت: فرفعت الكساء لأدخل
معهم فجذبه صلى الله عليه وسلم من يدي، وقال: (إنك على خير) وفي أخرى
رواها ابن مردويه عنها أنها قالت: ألستُ من أهل البيت؟ فقال صلى الله تعالى
عليه وسلم (إنك إلى خير، إنك من أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم)
وفي آخرها رواها الترمذي وجماعة عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي عليه
الصلاة والسلام قال: قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: (أنت على
مكانك، وإنك على خير) وأخبار إدخاله صلى الله تعالى عليه وسلم عليًّا
وفاطمةَ وابنيهما - رضي الله تعالى عنهم - تحت الكساء، وقوله عليه الصلاة
والسلام: (اللهم هؤلاء أهل بيتي) ودعاؤه لهم , وعدم إدخال أم سلمة أكثر
من أن تحصى، وهي مخصصة لعموم أهل البيت بأي معنًى كان البيت، فالمراد
بهم من شملهم الكساء، ولا يدخل فيهم أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد
صرح بعدم دخولهن من الشيعة عبد الله المشهدي , وقال: المراد من البيت: بيت
النبوة , ولا شك أن أهل البيت لغة شامل للأزواج، بل للخدام من الإماء اللائي
يسكن في البيت أيضًا , وليس المراد هذا المعنى اللغوي بهذه السعة بالاتفاق،
فالمراد به: آل العباء الذين خصصهم حديث الكساء. وقال أيضًا: إن كون البيوت
جمعًا في (بيوتكن) وإفراد البيت في (أهل البيت) يدل على أن بيوتهن غير
بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اهـ. وفيه ما ستعلمه، إن شاء الله تعالى.
وقيل: المراد بالبيت: بيت السكنى وبيت النسب , وأهل ذلك أهل كل من
البيتين، وقد سمعت ما قيل فيه، وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، وقال بعض
المحققين: المراد بالبيت: بيت السكنى وأهله - على ما يقتضيه سياق الآية وسباقها
والأخبار التي لا تحصى كثرةً، ويشهد له العرف - من له مزيد اختصاص به إما
بالسكنى فيه مع القيام بمصالحه وتدبير شأنه والاهتمام بأمره، وعدم كون الساكن
في معرض التبدل والتحول بحكم العادة الجارية من بيع وهبة كالأزواج، أو
بالسكنى فيه كذلك بدون ملاحظة القيام بالمصالح كالأولاد، أو بقرابة من صاحبه
تقضي بحسب العادة بالتردد إليه والجلوس فيه من غير طلب من صاحبه لذلك، أو
بعدم المنع من ذلك كالأولاد الذين لا يسكنونه، وكأولادهم وإن نزلوا، وكالأعمام
وأولاد الأعمام، وعلى هذا يحصل الجمع بين الأخبار، وقد سمعت بعضها كحديث
الكساء، ولا دلالة فيه على الحصر، وكالحديث الحسن: أنه صلى الله تعالى عليه
وسلم اشتمل على العباس وبنيه بملاءة، ثم قال (يا رب هذا عمي وصنو أبي،
وهؤلاء أهل بيتي، فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه) فأمَّنت أسكفة
الباب وحوائط البيت فقالت: آمين، ثلاثًا. وجاء في بعض الروايات أنه عليه
الصلاة والسلام ضم إلى أهل الكساء علي وفاطمة والحسنين - رضي الله تعالى
عنهم - وبقية بناته وأقاربه وأزواجه. وصح عن أم سلمة في بعضٍ آخر أنها قالت:
فقلت: يا رسول الله، أما أنا من أهل البيت؟ فقال: (بلى إن شاء الله تعالى)
وفي بعض آخر أيضًا أنها قالت له صلى الله تعالى عليه وسلم: (ألست من أهلك؟)
قال: (بلى) وأنه عليه الصلاة والسلام أدخلها الكساء بعد ما قضى دعاءه لهم
وقد تكرر - كما أشار إليه المحب الطبري - منه صلى الله تعالى عليه وسلم الجمع
وقوله (هؤلاء أهل بيتي) والدعاء في بيت أم سلمة وبيت فاطمة - رضي الله
تعالى عنهما - وغيرهما وبه جُمع بين اختلاف الروايات في هيئة الاجتماع، وما
جلّل صلى الله تعالى عليه وسلم به المجتمعين، وما دعا به لهم، وما أجاب به أم
سلمة، وعدم إدخالها في بعض المرات تحت الكساء، ليس لأنها ليست من أهل البيت
أصلاً , بل لظهور أنها منهم حيث كانت من الأزواج اللاتي يقتضي سياق الآية
وسباقها دخولهن فيهم بخلاف من أُدخلوا تحته - رضي الله تعالى عنهم - فإنه عليه
الصلاة والسلام لو لم يدخلهم، ويقل ما قال لتُوهم عدم دخولهم في الآية لعدم اقتضاء
سياقها وسباقها ذلك. وذكر ابن حجر على تقدير صحة بعض الروايات المختلفة
الحمل على أن النزول كان مرتين، وقد أدخل صلى الله تعالى عليه وسلم بعض من
لم يكن بينه وبينه قرابة سببية ولا نسبية في أهل البيت توسعًا وتشبيهًا، كسلمان
الفارسي - رضي الله تعالى عنه - حيث قال عليه الصلاة والسلام: (سلمان منا
أهل البيت) وجاء في رواية صحيحة أن واثلة قال: وأنا من أهلك يا رسول الله؟
فقال عليه الصلاة والسلام (وأنت من أهلي) فكان واثلة يقول: إنها لمن أرجى
ما أرجو. والخبر الدال بظاهره على أن المراد بالبيت البيت النَّسبي - أعني خبر
الحكيم الترمذي ومَن معه عن ابن عباس - يجوّز حمل البيت فيه على بيت المدر.
والحيوان ينقسم إلى رومي وزنجي - مثلاً - كما ينقسم الإنسان إليهما، على أن في
رواته من وثقه ابن معين وضعفه غيره، والجرح مقدم على التعديل.
وما روي عن زيد بن أرقم - رضي الله تعالى عنه - من نفي كون أزواجه
صلى الله - تعالى - عليه وسلم أهل بيته, وكون أهل بيته: أصله وعصبته الذين
حرموا الصدقة بعده عليه الصلاة والسلام - فالمراد بأهل البيت فيه: أهل البيت
الذين جعلهم رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم ثاني الثقلين، لا أهل البيت
بالمعنى الأعم المراد في الآية، ويشهد لهذا ما في صحيح مسلم عن يزيد بن حبان
قال: انطلقت أنا وحصين بن صبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما
جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا: رأيت رسول الله صلى
الله - تعالى - عليه وسلم , وسمعت حديثه , وغزوت معه , وصليت خلفه، لقد
لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا، حدثنا يا زيد بما سمعت من رسول الله صلى الله -
تعالى - عليه وسلم. قال: يا أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي، فنسيت
بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم، فما حدثتكم
فاقبلوا، وما لا، لا تكلفونيه. ثم قال: قام رسول الله صلى الله - تعالى - عليه
وسلم يومًا فينا خطيبًا بماء يدعى (خما) بين مكة والمدينة , فحمد الله وأثنى عليه ,
ووعظ وذكّر ثم قال: (أما بعد ألا يا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي
رسول ربي فأجيب , وإني تارك فيكم ثقلين، أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور ,
فخذوا بكتاب الله , واستمسكوا به) فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال
(وأهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي , أذكركم الله في أهل بيتي , أذكركم الله في
أهل بيتي، ثلاثًا. فقال له حصين: ومَن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل
بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة بعده, قال: ومن
هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس) الحديث. فإن الاستدراك
بعد جَعْله النساء من أهل بيته صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهر في أن الغرض: بيان
المراد بأهل البيت في الحديث الذي حدث به عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم
فيه ثاني الثقلين، فلأهل البيت إطلاقان، يدخل في أحدهما النساء ولا يدخلن في
الآخر، وبهذا يحصل الجمع بين هذا الخبر والخبر السابق المتضمن نفيه - رضي الله
تعالى عنه - كون النساء من أهل البيت، وقال بعضهم: إن ظاهر تعليله نفي كون
النساء أهل البيت بقوله: (ايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم
يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها) يقضي أن لا يكنَّ من أهل البيت مطلقًا، فلعله أراد
بقوله في الخبر السابق: (نساؤه من أهل بيته) أنساؤه؟ إلخ، بهمزة الاستفهام
الإنكاري، فيكون بمعنى: ليس نساؤه من أهل بيته كما في معظم الروايات في غير
صحيح مسلم ويكون - رضي الله تعالى - عنه ممن يرى أن نساءه عليه الصلاة
والسلام لسن من أهل البيت أصلاً، ولا يلزمنا أن ندين الله برأيه لا سيما وظاهر الآية
معنا، وكذا العرف، وحينئذ يجوز أن يكون أهل البيت الذين هم أحد الثقلين بالمعنى
الشامل للأزواج، وغيرهن من أصله وعصبته صلى الله - تعالى - عليه وسلم الذين
حرموا الصدقة بعده، ولا يضر في ذلك عدم استمرار بقاء الأزواج كما استمر بقاء
الآخرين مع الكتاب كما لا يخفى اهـ.
وأنت تعلم أن ظاهر ما صح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم (إني تارك
فيكم خليفتين - وفي رواية: ثقلين - كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض
وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) يقتضي أن النساء
المطهرات غير داخلات في أهل البيت الذين هم أحد الثقلين؛ لأن عترة الرجل كما
في الصحاح: نسله ورهطه الأدنون. و (أهل بيتي) في الحديث، الظاهر أنه بيان
له، أو بدل منه بدل كل من كل، وعلى التقديرين يكون متحدًا معه، فحيث لم تدخل
النساء في الأول لم تدخل في الثاني، وفي النهاية أن عترة النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم بنو عبد المطلب، وقيل: أهل بيته الأقربون والأبعدون منهم اهـ.
والذي رجحه القرطبي أنهم من حرمت عليهم الزكاة، وفي كون الأزواج
المطهرات كذلك خلاف، قال ابن حجر: والقول بتحريم الزكاة عليهن ضعيف، وإن
حكى ابن عبد البر الإجماع عليه فتأمل، ولا يرد على حمل أهل البيت في الآية على
المعنى الأعم ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي سعيد الخدري
قال: قال رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم: (نزلت هذه الآية في خمسة:
في وفي علي وفاطمة وحسن وحسين {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: ٣٣) إذ لا دليل فيه على الحصر، والعدد لا مفهوم له.
ولعل الاقتصار على من ذَكَر صلوات الله تعالى وسلامه عليهم؛ لأنهم أفضل من
دخل في العموم، وهذا على تقدير صحة الحديث، والذي يغلب على ظني أنه غير
صحيح، إذ لم أعهد نحو هذا في الآيات منه صلى الله تعالى عليه وسلم في شيء من
الأحاديث الصحيحة التي وقفت عليها في أسباب النزول.
وبتفسير أهل البيت بمن له مزيد اختصاص به على الوجه الذي سمعت يندفع ما
ذكره المشهدي من شموله للخدام والإماء والعبيد الذين يسكنون البيت، فإنهم في
معرض التبدل والتحول بانتقالهم من ملك إلى ملك بنحو الهبة والبيع، وليس لهم قيام
بمصالحه واهتمام بأمره وتدبير لشأنه إلا حيث يؤمرون بذلك، ونظمهم في سلك
الأزواج، ودعوى أن نسبة الجميع إلى البيت على حد واحد - مما لا يرتضيه
منصف، ولا يقول به إلا متعسف.
وقال بعض المتأخرين: إن دخولهم في العموم مما لا بأس به عند أهل السنة؛
لأن الآية عندهم لا تدل على العصمة، ولا حجر على رحمة الله عز وجل ,
ولأجل عين ألف عين تكرم، وأما أمر الجمع والإفراد، فقد سمعت ما يتعلق به ,
والظاهر على هذا القول أن التعبير بضمير جمع المذكر في (عنكم) للتغليب، وذكر
أن في (عنكم) عليه تغليبين، أحدهما: تغليب المذكر على المؤنث، وثانيهما:
تغليب المخاطب على الغائب؛ إذ غير الأزواج المطهرات من أهل البيت لم يجر لهم
ذكر فيما قبل، ولم يخاطبوا بأمر أو نهي أو غيرهما فيه، وأمر التعليل عليه ظاهر
وإن لم يكن كظهوره على القول بأن المراد بأهل البيت: الأزواج المطهرات فقط،
واعتذر المشهدي عن وقوع جملة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} (الأحزاب: ٣٣) إلخ، في
البين بأن مثله واقع في القرآن الكريم، فقد قال تعالى شأنه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} (النور: ٥٤) ثم قال
سبحانه بعد تمام الآية {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: ٤٣) فعطف
(أقيموا) على (أطيعوا) مع وقوع الفصل الكثير بينهما، وفيه أنه وقع بعد
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (النور: ٥٦) إلخ {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النور: ٥٦) فلو كان العطف على ما ذكر لزم عطف (أطيعوا) على (أطيعوا) وهو كما ترى،
سلمنا أن لا فساد في ذلك إلا أن مثل هذا الفصل ليس من محل النزاع، فإنه فصل
بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي من حيث الإعراب، وهو لا ينافي البلاغة،
وما نحن فيه - على ما ذهبوا إليه - فصل بأجنبي باعتبار موارد الآيات اللاحقة
والسابقة وإنكار منافاته للبلاغة القرآنية مكابرة لا تخفى، ومما يضحك منه الصبيان
أنه قال بعد: إن بين الآيات مغايرة إنشائية وخبرية؛ لأن آية التطهير جملة ندائية
وخبرية , وما قبلها وما بعدها من الأمر والنهي جمل إنشائية , وعطف الإنشائية على
الخبرية لا يجوز، ولعمري إنه أشبه كلام من حيث الغلط بقول بعض عوام الأعجام:
خسن وخسين دختران مغاوية، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور) اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))